Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

القيم العليا الحاكمة

د. طه العلواني

بعد معاناة طويلة دراسةً وتدريسًا في تراثنا الإسلاميّ مدة جاوزت الخمسين عامًا اتضحت نقاط كثيرة تحمل ما لم أكن أنا ولا غيري -بمن في ذلك أساتذتي- نتصور من الجوانب السلبيَّة ما يمكن اعتباره جزءًا من عوامل تخلّفنا وتراجعنا وتشكيل أزماتنا الفكريَّة، من ذلك أنَّ فقهنا اتسم بصفات؛ لعل أهمها: أنَّه فقه افتراضيّ؛ قائم على ما كان يقوله بعض العلماء: “أرأيت لو حدث كذا، أو وقع كذا”، مع أنَّ كلاًّ من القرآن الكريم والسنَّة النبويَّة المطهرة أرشد الأمَّة إلى عدم الوقوع في هذا الذي يُسمَّى فقهًا وهو مجرد فرضيَّات يفترضها الفقيه؛ فيجيب عنها ويعترض على الجواب وكأنَّها نوع من الرياضات الذهنيَّة.

لقد كانت التجربة الإسلاميَّة حتى نهاية الدولة العثمانيَّة -لوعيها بوجود مشكلة في الفقه ولدى الفقهاء- تعيِّن الفقيه سنة في القضاء وسنة أخرى في التعليم، فيُباشر في القضاء مشكلات الناس ويعرفها كما هي، فإذا ذهب إلى التعليم علَّم الناس ما اكتسبه من فقه عملي وخبرة وتجربة حياتيَّة واقعيَّة، لكنَّ هذه الظاهرة قد اختفت، وأصبح الفقيه منحصرًا في مسجده يكاد لا يعرف شيئًا عن خارج جدران المسجد، فيأخذ فقهًا موروثًا، أُنتج في واقع مغاير مختلف -نوعيًّا- عن الواقع الذي يعيش فيه، ويحاول أن يقصر ذلك الواقع المعاش الذي أنتج ذلك الفقه فيه، ومن هنا وجدنا الأقاليم الإسلاميَّة كلها تتجه نحو النظم القضائيَّة المستوردة، وتتمرد على الفقه، بل وتنقسم عليه؛ فانقسمت إلى أصالة ومعاصرة، أو تراث وحداثة، واحتدم الصراع بين هذه الفرق، فلم تستطع الأمَّة حتى يومنا هذا أن تخرج بمشروع حضاريّ موحَّد، يستطيع أن يجنِّد طاقات الأمَّة ويضعها على طريق النهوض، وها هي الأمَّة ما تزال في حالة تخبط وتراجع وتبادل للأدوار دائم بين اتجاهات المعاصرة والأصالة أو التراث والحداثة، تبدد طاقاتها في صراعات فكريَّة كان، ما كان أغناها عنها إن اجتمعت بوصفها أمَّة واستجابت للتحديات التي تواجهها بنفس الصفة.

إنَّني كلما قرأت تاريخ الأمَّة أجد أنَّ هناك أخطاءً جسيمة قد وقعت ولم يُلتفت إليها، وأنَّ المجددين وإن أطلقوا أفكارًا جزئيَّة في محاولات إصلاح الأوضاع وتجديد الحياة، إلا أنَّها محاولات كانت تنتهي في الغالب إلى نوعٍ من الفشل، بل إنَّ كثيرًا من حركات الإصلاح التي قامت في المحيط الإسلاميّ كانت تنتهي بالفشل والتراجع بعد أن تكون قد قطعت مرحلة من المراحل المبشِّرة التي ربما تحمل بعض الناس على التفاؤل، ذلك كله كان يجعلني أتساءل مثلما تساءل شوقي يرحمه الله:

بِأَيمَانِهِم نُورَان؛ ذِكْر وَسُنَّة فَمَا بَالهُم فِي حَالِكِ الظُّلُمَاتِ!

 

هجر الأمة للقرآن

ثم وقعت الأمّة فيما أعتبره الجواب، فالأمَّة قد هجرت القرآن في وقت مبكر واستعاضت عنه بالأحاديث والأخبار، ثم لم تلبث أن تجاوزت الأحاديث والأخبار كما تجاوزت القرآن وانشغلت بالفقه. وبعد ردح من الزمن تجاوزت الفقه كذلك وانغمست في التقليد واعتقلت عقولها، وتوقفت تلك العقول عن الإنتاج لإهمال أدواته ومنها الاجتهاد، فانغمست في التقليد، واعتبرت التقليد هو الأساس، فلا غرابة أن يُسلمها التقليد إلى التبعيَّة المعاصرة فتجري وراء الغرب والشرق؛ فمرة يرى الإسلام اشتراكيًّا وأحيانًا يراه رأسماليّا، وأحيانًا يكون المستبد العادل هو الحل، وفي أخرى تكون الديمقراطيَّة هي الحل، فـ«ـالأصالة» أو القائمون عليها يهربون إلى التاريخ، و«الحداثة» أو القائمون عليها يهربون تجاه الجغرافيا. وذلك كله جزء من عقليَّة التقليد التي بلغتها الأمّة، فكان لا بد من العمل على إعادة البناء من جديد، وبما أنَّ هذه الأمَّة قد بُنيت بكتاب الله، وبما أنَّها أمَّة قد اصطفاها الله لوراثة رسالة الأنبياء: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ (فاطر:32)، فإذن أي مشروع إصلاحيّ يجب أن يبدأ بكسر حالة الهجر بين الأمَّة والكتاب، بحيث يكون مصدر فكر الأمّة وإلهامها في كل شيء هو الكتاب، وفي هذا الإطار كنت أنظر إلى هذا الفقه الموروث بكل ما فيه فأجد أنَّه قد أصبح هو والتفسير والأخبار والقصص والآثار وما عرف بالعلوم الشرعيَّة أو النقليَّة بقدر ما اشتمل على جواهر قيِّمة وإيجابيَّات لا تخفى فإنَّ هناك سلبيَّات كثيرة أيضًا، حيث أصبح عبئًا على عقليَّة الأمَّة وقيدًا يحول دون هذا العقل والقدرة على الاجتهاد والإبداع ومواجهة التحديات على اختلافها وتنوعها. فكنت ألتمس مثل فعل حذيفة بن اليمان حين قال: “كان الناس يسألون رسول الله –صلّى الله عليه وسلّم- عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني …“، فكنت أتتبع السلبيَّات لأنَّني أعتقد أن أبناءنا وتراثنا لا يحتاجون إلى مزيد من الثناء والإطراء لما قدّموا، بل يحتاجون إلى مزيد من النّقد الفاحص الجريء لتلك السلبيَّات أو «الڤيروسات» التي دخلت ذلك التراث في غفلة من حرَّاسه الأمناء.

 

محاولة للعودة

لقد وجدت في كتب التفسير -دون استثناء تقريبًا- حواجز تحجز ما بين الناس والقرآن، بل وجدت في بعض أطروحات المفسرين ما يشكّل عائقًا يحول بين الناس وبين الاستنارة والاستضاءة بأنوار القرآن. فكان لا بد من الإقبال على القرآن دون وساطة المفسرين، وقد وجدت ضالتي فيما كان رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- يمارسه من منهج في التفسير، حيث كان يفسر القرآن بعضه ببعض، فالكتاب الكريم: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ (هود:1)، فكل آية من الآيات تحمل صفة إحكام أو تفصيل، فـ«ـالإحكام» هو بناء الآية بشكل محكم لا يسمح بدخول أي عيب من عيوب الكلام أو آفة من آفاته إليها. وفي هذه الحالة، وأمام ذلك البناء المصمت القوي المتين قد تخفى على بعض الناس بعض معاني تلك الآيات، فإذا أرادوا معرفتها فلينظروا في المفصَّل أو التفصيل ليجدوا ضالتهم فيه، فالقرآن يُفسّر بعضه بعضًا، وإتقان هذا الأمر ليس سهلاً، بل يحتاج إلى مكابدة ومعاناة، كما يقول أحد الصالحين: “كابدت القرآن عشرين سنة، فتنعّمت به عشرين سنة”، ذلك لأنَّ هذا النوع من التفسير الذي أسّس له رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- يقتضي أن يكون القرآن كأنَّه صفحة واحدة بين عيني المتدبِّر، تتنقل عيناه بين الآيات ذات الإحكام والآيات ذات التفصيل؛ لكي يجد دائمًا ما يسعى للوصول إليه بسهولة ويسر ودقّة، كما يتنقل قلبه ووجدانه بينها، فإذا قرأنا في سورة الفاتحة: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ*صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾ (الفاتحة:6-7) نجد تفصيل ذلك في بدايات سورة «البقرة»، فتؤكد الآية الأولى على صحّة المرجع الذي هو القرآن، وأنَّه لا ريب فيه، وأنَّه هدى للمتقين إجابة لدعاء (اهدنا الصراط المستقيم)، وتبيّن الآيات الخمس صفات وخصال الذين أنعم الله عليهم، وبذلك يتّضح صراطهم، وتبيِّن الآيتان التاليتان صراط المغضوب عليهم وهم الكفار، وتبيّن الآيات الثلاثة عشر صفات الضالين الحائرين التائهين وهم المنافقون، ثم تأتي الآية الكريمة العشرون لتوصّلنا مرة أخرى (لإياك نعبد وإياك نستعين)، وهكذا الحال في القرآن كله.

وقد كان رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- يعلِّم أصحابه ذلك، فإذا خافوا من قوله جلّ شأنه: ﴿قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (آل عمران:29) أزال مخاوفهم بقوله تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ …﴾ (البقرة:286)، وحين يشعرون بثقل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ (آل عمران:102) يُسارع رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- إلى تنبيههم إلى ضرورة الربط بينها وبين قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (التغابن:16).

أعمدة القرآن

مما سبق انطلقتُ لمحاولة معرفة عمود القرآن الكريم ومقاصده العليا الحاكمة، فلقد اكتشفت أثناء تدبّري للقرآن أنَّ لكل سورة عمودًا لا بد لنا من البحث عنه، فإذا اكتشفناه فإنَّ ذلك سيساعدنا تمامًا على الإلمام والإحاطة بكل ما اشتملت السورة عليه، وإذا كان الأمر في كل سورة هكذا فإنَّ للقرآن كله -بسوره المئة وأربعة عشر- عموده الذي تدور سوره كله حوله، فكان أن توصّلنا بفضل الله وهدايته ولطفه وعنايته إلى أنَّ أعمدة القرآن ثلاثة هي مقاصده العليا وهي:

«التوحيد»: وهو حق الله -تبارك وتعالى- على العباد.

و«التزكية»: وهي أهم مؤهلات الإنسان.

و«العمران»: وهو حق الكون المسخّر على ابنه الذي خلقه الله منه؛ ألا وهو الإنسان”([1]).

فكل ما في الحياة إنَّما هو حاصل تفاعل وجدل بين الله -تبارك وتعالى- والغيب بنوعيه: الغيب الذي اختص الله به ذاته العليَّة به؛ أي «الغيب المطلق»، والغيب الذي يتكشَّف عبر الزمان والمكان؛ ألا وهو «الغيب النسبي»؛ وبين الإنسان المستخلَف الذي عاهد الله على أن يعبده لا يشرك به شيئًا، وأن يحسن الخلافة على الأرض وفيها، وبين الكون الذي سخّره الله له وائتمنه عليه وجعله ميدان فعله وتصرفاته. إذن فـ«ـالمقاصد القرآنيَّة» منحصرة في هذه الأمور الثلاثة «التوحيد والتزكية والعمران»، وأي إخلال بأي طرف من هذه الأطراف يؤدي إلى الفساد والانحراف والضلال، فالشرك ظلم عظيم يظلم به الإنسان نفسه ويظلم به ربه، ويظلم به الكون الذي اؤتمن عليه: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (لقمان:13).

 فلا بد من «التوحيد» الخالص النقي، فهو ليس ضروريًّا لاستقامة العلاقة بين الله والإنسان، بل هو ضروري لعمران الحياة، والوفاء بالعهد الإلهي، والقيام بحق الاستخلاف، وأداء حق الأمانة التي ائتمن الله الإنسان عليها، والنجاح في اختبار الجزاء. و«التزكية» هي المؤهل الأساس للإنسان، فإذا دسّى الإنسان نفسه فإنَّ ضرر التدسية والانحراف لا يصيبه في نفسه، ولا يدمر علاقته بربه فقط، بل ينفي الفلاح عنه: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ (الشمس:9-10)، ويجعله من المفسدين ويبعده عن سبيل المصلحين، والله لا يصلح عمل المفسدين ولا يهدي القوم الظالمين، وحتى حينما يقومون بأعمال قد تُعطي في شكلها صورًا نستحسنها فإنَّها تفتقر إلى الحقيقة التي تقوم عليها؛ ولذلك قال جلّ شأنه: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا﴾ (الفرقان:23)، ﴿… مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (يونس:81) فهو: ﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ (النور:39)، فإذن مهما بلغت مؤهلات الإنسان إذا لم تصحبها «التزكية» وتنقيها وتطهرها فإنَّه لن يستطيع أن يكون من أولئك الذين يعمرون الأرض العمارة الحقيقيَّة؛ لأنَّ العمارة الحقيقيَّة لا تقوم على حالات النمو الماديّ والإعمار الماديّ، وإنَّما لا بد من ذلك مصحوبًا بالقيم والأخلاق والارتباط بالله -سبحانه وتعالى- وسلوك سبل «العمران» كما حدّدها القرآن المجيد، ودون ذلك لا يتحقق شيء، ولا تستقيم الحياة.ولقد ذكر القرآن المجيد قد حضارات كثيرة وقال: ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾ (الأنعام:6) وقوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (الروم:9). إذن لا بد من التزام القيم التي حددها الشارع الحكيم والالتزام بما أمر والانتهاء عما عنه نهى وإعلاء كلمته على كل كلمة، فذلك كله لصالح الإنسان ومهامه في هذه الأرض. وأمَّا «العمران» فهو حق الكون المستخلف أن نعمّره بإحياء مواته واستثمار خيراته، واستخراج كل ما أودع الله فيه من كنوز خلقها لنا: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (البقرة:29).

فهذه المقاصد العليا الحاكمة الثلاثة هي جماع مقاصد الحق من الخلق، وهي التي دارت حولها آيات الكتاب الكريم في سوره كلها، وعليها قامت أعمدة وحدته البنائيَّة، وبها يتم الجمع بين القراءتين، وتفعيلها أيسر بكثير من تفعيل تلك التي تعارف الفقهاء والأصوليُّون -خاصَّة المتأخرون منهم- على اعتبارها مقاصد الشريعة، وهي في الحقيقة حِكَم التشريع التي بدأ بذكرها الحكيم الترمذي؛ ليبيِّن حِكَم التشريع وفوائده؛ وليرد على أولئك الذين زعموا أنَّ كل ما أمر الله به إنَّما هو تحكُّم منه -جلّ شأنه- في عباده انطلاقًا من عقليَّات الاستلاب «اللاهوتي»، ثم تتابعت الكتابات فيها إلى أن وصلت إلى أبي إسحاق الشاطبي الذي أفرد لها أهم كتبه؛ وهما «الاعتصام» و«الموافقات»، واشتهرت «الموافقات» بأنَّها الكتاب الذي أسس فيه مؤلفه لمقاصد الشريعة، وهي في الحقيقة حِكَم تشريع؛ ولذلك لم يستطع العلماء تفعيلها لجبر ما نقص من الفقه أو لإنتاج فقه في كل عصر ملائم لذلك العصر؛ ولذلك ظلّ الفقهاء في سائر العصور يلجؤون إلى صياغة الفتاوى من فتاوى أهل العصور السابقة وفقههم، ولعل أحسن ما كانوا يقومون به هو التخريج على أصولهم.

أمَّا «المقاصد القرآنيَّة الثلاث الحاكمة» فهي مقاصد قادرة على القيام بالتصديق على كل ما أنتجه المسلمون من فقه وأصول وتفسير، والهيمنة عليه واستيعابه وتجاوزه بشكل منهجي، وهي المنظومة التي يمكن أن نجعل منها منظومة إنتاج فقهي وتوليد لمواجهة مشكلات العصور وتساؤلاتها وأسئلتها.

وحين بدأنا الكتابة في هذه المقاصد القرآنية تلقف بعض طلبة العلم تلك المقاصد على أنَّها عناوين مفرَّغة من المعاني والأفكار الضخمة والفلسفة العميقة والآثار القرآنيَّة التي كانت وراء تشكّلها بذلك الشكل، فصارت ألفاظًا متداولة مبتوتة عن كل ذلك الذي كان وراء ظهورها وتقديمها للتداول. وحينما بدأوا الكتابة فيها -لعلّه يُنسب إلى بعضهم فضل لا يستحقونه- لم يستطيعوا أن يتبيَّنوا ما نادينا به وأسسنا المقاصد لتحقيقه، فهناك مَنْ فهمها على أنَّها فضائل شرعيَّة يمكن أن تُفهم في إطار الثناء على الشريعة باهتمامها بـ«ـالتزكية والعمران» وما إلى ذلك، وبعضهم أسقطها على ما استقر في ذهنه، وجعلها من قبيل اقتراحات الإضافة إلى مقاصد المكلفين، وبعضهم نظر إليها في إطار فضائل القرآن الكريم، وما يمكن أن يقدمه للأمَّة، لكنَّهم لم يفطنوا -بصفة عامَّة- إلى الأبعاد المنهجيَّة في هذه المقاصد وإلى أهدافها الحقيقيَّة التي هي عبارة عن إعادة الناس إلى التمسّك بالكتاب والاعتصام به، وضبط حركة الحياة بمقاصده، والاستعاضة بها عما أُنتج بعيدًا عنها وخارجًا عن ملاحظتها قديمًا أو حديثًا، واتخاذها وسيلة لاستنباط الحلول من كتاب الله لأزمات الحياة ومشكلاتها، فكان على هؤلاء -بدلاً من تجاهل فلسفتها ومقاصدها، وإشغال الناس بما حولها- أن يعملوا على تعميق الإحساس بها ومعرفة أبعادها المنهجيَّة، وتجريبها وتفعيلها في الحياة المعاصرة؛ لاستنباط حلول قرآنيَّة للمشكلات الإنسانيَّة المعاصرة. وربما فطن بعض الكتَّاب الغربيِّين -الذين اطلعوا على أطروحتنا هذه- لما لم يفطن له بعض أبناء الأمَّة الذين رفعوا عقائرهم بالمناداة بها قبل أن يفهموها أو يستوعبوها أو يدركوا فلسفتها ومغازيها ومقاصدها، وويل للعالم من الجاهل، وويل لأهل الفقه ممن لا فقه له، وويل لأمَّة لا تجد مَنْ ينفي عن تراثها تحريفات المغاليين، وتأويلات المبطلين، وتفسيرات الجاحدين والجاهلين، فلعل ما رميتُ إليه وقصدته قد وصلك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

[1]  وقد قمت بتدريس مقرر كامل حول المقاصد الثلاثة لطلبة الدراسات العليا في الجامعة الإسلاميَّة العالميَّة في كوالالمبور، للفت أنظار طلابي إلى إعداد بحوثهم ودراساتهم في هذه المقاصد الثلاثة، وقد كتب بعضهم فيها على ما أذكر دراسات للماجستير وللدكتوراة لم أطلع عليها بعد. وكذلك أسسنا جامعة العلوم الإسلاميَّة والاجتماعيَّة في ليزبرج فرجيينا في الولايات المتحدة الأمريكيَّة في عام 1996، واعتبرنا فلسفتها كلها في كل ما قدمناه فيها قائمة على هذه المقاصد القرآنيَّة الثلاثة. وكان الأساتذة مسلمين وغير مسلمين يتبنون هذه المقاصد باعتبارها فلسفة تلك المؤسسة، ويشرحون للطلاب العلاقة بين هذه المقاصد والمعارف التي يقدمونها، ومنهم الأستاذ الدكتور لويس كنتوري -تقبله الله عنده، والأستاذ الدكتور سيد حسين نصر، والأستاذ الدكتور على مزروعي، والشهيدة الراحلة منى أبو الفضل، والأستاذ الدكتور التيجاني عبد القادر، والأستاذ الدكتور نصر محمد عارف، وغيرهم كثير. وكانت هذه المقاصد الثلاثة موضع نقاش في جماعة الأصالة والتقدم، وهي جماعة علميَّة تشكلت من مجموعة من الأساتذة الكاثوليك في جامعات أمريكيَّة عديدة منها جورج تاون ومن بعض المفكرين المسلمين، كنّا نريد أن نجعل منها بديلًا عن الفئات العلمانيَّة المغرقة في علمانيّتها، وكان الأساتذة الذين انتموا إلى هذه الحلقة -بمن فيهم كبار الأساتذة الكاثوليك أمثال جون آز بيزيتو، وأنطوني سلفن، ولويس كنتوري، وآخرين- لا يجدون غضاضة في اعتبار هذه المقاصد الثلاث مع تحفظ بعضهم على التوحيد دعامة يمكن أن يجتمع عالم اليوم عليها ليتجاوز الحروب وعوامل الشقاق، وليتم تجفيف منابع الاختلاف والتنازع بين البشر، وكان يجري نقاش أحيانًا حول التوحيد وتحفظهم عليه ينتهي بنوع من التسليم منهم بأنَّ ذلك ضروري لإعطاء هذه المقاصد الفاعليَّة المطلوبة لجمع كلمة البشريَّة عليها، مما فتح أذهاننا جميعًا إلى أنَّ هذه المقاصد القرآنيَّة إذا ربطت بظهور الدين وعالميَّته فإنَّها ستؤدي إلى تفاهم عالمي لعله ينتهي في نهاية الأمر إلى دخول الناس في السلم كافة.

رأي واحد على “القيم العليا الحاكمة”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *