Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

نظرات في مسألة جنوب السودان

أ.د.طه جابر العلواني

حين أُعلن استقلال «جنوب السودان» كتبت مقالتي الأولى بعنوان «وداعًا لك جنوب السودان»، وقد كان لي شيء من أمل أن يطّلع على تلك الرسالة السيد/عمر البشير والسيد نائبه -الإسلاميّ حتى النخاع- علي عثمان طه، وبقيّة السادة من الحاكمين، وهم جميعًا من دوائر إسلاميَّة أو دوائر لها في الحركة الإسلاميَّة السودانيَّة نصيب أو صلة، قلّت أو كثرت، وكنت ذا أمل مرجو بأن تلتفت أنظار هؤلاء إلى ما ارتكبوا في حق العرب والمسلمين والأفارقة والسودان من أخطاء تبلغ مستوى الجرائم شرعًا ودينًا وأخلاقًا وسياسة، وأن أجد من بين هؤلاء مَنْ يثوب إلى رشده ويستغفر الله عمَّا شارك فيه، ويعتزل العمل السياسيّ الذي أدى إلى كارثة تمزيق البلد الواحد، الذي كنَّا ولا نزال نعتبره بوابة العرب والمسلمين إلى أفريقيا ومدخلها الصلب الدائم، ولكنَّ الأمل المرجو قد خاب آمله، ويبدو أنَّ سحر السلطة والتشبث بها وشهوة التربع على كراسي السلطة أقوى من كل الشهوات الموجودة. وأذكر أنَّني كنت ذات يوم في مؤتمر من المؤتمرات ووجدت الناس يصطرعون على الإمساك بالميكروفون للكلام، فعقّبت متضاحكًا: “لم أكن أعلم أنَّ شهوة الكلام قد تستبد بالإنسان بحيث تصبح أكثر الشهوات قوة وعرامة وإغراء…!”.

واليوم وأنا أرى هؤلاء الذين أجرموا بحق أفريقيا وبحق الإسلام فيها وهددوا وجوده فيها وفي مصر، وأجرموا بحق السودان ووحدته، وهددوا السودان ومصر بالعطش، وأدخلوا إسرائيل من أوسع الأبواب إلى السودان الجنوبيّ بسياساتهم الخرقاء الرعناء، وجعلوا منها دولة سودانيَّة تستقر في جنوب السودان؛ لتمارس نشاطها انطلاقًا إلى أفريقا كلها. كنت أظن -واهمًا- أنَّ لدى هؤلاء بقيَّة من عقل وغُلالة من خلق وأثارة من دين تدفعهم إلى التكفير عن أخطائهم تلك، فيعملون على إبقاء المشاعر والعواطف والوشائج والعلاقات بين الجنوب والشمال، ويحولوا بكل الوسائل دون سقوط هذا الجزء العزيز من بلاد المسلمين سقوطًا نهائيًّا في أحضان إسرائيل والمصالح الصهيونيَّة والاستعماريَّة في أفريقيا والعالم الإسلاميّ، كان المنطق يقضي بأن تظل العقول والقلوب والصدور الشماليَّة مفتوحة للجنوبيّين، وأن يتدارس هؤلاء ويراجعوا أخطاءهم السياسيَّة والفكريَّة، ويخرجوا بخطة جديدة يمكن أن يكون عنوانها «خطة التوبة والتراجع»، بحيث يجعلون مما حدث كأنَّه شيء لم يحدث إلا على مستوى الورق والأمور الشكليَّة، أمَّا المحبة والمشاعر والإحساس بوحدة البلد واعتقاد ضرورته لكل من الشمال والجنوب فهي الأمور الطبيعيَّة الحاكمة للعلاقة بين الشطرين الشماليّ والجنوبيّ، وأن يُحرّما على وسائل الإعلام والأجهزة الرسميَّة ورجال الحكومة استعمال كلمة «دولة الجنوب»، ويستمروا جميعًا بالإشارة إلى الجنوب جغرافيًّا لا أكثر، دون أي تكريس لهذا اللقب المخزي لهم دون غيرهم على المستوى السياسيّ والثقافيّ والاجتماعيّ والإعلاميّ.

 وفجأة وجدنا رأس النظام ومَنْ حوله يسارعون في اتخاذ كل ما يلزم وما لا يلزم لجعل ذلك الانفصال حقيقة واقعة مُرّة، رغم ما اكتشفوه من أخطاء في اتفاقيّة «نيفاشا» والتي كانت كافية بأن تطيح بالنظام كلّه لتُبقي على العلاقات بين البلد الواحد، ولكن من الواضح أن القوم قد استمرؤوا -كصبيان سياسيّين- ما حدث وتشبثوا به، وزادوا الطين بلة بأن ساعدوا في ترحيل كل أبناء الجنوب بطريقة لم تخلُ من المرارة بدلًا من أن يكرموهم ويجعلوهم على قناعة تامة بأنَّ هذا الشطر من السودان بلدهم وإليه مردهم، فمَنْ أحب المقامة فيه فهو بلده ومَنْ أحب الذهاب إلى الجنوب فإنَّ باب العودة مفتوح، وبدلاً من أن يعملوا على دعم جميع القوى والأفراد والمنظمات والمؤسسات التي تنتمي إلى قبائل جنوبيًّة أو إلى قوى جنوبيَّة تحمل هذه القناعة، وتكون نواة لإعادة الوحدة بين الشطرين في وقت مناسب، لكنَّ «الولدنة السياسيَّة» لدى هؤلاء حملتهم على اتخاذ إجراءات وإصدار قرارات ومشاريع قوانين وقوانين تكرّس الانفصال وتزيد في بُعد الشقة على المستوى الاجتماعيّ والثقافيّ بين الشطرين، ثم بلغ بهم الغباء السياسيّ أن يثيروا مشكلة نقل البترول الجنوبيّ الذي اعتبر جنوبيًّا وهو ملك السودان كله والسودانيّين جميعًا، وأنَّ على الجنوبيّين أن يدفعوا حقوق مرور تافهة لمرور ذلك البترول في أراضٍ شماليَّة وتصديره من موانئ شماليَّة، ولو كان فيهم رجل رشيد لاستمرّوا في التعامل مع البترول على أنَّه ثروة مشتركة، ولأحبطوا كل محاولة لسلفاكير والانفصاليّين للاستبداد بالبترول وقطع كل صلة له بالشمال، لكنَّ عشق الكراسي يجعل صبيان السياسة يتشبثون بأيَّة زاوية تتسع لكراسيهم وتمنحهم غرف مكاتب فارهة وغرف اجتماعات فخمة وسيارات مرسيدس سوداء، فإذا حصل أحدهم على هذه الألعاب الزائلة فكأنَّما حيزت له الدنيا بحذافيرها، وقد يبالغ في خداع نفسه، فيزعم أنَّ انفصال الجنوب عنه قد كان خيرًا، فهو إذا خسر الجنوب وأهله وموارده وخسر وحدة البلاد فقد ربح المشير وما يسميه بـ«ـالنظام العقابي» في الشريعة الإسلاميَّة، وبينه وبين الشريعة بعد المشرقين.

لست أدري كيف تصمّ الجامعة العربيَّة آذانها عن تقطيع أواصر شعب مثل شعبنا في السودان؟! وكيف تصم منظمة المؤتمر الإسلاميّ آذانها عن تلك الجريمة النكراء؟ فإنَّني مع تعاطفي الشديد وكثرة بكائي على ما يجري في سوريّا من إراقة وسفك للدماء الطاهرة لأهلينا هناك على يدي أبغض دكتاتوريَّة استبدت في بلاد الشام. إنَّني أجد أنَّ ما جرى ويجري في السودان لا يقل خطورة في الحال وفي المال عن تلك الجرائم التي تحدث في بلاد الشام. كم كنت أتمنى لو أنَّ البلدان المحيطة بالسودان -وفي مقدمتها وعلى رأسها مصر العزيزة والسعوديَّة بلاد الحرمين ومن ورائهما ليبيا وغيرها- تدرك أنَّ الأيام التي نشهدها الآن في جنوب السودان بقيادة صبيان السياسة في شماله سوف تؤدي إلى تقديم وطن بديل لإسرائيل، أو وطن رديف في القارة الأفريقيَّة. صحيح لقد عرض على الحركة الصهيونيَّة أن تتخذ من يوغندا وطنًا قوميًّا ليهود، لكنَّها فضّلت فلسطين لأنَّ فلسطين فيها جانب دينيّ يمكن أن يشكّل الدوافع في الضمير اليهوديّ للعمل على إقامة الدولة والكيان. لكنَّه، وقد قامت الدولة في فلسطين واستقرت على أراضيها وتحددت معالم هُوِيَّتها، فإنَّها تبحث اليوم عن مناطق النفوذ والمناطق التي يمكن استلحاقها عند الحاجة أو توظيف نفوذها فيها كما لو كانت جزءًا من الوطن اليهوديّ أو امتدادًا له، فمتى يستفيق قومي؟ ومتى يعلمون؟

إنَّني أعلم أنَّ إخواننا السودانيّين بطبيعتهم يحملون من الاهتمام بالسياسة القدر الكبير، فالسياسة -أحيانًا- تُنَافِس لدى السودانيّ الرغبة في الطعام وفي الشراب، فما لي أراهم ساهين وبلادهم تُمزّق، ومستقبلهم يُهدد، وسوداننا جميعًا على كف عفريت، لقد بلغ السيل الزبى، وآن لأهل السودان وشبابها وعقلائها وحكمائها أن يضعوا لأخطاء ومساوئ الحكم القائم حدًّا؛ ذاك الحكم الذي فرّط بوحدة السودان وهدد مستقبل الإسلام في أفريقا وفي مصر وغيرها، وذلك قبل أن يعض الجميعُ أصابعَ الندم ولات حين مندم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *