د.طه العلواني
لقد اشتد الحديث عن قضية الخطاب الدينى بعد الثمانينيات من القرن الماضي، خاصة بعد ظهور الحركات الجهادية وما انبثق عن بعضها مما شاعت تسميته بالعمليات الاستشهادية فى بعض الأوساط أو الفدائية والانتحارية فى أوساط أخرى. لقد بنت الحضارة المعاصرة كثيرًا من أمجادها، وأسّست ثقافة عرفت بـ (ثقافة الانتصار للحياة) والدعوة إلى الاستمتاع بها، وقد بالغت بعض خطابات الدعوة إلى بناء الحياة والاستمتاع بها إلى درجة قاربت دعوات الجاهلية الأولى من أولئك الذين قالوا: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ (الأنعام:29)، فحين برزت تلك العمليات لفتت الأنظار إلى نوع من الموت يفضله أصحابه على الحياة ومتعها ولذائذها، ووجدوا أن لهؤلاء نظرة أخرى للحياة نشأت عن خطاب يُعلي من شأن الموت والآخرة والاستشهاد فى سبيل الله، وأن هذا الخطاب منبثقٌ عن خطاب إسلامى ورؤية إسلامية بقطع النظر عن المستويات والتفاصيل. فأعلنوا حربهم على الخطاب الدينى واعتبروه خطأً تحريضيًا يؤدي إلى إشاعة ثقافة الموت وتفضيله على الحياة رغبة فى الجنة ونعيمها، وأن هذا الخطاب يؤصل للإرهاب ويؤسس للغلو والتطرف والتعصب؛ ولذلك فقد أطلقوا النداءات المتواصلة بضرورة تجديد الخطاب الدينى وإعادة النظر فيه، وبدؤوا يستعرضون آيات الكتاب الكريم بشكل انتقائي متحيز يفتقر إلى أبسط شروط قراءة القرآن الكريم، لكنها فرضت نفسها عليه لتحديد الآيات الداعية إلى الإرهاب وثقافة الموت، حسب تعبيرهم وما إلى ذلك. وقد أخذت الآية الكريمة التاسعة والعشرين من سورة التوبة نصيب الأسد كما يقال من هجماتهم وانتقاداتهم، مستغلّين كل ما ورد فى التراث التفسيرى والأصولى والفكري فى معانى هذه الآية الكريمة. ثم ذهبوا إلى أحاديث من السنن النبويّة قطعوها من سياقها وقرؤوها بطريقة مختصرة؛ ليقولوا انظروا هذا الحديث يحرض على اليهود وذاك يحرض على النصارى ويحرض الملحدين والذين لا دين لهم وهكذا.
ووقف المسلمون كعادتهم موقف الدفاع مفترضين حسن النية والصدق في دعاوى الناقدين من المنتمين إلى معسكر العولمة المعاصرة، وكثرت الاعتذارات، وفشت التأويلات، وتأسست مؤسسات ومنظمات تدرأ عن الإسلام ما عرف بشبهات التطرف والتعصب والإرهاب، وتؤكد على أنّ الإسلام بريء من ذلك كله، وأنه دين الوسطية والاعتدال. وذلك صحيح وتلك كلمة حق، لكن سياق هذه الهجمات كان يقتضي مواقف أخرى غير هذه المواقف، مواقف ترفض التهمة من أساسها وتردها على أصحابها، وتبين نطاقهم والتواءهم، وازدواج معاييرهم، وعدم صلاحيتهم للنظر في هذه القضية من أي وجهة، ومن كل وجه والطعن بعدم الاختصاص. فهؤلاء آخر من يحق له اتهام الخطاب الإسلامي بما اتهموه فيه ولكن مَنْ أعطى الدنية في نفسه في عصر القوة والأقوياء لا يتوقع منهم أن يواجه مثل تلك الخطط الخبيثة.
لقد صدّق جمهرة المسلمين كل تلك التهم؛ ذلك لأن خطاب المسلمين والأوساط المسؤولة عن صياغته، وحمله وإرساله، وتلقيه كانت غائبة عن واقعها أو مغيبة؛ فلم تكن تدرك واقع الأمة وما طرأ عليه من تغيرات بعد الاحتكاك بالغرب بعد دخول نابليون مصر، وانتشار المدارس الغربية في العالم الإسلامي ثم دخول الاستعمار إلى بلاد المسلمين، وحدوث عملية الارتداد المنظم إلى الجذور الجاهلية السابقة للإسلام كالفرعونية والبابليّة والفينيقيّة والتركيّة والفارسيّة وما إليها، واعتبارها هي الخلفيات التي ينبغي أن تنتمي الشعوب الإسلاميّة إليها، ومحاولة بيان أن الفترة الإسلاميّة فترة هامشيّة طارئة بالنسبة لكل هذه الشعوب الأولى، وأن هوية هذه الشعوب ترتبط بتلك الخلفيات أكثر مما ترتبط بالإسلام؛ ولذلك فإنَّ الخطاب البعثيّ والقوميّ والليبراليّ سيكون في هذه الحالة أقرب للتعبير عن هوية الأمَّة من الخطاب الإسلاميّ.