Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

مراحل نشأة وتطور الخطاب الإسلاميّ

بقلم د: طه جابر العلواني

المرحلة الأولى: الخطاب النبوي

كان الخطاب النبوي خطابًا متماهيا مع القرآن الكريم، وقد ربّى رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلَّم- أصحابه على هذا، فكان لهذه التربية كبير الأثر في نفوسهم فكان الخطاب ينطلق من نفسيّة وعقليَّة قائمة على الشعور بالرسالة والابتعاث. فهذا ربعي بن عامر جعلته هذه التربية يقف أمام الفرس قائلا لهم: “إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”

المرحلة الثانية: بعد وفاة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلَّم

 وهي مرحلة مرت بفترة القلق الطبيعي الذي يترتب على فقدان الأمم  للأنبياء والمرسلين أو الزعامات التاريخيَّة. هذه الحالة تكون حالة اضطراب شديد وفراغ كبير يحاول الناس ملأه بوسائل عديدة ومتنوعة وتبقى فئات كثيرة تشعر بأنَّ الفراغ لايزال قائمًا رغم كل المحاولات، خاصَّة عندما يكون من فقد نبيًّا رسولًا بشرًا صنع أمَّة بعد أن لم تكن شيئًا مذكورًا.  فكان لابد  في هذه الحالة أن يتخذ الخطاب منحى آخر؛ ولذلك وجدنا الصحابة والتابعين يعملون على سد ذلك الفراغ الذي تركه رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلَّم- بكل ما أوتوا من قوة، لكنَّ الفراغ كان أوسع من جميع محاولاتهم.  وكما في الحديث: حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا عفان ثنا جعفر بن سليمان ثنا ثابت عن أنس قال : لما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة أضاء منها كل شيء فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء وقال ما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا([1]).

حاول الصدِّيق والفاروق وكبار المهاجرين والأنصار ملأ فراغ القيادة الجامعة التي تجتمع عليها كلمة الأمَّة فتحافظ على وحدتها وتحول دون تفرقها فكانت الخلافة على منهاج النبوّة هي الوسيلة الأساسيَّة وبذلك تم تنصيب أبي بكر خليفة، لكنَّ الناس لم يشعروا بذلك حيث إنَّ المرتدين أعلنوا أنَّ هناك شيئًا مفقودًا في شخصيَّة الخليفة الصدِّيق وهو الجانب الروحي والغيـبي فأبو بكر الصدِّيق لا يتنـزل عليه وحي كما كان يتنـزل الوحي على رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلَّم- ، وأبو بكر الصديق إذا دعا لهم أو صلى عليهم فلا تكون آثار صلاته ودعائه مثل آثار دعاء وصلاة رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلَّم- التي نصَّ القرآن الكريم على أنَّها سكن لهم؛ ولذلك فقد رفضوا طاعة أبي بكر والبقاء في إطار الأمَّة في ظل قيادته محتجين بذلك، وحاول فريق آخر من الصحابة ملأ الفراغ بنقل كل ما أثر عن رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلَّم- فكان المحدثون وأصحاب السير منهم يروون كل ما شاهدوا أو سمعوا من رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلَّم- ويقدمونه للناس، وكأنَّهم يريدون أن يقولوا لهم إنَّنا بهذه الروايات سنجعلكم وكأنَّكم تعيشون عصر رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلَّم- وكأنَّه لم يفارق الحياة بعد.

 المرحلة الثالثة:

وانقرض عصر الصحابة والخطاب ما زال عنصره الأساس هو القرآن الكريم والإحساس بأنَّ الأمَّة خيّرة وسط شاهدة على الناس تحمل رسالة خالدة، تريد إيصالها إلى الخلق كافّة فهي وصيَّة الله فيهم وتراث رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلَّم- بينهم. واستمر الحال حتى سنة (40هـ) حين أصبح صغار الصحابة وكبار التابعين كهولًا، ودخلت أمم جديدة إلى رحاب الإسلام جاءت من خلفيَّات سادت فيها نظم مختلفة مثل الفرس والروم والهنود ومن إليهم من الشعوب الأميَّة. وبطبيعة تلك النظم التي عرفها الداخلون الجدد في الإسلام كانت القوانين والشرائع والأحكام لديهم تأخذ أولويَّة في أنظار هؤلاء، فبدأت تظهر اتجاهات فقهيَّة في الخطاب الإسلاميّ دخلت في مجال الأحكام وبدأت إشكاليَّات وأسئلة أهل البلاد المفتوحة تفرض نفسها على من بقي من قرَّاء الصحابة وكبار التابعين ليظهر اتجاه الفقه والأحكام التشريعيَّة في ذلك الخطاب. وهنا حاول عمر بن عبد العزيز أن يوجد للسنن وظيفة أخرى غير وظيفة سد الفراغ الذي تركه النبيّ –صلى الله عليه وآله وسلَّم- فأمر بجمعها مع آثار الصحابة والتابعين لتكون بديلًا عن الفقه الذي بدأ ينتشر ويسيطر على الساحة الفكريَّة الإسلاميَّة. وبدأ الناس يختلفون فيه وحوله فكأنَّه أراد توحيد الأمَّة على السنن النبويَّة بدلًا من أن يتركها نهبًا للخطاب الفقهيّ، فأمر بجمع السنن وإتاحتها للأمَّة، لكنَّه لم يستطع أن يوقف آثار الفقه في الخطاب؛ ثم برز الاختلاف بين المسلمين وكان سابقًا لعمر بن عبد العزيز كما هو معروف لأنَّه ترتب على الفتنة الكبرى وما تلاها؛ ليدخل للخطاب بعد الفرقة الجانب الكلامي فيكون للشيعة خطابهم وللمرجئة وللسنة خطابهم إلى أن تتابعت الفرق وكثرت فصار الاختلاف الكلاميّ والفرقيّ عنصرًا أساسًا في الخطاب الداخليّ، ولم يعد الخطاب القرآنيّ في الساحة الإسلاميَّة هو الخطاب السائد أو الكليّ. بل زاحمه في ذلك الجانب الكلاميّ والجانب الفقهيّ، فصار الخطاب مركبًا ومعبرًا عما يدور ويعتمل في الساحة الداخليَّة من قضايا.

المرحلة الرابعة:

ثم برز أثر الفرقة السياسيَّة والكلاميَّة في إطارين؛ الإطار الأول: إطار حصر نقاء الخطاب القرآنيّ والتشريعيّ والفقهيّ في الجانب القضائيّ، وإعطاء الجانب السياسيّ مرونة أوسع باقتباس نظم وأشكال وهياكل من الدول التي كانت سائدة في تلك الفترة أو الدول التي اطلع المسلمون على تراثها فأخذوا يقتبسون منه في الجانب السياسيّ. والإطار الثاني: حيث انتقل الخطاب بكل هذه التأثيرات والعوامل إلى الساحة المعرفيَّة والثقافيَّة ليتحول إلى شقين: أ) شق عرف بأنَّه خطاب أهل السيف وهم الساسة، وشق عرف بأنَّه خطاب أهل القلم وهم العلماء والفقهاء، وكان ذلك أثرًا ارتبط بجذور متقدمة سابقة، وبذور بذرت من قبل عندما انفكت القيادة السياسيَّة عن القيادة العلميَّة في العهد الأمويّ بعد سقوط الخلافة الراشدة وتسلم الأمويّين زمام الأمور.

ولم يحافظ الخطاب الفقهيّ والكلاميّ على تلك البذور والجذور. بل انفك إلى ساحتين، ساحة عرفت بساحة أهل الرأي، وأخرى عرفت بأهل الحديث فكأنَّ الانقسامات لم تقتصر على التأثير السياسيّ والقضائيّ بل امتدت إلى البنية الثقافيَّة والفكريَّة. وإذا كانت أفكار أهل الرأي بدأت في بادئ الأمر بدايات بسيطة، فإنَّها قد انتهت إلى قيام طائفة كان لها تأثيرها في الجوانب الثقافيَّة والسياسيَّة والفقهيَّة والكلاميَّة ألا وهي طائفة أهل العدل والتوحيد كما كانت تسمي نفسها أو المعتزلة كما سماها خصومها يقابلهم أهل الحديث أو أهل السنَّة والجماعة. وهنا بدأ الخطاب يتلقى تأثيرات تجعله مُطَعّمًا بعقلانيَّة ذات حدود معينة، يقابله خطاب سلفيّ يعمل على تكريس مرجعيَّة القرون الثلاثة الأولى ومن الصعب وقد بلغت الانقسامات هذا المستوى أن نسميه خطابًا واحدًا أو نشرك بين أنواعه إلا إذا نظرنا إليه باعتباره خطابًا دائرًا في كيان اجتماعيّ ما يزال موحدًا في عناصره الأساسيَّة.

 وهنا نجد في الحالة السياسيَّة خطابًا أخذ شكل الخطاب الأسريّ، فهو خطاب أسريّ يقدم علويّين على أمويّين أو عباسيّين على علويّين وأمويّين أو عكس ذلك، لكنَّه في سائر الأحوال لا يخرج عن الإطار العائليّ وما يتسم به أو قد يدل عليه من تشرذم وتضاؤل في مجال الانتماء إلى الأمَّة وملاحظة القيم بل على إعلاء لمجال القبيلة. ويمكن أن نعتبر تلك القبائل أو الأسر هي البديل القديم للأحزاب المعاصرة أو أنَّ الأحزاب المعاصرة مثلت أسريَّة أو قبائليَّة مبطنة بشكل من الأشكال حتى إذا بدأت الحروب الصليبيَّة، واستفحلت واحتل بيت المقدس أضيف للخطاب البعد الجهاديّ الذي لم يكن غائبًا لكنَّه كان موجودًا بسمات وخصائص أخرى أبرزها الجهاد من أجل تحرير الآخرين وحماية المستضعفين. حيث لم يكن هناك عدو خارجيّ نغزوه في دياره لأنَّ العدو صار داخل دار الإسلام هو من يغزو وهو من يجوس خلال الديار، كما أنَّ الأمر دخلت فيه عمليات الإصلاح الداخليّ حيث ارتبط وقوع الكوارث ومنها انتصار غير المسلمين عليهم في العقل المسلم بانحرافات في التديُّن تجعل مما حدث وكأنَّه عقاب أو انتقام من الله –جل شأنه- تسببت فيه انحرافات الناس حيث قال –جل شأنه: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (الروم:41) وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (الأنفال:53) فكان هناك من يرى أنَّ الهزائم والمصائب إنَّما تحدث نتيجة الانحرافات الشخصيَّة أو الفرديَّة وأنَّها عقوبة إلهيَّة معجلة سابقة للعذاب الأكبر، فبرز اتجاه إصلاحيّ داخليّ هو الذي نفسر به عمليَّة التحول التي قادها صلاح الدين في مصر لتغيير الاتجاه الفاطميّ الشيعيّ الذي كان مسيطرًا وسائدًا  واستبدال ذلك بالمذهب الشافعيّ السنيّ. وكذلك فعل آل زنكي من قبل فصارت عمليَّة الإصلاح المذهبيّ والفكريّ والتحول من البدع إلى السنن بحسب الاجتهادات والمفاهيم جزءًا من الخطاب الداخليّ الإسلاميّ.

وحين قامت الدولة الصفويَّة في إيران قامت بإجبار الإيرانيّين الحنفيَّة –آنذاك- الذين تأثروا بالغزنويّين بالتحول من المذهب الحنفيّ إلى المذهب الشيعيّ. وبذلك يبرز خطاب مذهبيّ أو طائفيّ يدعو إلى تغيير الطائفة أو المذهب بالنظر إلى قضية السنَّة والبدعة وقد يستعمل السلطة لفرض مذهب بدل مذهب، وإحلال طائفة محل طائفة أخرى.

ونستطيع القول بأنَّ هناك جدليَّة بين الخطاب والانتماء برزت آثارها في تلك الخطابات الطائفيَّة والمذهبيَّة. وفي كل ذلك كنا نجد غفلة ظاهرة عن الخطاب القرآنيّ وخصائصه وتجاوزًا له؛ ولذلك فحين برز العدو المغوليّ التتريّ برز والأمَّة في حالة من التمزق والاختلاف والترهل، جعلتها بمثابة بنيان آيل إلى السقوط، لا يحتاج إلاّ إلى جهد يسير لهدمه وإسقاطه، وذلك ما قام به التتار في غزواتهم التي أدت إلى إسقاط خلافة بني العباس واحتلال بغداد وحواضر إسلاميَّة أخرى.

المرحلة الخامسة:

 نستطيع أن نقول إنَّ المرحلة الخامسة التي مر بها الخطاب هي مرحلة ساد فيها التقليد، واتباع الآباء والمتقدمين، والوقوف عند ما بلغوه وتكراره والنسج على منواله في سائر القضايا ومنها: قضايا الخطاب، حيث كان يؤكد باستمرار على أنَّ ما مضى خير مما هو موجود وأفضل، ومن العسير أن يصاغ خطاب في إطار عقليَّة تقليد، أو أن يعاد بناء الخطاب القرآني من عقليات مردت على التقليد. فساد خطاب نستطيع أن نسميه خطاب المحافظة على البقيَّة التي تركها التتار ولم تدمرها أيديهم من تراث المتقدمين ومحاولة جمعه وترميمه، وتكريس وسائل حمايته وتعظيم الآباء الذين تركوه، وجعله أهم وسيلة للنهوض والتجديد. وكان ذلك خطأ فادحًا لافتقاره إلى العقليَّة الاجتهاديَّة القادرة على التعامل مع القرآن الكريم، والاهتداء به واقتباس أنواره في صياغة مشروع البناء والتجديد.

فحين قامت الدولة العثمانيَّة (27 يوليو1299م) بلملمة أقاليم وأطراف ما بقي من دار الإسلام وأقطاره ومنها البلاد العربيَّة في تواريخ متفاوته([2])، كانت تلك الأقاليم والأقطار في أشد حالات الانهيار والتمزق، بعد تعرضها لسلاسل من الحروب الشديدة المتواصلة التي شنها عليها الصليبيّون لمدة قرنين من الزمان وأكثر. وقبل أن تضع تلك الحروب أوزارها في سائر تلك الأقاليم بدأت هجمات التتار المدمرة تجتاح تلك الأقطار وتجوس خلال الديار ما تركت شيئًا أتت عليه إلا جعلته كالرميم، حتى انتهت تلك الحروب بسقوط بغداد بأيدي التتار عام (656هـ = 1258م).

 كانت الدولة العثمانيَّة أول فترة قيامها قويَّة فتيَّة ذات صلابة وبداوة جعلت منها تهديدًا مباشرًا لأوروبا وخطابها -لم تكن أوروبا قد عُرفت آنذاك باعتبارها قارة أوروبا أو أنَّها كيان متكامل لما يعرف الآن بالمجموعة الأوروبيَّة- وقد أطلقت تلك الأقطار التي تشكِّل أوروبا الحديثة الآن على ذلك التهديد المتوقع من الدولة العثمانيَّة مصطلح “المسألة الشرقيَّة” تريد بذلك التهديد القادم من الشرق. لقد كانت الدولة العثمانيَّة تحقق الانتصار بعد الآخر حتى احتلت ڤينا في وسط أوروبا (1683) مما زاد في مشاعر الخوف لدى الأوروبيّين، لكنَّها في الوقت نفسه كانت دولة عسكريَّة لا تحمل مشروعًا فكريًّا وثقافيًّا وحضاريًّا كاملًا تتقدم به إلى عالم الأمس بحيث يكون ذلك المشروع بسائر جوانبه معززًا لمشاريع الفتح التي تقوم بها ومسوغًا لها من ناحية أخرى، ومساعدًا على التمكين لها وكسب أنصار لمشروعها من أصحاب البلدان المفتوحة؛ فبقيت بذلك الفجوة بينها وبين أهل البلدان المفتوحة تتزايد يومًا بعد آخر، وبقيت روح العداء في تلك الأقطار تنمو يومًا بعد يوم، وتجعل تلك الشعوب تنظر إليها نظرة صاحب مشروع مفيد لها ونافع من بعض الجوانب، بل تأكد لدى تلك الشعوب أنَّها فاتح غاز قادم لينتصر لدين آخر ويستذل مخالفيه بشكل أو بآخر؛ لذلك بقيت تلك الشعوب تتحفز للتحرر من هذا الغازي والانتقام منه حتى انتهت بتفكك الدولة العثمانيَّة.

يمكن أن يقال إنَّ الخطاب الإسلاميّ في الدولة العثمانيَّة كان خطابا عسكريًّا يستهدف إبراز قوة الدولة وقدرتها على مواجهة خصومها اجتمعوا أو تفرقوا، وفي الوقت نفسه كان في داخله خطابًا موحدًا يؤمن بوحدة الأمَّة الإسلاميَّة. كما قامت بتجميع ما بقي وضمه إليها، فنجحت في إقامة دولة مهابة وبناء جيوش قادرة على القتال وفرض الهيبة، ولو بدون المشروع التحريري الذي حمله القرآن إلى الناس أو به. ولكن بفهم آخر غير الفهم الذي كان سائدًا في جيل التلقي، لكنَّ فتوى العلماء بعدم وجوب استعمال العربيَّة ساعد فيما بعد على إضفاء شيء من المسحة القوميَّة التركيَّة على ذلك الخطاب، وأبرز الفراغ الذي نجم عن عدم تبنّي مشروع حضاريّ كامل فكريًّا وثقافيًّا ومعرفيًّا من قبل تلك الدولة، وبمثل ما فقدت القدرة على إقناع أهل البلدان المفتوحة بأنَّها دولة تحرير بدأت المشاعر العدائيَّة داخلها تتشكل حول الاتجاهات القوميَّة وتبرزها وتثيرها إلى أن انتهت بتفكك الدولة وفشل مشروعها كله، وحمل بعض القوميَّات إلى التعاون مع الأجنبيّ المفارق دينًا وقوميّة ضدها لتتمكن أوروبا التي كانت مهددة بأنّ تحول مصطلح المسألة الشرقيَّة من التهديد العثمانيّ لأوروبا إلى خطة تقاسم الأوربيّين دولة وتركة الرجل المريض التي أطلقوها على الدولة العثمانيَّة، كان نصيب البلاد العربيَّة بعد أن طمع العرب في إقامة خلافة عربيَّة تخلف الدولة العثمانيَّة في قيادة المسلمين، إذا بفرنسا وبريطانيا يمزقان ذلك الأمل لتقام الدول الإقليميَّة ويقوم النظام العربيّ الجديد الذي ما يزال قائمًا إلى هذا اليوم. ومن ثمَّ يتحول الخطاب إلى خطاب الاستقلال والتحرر من الاستعمار والجهاد ضده عبر القرن الماضي، مع قبول الأكثرين لمشروع الاستعمار الفكريّ والثقافيّ، واعتباره خطاب تقدم وحداثة وديمقراطيَّة، لتأتي مرحلة أخرى يتشكل فيها خطاب جديد في عالمنا العربيّ خاصَّة يقوم على أركان الاستقلال وتدعيم الاستقلال والتحرر من الاستعمار والالتحاق بركب الدول المتقدمة والتخلص من حالة التخلف، وذلك بتبني المشروع الفكريّ والثقافيّ والمعرفيّ للغازي الأوروبيّ وحلفائه. وعرفت جل الأسئلة التي كانت تدور في هذا الوسط بسؤال النهضة والتقدم، ولعل كتاب شكيب أرسلان الذي صدر في الثلاثينيات من القرن الماضي لخص معالم ذلك الخطاب بالعنوان الذي وضعه شكيب له وهو “لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟” علمًا بأنَّ مقاييس التقدم والتخلف هي مقاييس وضعها الغربيّ المتقدم نفسه، وأن القياس كان يتم إليه وبه.

الآن…

وحين ننظر في مفاصل الخطاب اليوم نجده ما زال خطابًا سمته الأساسيَّة التقليد والتبعيَّة والبعد عن الإبداع والابتكار والإحالة إلى الآخر الجغرافيّ أو التاريخيّ، فكيف يمكن الخروج من هذه الحالة وتجاوز حالة التقليد إلى حالة الإبداع والاجتهاد والتجديد ونبذ التقليد؟ خاصَّة بعد فشل سائر محاولات تطبيق ذلك الخطاب في الداخل والخارج، بدليل استمرار حالات التراجع والخسارة، فبعد قيام إسرائيل على الأرض الفلسطينيَّة ظن الكثيرون أنَّ تلك الهزيمة هي آخر الهزائم وأنَّ العرب والمسلمين لن يمنوا بهزيمة أكبر منها بل إنَّهم سوف يستردون فلسطين المفقودة في سنوات قلائل، ظن بعضهم ارتباطها بسقوط بعض الحاكمين، وربطها البعض بسقوط بعض الأفكار وانتشار أفكار أخرى وربطها بعضهم بإصلاحيَّات إداريَّة واقتصاديَّة وتشكلت خطابات جزئيَّة كثيرة في ذلك الإطار؛ ولذلك فإنَّ كل تلك الخطابات لم تحقق نجاحات تذكر في مجال إعادة بناء الشخصيَّة الإسلاميَّة عقليًّا ونفسيًّا باعتبارها الشرط الأول والأساس لإعادة بناء الأمَّة، ولم تستطع الخطابات المعاصرة على تنوعها الإجابة على سؤال النهضة لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ كما لم تستطع أن تجيب عن سؤال الإصلاح والتجديد والإحياء والاجتهاد.

وبقيت أسئلة الأصالة والمعاصرة تتأرجح دون إجابات، أو تحظى بإجابات ناقصة أو قاصرة أو غير شافية في الحد الأدنى، وتفاجئنا الأحداث التي ما زلنا نحياها ونحن في هذه الحالة، فما هو الخطاب المطلوب؟

[1]  تعليق شعيب الأرنؤوط : إسناده قوي على شرط مسلم رجاله ثقات رجال الشيخين غير جعفر بن سليمان – وهو الضبعي – فمن رجال مسلم. وانظر (12234). 

[2] حيث فتح العثمانين بغداد في (941هـ = 1534م) والجزائر وتونس في (942هـ = 1535م)، وفتحت أيضا عدن وزبيد عام (945هـ = 1538م)، وفتحت البصرة ومسقط وهرمز وامتد نفوذ العثمانيين إلى الإحساء عام(963هـ = 1555م).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *