Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

فهم الواقع قبل بناء الخطاب الإسلامي

د.طه العلواني

إنَّنا إذا أردنا صياغة «خطاب دينيّ معاصر سديد» نحتاج أن نبدأ أولاً بطرح مجموعة من الأسئلة الهامة على أنفسنا، قبل أن ندخل إلى «مخبر إعادة صياغة وصناعة الخطاب الدينيّ». ولعلّ من أهم هذه الأسئلة التي لا بد من إثارتها تمهيدًا لمحاولة إعادة صناعة وصياغة «الخطاب الدينيّ» المنشود، سؤال: ما الحوارات الداخليّة التي تدور في مجتمعاتنا العربيّة في مصر وغيرها هذه الأيام؟

حورات ما قبل الثورات

إننّا حين نقوم بعمليَّات رصد لما تقدمه أهم أجهزة الإعلام -العربيَّة منها والإسلاميَّة- كافّة فإنَّ ذلك الرصد -بعد تجاوز وتجاهل فضائيّات ومحطات الواوا، والتجهيل، وتعليم العبث- سوف نجد أنّ سائر الحوارات التي تدور في مجتمعاتنا ترتبط بهمّ عربيّ كبير ومشترك، تتفرع عنه مجموعة من الهموم الفرعيَّة؛ وهذا الهم الكبير المشترك محوره الأساسي الاستبداد والدكتاتوريّة ودعم الغرب لأنظمة دكتاتوريّة ومستبدة بشكل لا يخفى على أحد، وإن حاول الغرب أن يخفيه برفع الأصوات بالمناداة بالديمقراطيّة وضرورة دعمها في العالم العربي والإسلامي، كما صمّ الآذان في فترات سابقة إذانًا بالدعوة إلى التحديث والتصنيع، فإذا اقتربنا من شيء منه أوقفه بحجة أو بأخرى، وافتعل أزمة مع الحكام الذين يحاولون ذلك بإخلاص حتى يسقطهم، والأمثلة لا تخفى، فالسؤال الكبير: ماذا يريد الغرب منا؟ وما طبيعة علاقتنا -أنظمة وشعوبًا- به بكل فروعه الأمريكيّة والأوروبيّة ومجالاتها الحيويَّة؟ وما مستقبل بلداننا وشعوبنا وطوائفنا ومذاهبنا وأحزابنا وأقطارنا وأجيالنا ومثقفينا في ضوء هذه العلاقة الغامضة المتذبذبة المتغيِّرة، التي ما إن يمسك المفكرون والمحلّلون بطرف يسير منها، فيظنُّون أنَّهم قد أدركوا شيئًا أو حلّوا رمزًا من رموزها، حتى تبرز لهم أطراف أخرى دونها بكثير أطراف «الأخطبوط» وأذرعه العديدة؟! وإذا بنا نردّد: ﴿وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا﴾ (الجن:10).

وبعض المفكرين والمحلّلين العرب قد يسمحون لأنفسهم بتوليد سؤال من ذلك المحور الكبير أو السؤال الكبير عن الأسباب الحقيقيّة التي جعلت العلاقة على ذلك المستوى من التذبذب وعدم الاستقرار، حتى مع أولئك الذين برهنوا لعقود طويلة على صداقة طويلة للغرب_ ربما تحملوا في سبيل المحافظة عليها جفاء الأخ، وغضب الابن، وبعد الصديق_ هل هي «المسألة الشرقيَّة» القديمة التي لا تستطيع أوروبا نسيانها؟ خاصّة يوم دخلت الجيوش العثمانية «ڤينَّا» في وسط أوروبا، فجعلت أوروبا -كلّها- في حالة خوف ورعب لم ينتهِ حتى وتركيا تتقدم بالطلب تلو الآخر للانضمام إلى «المجموعة الأوروبية»، وبإلحاح شديد؟! أهي المعادلة الصعبة التي يُطالب الغرب العرب والمسلمين باحترامها، وعدم فعل أيّ شيء يمكن أن يغيِّر منها، ولو على مستوى الأمانيّ والنوايا القلبيَّة أو الأحلام؟

تلك المعادلة التي تتلخص بــأمن إسرائيل+مصالح الغرب -كلّه- في المنطقة+دعم ما يوضع من استراتيجيّات للهيمنة على العالم+تخليص العقليّة العربيّة والإسلاميّة وتنقيتها من كل ما يمكن أن يحول بين العربيّ والمسلم وقبول قيم الغرب؛ سواء انتمى ذلك إلى تراث دينيّ، أو هويَّة قوميَّة، أو انتماء إقليميّ، نزل به وحي أو أفرزته فلسفات بشريَّة، بما في ذلك بعض الفلسفات الغربيَّة التي قد يتبنَّاها بعض مثقفينا بدوافع متعددة!!

حوارات الثورات

كان هذا قبل ثورة تونس ثم مصر والأحداث التي تتابعت بعد ذلك.  أما بعد الثورتين فقد تغيرت الأسئلة والتساؤلات وكان نصيب الخطاب الديني كثيرًا ما ينحصر في زاوية: هل الثورة تندرج في دائرة الفتنة التي جاءت الأخبار بالنهي عن الاستشراف لها أو السقوط فيها والمشاركة في أحداثها؟ أم هي أمر يندرج تحت دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بواجب التغيير والإصلاح؟ وهل هؤلاء الحكام الذين ترتفع الأصوات المنددة بهم والداعية لإسقاطهم هم حكام شرعيون يعتبر الخارج عليهم مفارق للجماعة شاقًا لعصا الطاعة، أم أنهم حكام مستبدون فاقدون للشرعية يستحقون التغيير ولو بالقوة؟ وهناك أسئلة كثيرة طرحت حول الوسائل والأساليب حيث إن هذه الأمور لم تكن معروفة في تراثنا وتاريخنا، وهي ممارسات حديثة أفرزتها خبرات وتجارب أمم مختلفة ووسائل لم تكن معروفة في العصور السابقة، وقد تنوعت إجابات حملة الخطاب الديني على تلك الأسئلة فكانت المؤسسات الرسمية ميالة إلى مساندة النظم القائمة إلى أن سقطت، فتغير الخطاب، وكان علماء الدين والخطباء والوعاظ في بعض البلدان يتجهون إلى وصف كل ما يحدث بالفتنة وذلك بالإيعاز من النظم القائمة في بلدانهم للحيلولة دون وصول اتجاهات الثورة إلى شبابهم وأبنائهم. فكانت هناك أصوات أخرى مما يدل على أن الأمة ما تزال لم تحدد نهجًا واضحًا يحكم العلاقة بين تراثها وواقعها. وحين تأتي وقائع وقضايا مثل هذه يتجه كلٌ إلى الوجهة التي ترضيه ويدعمها ويسندها بشيء من ذلك التراث، فما يعد فتنة لدى بعضٍ، يعد لدى بعضهم الآخر ثورة بيضاء نقية تستحق كل الدعم والتأييد، وما يعد خروجًا على إمام عند أناس، يعد تصحيحًا لأوضاع وإصلاحًا وتغييرًا عند آخرين.

إذًا فالأمة أحوج ما تكون الآن إلى أن تتخذ موقفا منهجيّــًا معرفيّا دقيقًا تحدد بمقتضاه علاقتها بتراثها ما الذي تأخذ منه وكيف؟ وما الذي تسمح له بالامتداد بفراغ واقعها وكيف؟ وما الذي ينبغي أن تضعه في حدوده الزمانيّة والجغرافيّة فلا تسمح له بالهيمنة على واقعها ولا بأن ينصب نفسه مرجعيّة لذلك الواقع صلحت أم لم تصلح؟ وبدون ذلك سوف تستمر هذه العلاقة المتذبذبة وغير المنضبطة بالظهور والبروز بين الحين والآخر، وتعطي من الثمار ما تعطيه في إرباك مواقف الأمة تجاه أحداث خطيرة. فكيف تقال الكلمة الراشدة السديدة ؟ ومتى يبدو أن الأمة بعقلها الجمعي الطبيعي والفطري تشق طريقها باتجاه ليس بالضرورة هو ذات الاتجاه الذي توصلت النخبة إليه أو اقترحته ؟ ومن الظاهر أن الأمة مهما دخل على ثقافتها وتكوينها النفسي والعقلي من أمور، فإنّها تبقى أدق وأعمق وأكثر إخلاصًا وأكثر قدرة على معرفة الصواب من كثير من نخبها ومفكريها وكأنها تهتدي إلى ذلك بعقل كامن خفي يمثل جوهر نسقها الخفي. ولعله ما عبرت عنه بعض الأحاديث على ما فيها من مقال مثل حديث: “لا تجتمع أمتي على ضلالة”، “ولا تجتمع أمتي على خطأ”، فعقل الجماعة مهما أبدت النخبة عليه من ملاحظات يبقى أقرب إلى الدقة والصواب من العقل الفردي أو النخبوي الذي تشتت رؤيته الاستدعاءات الكثيرة الأبعاد.

نظرة على الحالة المصرية

وإذا خصصنا الحديث عن مصر، فلا شك أنّها قد عانت من أمور عديدة، ووُعدت وعودًا كبيرة جدًّا من الولايات المتحدة وإسرائيل إذا ما انعزلت عن العرب ووقّعت اتفاق سلام. أغرت تلك الوعود الرئيس الراحل أنور السادات بأن يتخذ تلك الخطوة الجريئة التي فصلته عن عمقه العربي والإفريقي إلى حد كبير، وأدّت إلى احتقان شديد تم تنفيسه بحالة اغتيال ساذج للرئيس الراحل، استهدفته وحده من شباب لم يستطيعوا أن يدركوا من الصورة إلا ذلك الشخص الذي انخدع بالوعود وأغرته الجهات القادرة على التعامل مع أعماق النفوس تعاملًا علميًّا معرفيًّا، يجعل تأثيرها وكأنه أمر لازم لا يسهل الفكاك منه. وبعد أن وقع الرجل فريسة لذلك، وأبدى استعدادًا للتنازل عن علاقاته العربيّة، وإلى حد ما الأفريقيّة، لصالح ذلك الوهم الذي وضع فيه بأنّ العلاقة بإسرائيل وأمريكا سوف تمكّنه من تعويض الشعب المصري عن كل تلك السنين العجاف التي عاناها منذ (1948م) وما تلاها.

وعندما وصل نائب السادات إلى السلطة -محمد حسني مبارك- وهو العسكري المحارب الذي شارك في سائر الحروب. كما شارك -ولو عن بعد- بدعم وتغطية مَنْ وقّع اتفاقية السلام، سلك سبيله وحاول أن يكمل مشوار سلفه. وأقام أوثق العلائق مع القوتين الأعظم؛ إسرائيل في المنطقة وأمريكا في العالم، وقطع شوطًا طويلًا في ذلك. وظنّ الرجل أنّه سوف يحافظ على بلده ويضمن استقراره بتلك السياسات ويجنبه ما تموج المنطقة به. كانت المخاوف كلها من أن تسقط مصر في أيدي إسلاميين رديكاليين يعزلون مصر عن الغرب وعن إسرائيل، ويشكّلون تهديدًا للأمن الإسرائيلي وللمصالح الأمريكيّة، ومقاومة تيار مثل هذا -في بلد عرف التدين منذ سبعة آلاف عام بأشكال مختلفة، وارتبط بالأرض فلاحوه، فعين إلى الأرض وعين إلى السماء- لا بد أن يكون في يد حاكم يأخذ على عاتقه إيقاف هذا التيار وعدم السماح له بالهيمنة أو الانتشار الذي قد يؤدي إليها، وتجفيف سائر المنابع التي قد تؤدي إلى تغذية هذا التيار. ولا بد لهذا الحاكم أن يمارس أنواعًا من الدكتاتورية والاستبداد والقمع في بعض الأحيان؛ لأنّه شاء أم أبى في وضع دولي وإقليمي يضغط عليه لتحقيق أهداف معينة. كان التوازن يقتضي أن تكون عين على الداخل وعين على الخارج، ويد تُطعم الشعب الجائع وتواسيه وتضمد جراحه، ويد تقاوم التيارات التي يمكن أن تأخذ بهذا الشعب يمينًا أو يسارًا، ولكن ما كان بالإمكان لنظام تقوم عليه العقليّة العسكريّة -بما تحمله من صرامة وقوة ورؤية شكّلتها أفكار العدو والصديق- أن تؤدي هذا الدور بشكل ملائم، فكان لا بد من أن تكون هناك عملية استقطاب يكون الناس فيها صنفين، صنف موالي يكافأ بالمغانم وإطلاق اليد بشكل أو بآخر، وصنف معادٍ يضم إليه المتذمرين وقوى الرفض والقوى الطالعة التي لا تجد قنوات تستوعبها. ولا بد أن تتحول الديمقراطية إلى طقوس وأشكال تتلخص بصندوق اقتراع لا ضمانة له، ضد الأوراق الزائفة والمزوّرة والمزيّفة لإرادة الناس، فتتحول هي الأخرى إلى وسيلة من وسائل التذمر والرفض. فإذا اشتدت فليجري تنفيسها وليُسمح لها أن تمر، فرأس النظام قد شاخ، والكثيرون يتطلعون إلى وراثته. والقوتان الأعظم -الإقليميّة والخارجيّة- إسرائيل وأمريكا يريان -معًا- أن فترة الانقلابات العسكريّة قد انتهت في المنطقة، ولم يعد بالإمكان الاستفادة بها كما كانت في النصف الثاني من القرن الماضي. إذًا لا بد من وسيلة أخرى، تلك الوسيلة هي «الفوضى الخلّاقة»، والأحزاب والفئات هشّة ومهمشّة، ومقوّمات الثورات الشعبيّة والقادة والزعماء ذوي الكاريزما أصبحوا أندر من النادر. إذًا فـ«ـالفوضى الخلّاقة» هي السبيل الوحيد لإفراز قيادات جديدة، والسماح لكل من القوتين بأن تنتقي وتختار وتصطفي مما تبرزه أو ممن تبرزه «الفوضى الخلاقة» من يستطيع أن يؤدي المهام المرحليّة القادمة. أمّا الوسائل فالقوتان الإقليميّة والعالميّة، تملك كل منهما من الوسائل الفعالة ما يمكنها من إحداث تلك الفوضى التي يسمونها بالخلاقة.

لقد عُرفت المواقف وحُدّدت الاتجاهات ودُرست الشخصيات وتوافرت المعلومات التي يستحيل أن تتوافر بتلك الكثرة في غير ميدان التحرير. وكأنّي بأجهزة القوتين قد جمعتْ من المعلومات والمؤشرات عن الجيوش والشرطة والثقافة والشباب والشخصيات الوطنيّة والحكماء والغوغاء والسفهاء والعقلاء كل ما أرادت، فيالها من فرصة ذهبيّة فتحت فيها كل تلك الكنوز، وأتيحت لأولئك الذين فتحوا مخابرهم ليحددوا الاتجاهات ويدرسوا العقليّات والنفسيّات، وينظروا في سائر المؤثرات الدينيّة والثقافيّة والاقتصاديّة والسياسيّة وما إليها، وستظل هذه الأحداث مؤثرة لعقود قادمة على المؤسسات الفكريّة والتجسسيّة للقوتين. وقد أُطلقت التهديدات لتشمل سائر حكام المنطقة بأنّ هذه رياح صرصر عاتية، لن تقف عند بلد واحد، وإنّما ستشملكم جميعًا. وإذا كان الرئيس المصري استطاع الصمود لأيام أو أسابيع فإنّ غيره لن يستطيع أن يصمد كما صمد، وقد تعصف به تلك الرياح -رياح التغيير الشديدة- بشكل أيسر وأسهل، كما أنّ موجهي الدفة -دفة رياح التغيير- قد حصلوا على دروس مستفادة كثيرة مما حدث في مصر يكون لها أثرها ووظائفها فيما هو قادم في المنطقة، وستظل هذه القضيّة بتفاصيلها وجملتها تتفاعل مع الخطاب الديني، تفعل فيه وتنفعل به.

وفي الوقت الذي كانت فيه مساعي أمريكا وإسرائيل تتجه نحو تدبير وسائل إحداث الفوضى الخلاقة، كانت روح الرفض لدى الشعوب العربية لما هو قائم تتنامى بشكل كبير جعلها تظهر إلى السطح أيضا في مناسبات عديدة لتنذر بانفجار قادم متى ما وجد الفرصة المناسبة لتنفيسه فهل يا ترى حاولت جهات الفوضى الخلاقة بعد إدراكها لهذه الحقائق أن تدخل في سباق مع الرفض والغضب الشعبي الشامل لتستفيد من ذلك الغضب والرفض في تفجير حالة الفوضى؟

 لقد بدت الحالة التونسية بأنها قادرة على أن تحتوي وتستفيد بل وتوظف لحظات الإعداد للفوضى الخلاقة في تدعيم الغضب الشعبي والرفض للإطاحة بابن علي ونظامه الذي هو امتداد لدكتاتورية النظام البورقيبي.  وفي الحالة المصرية وخاصة في الأيام والأسابيع الأولى حتى سقوط حسني مبارك أيضا كان الرفض والغضب الشعبي هو الرائد والقائد لما حدث؛ ولذلك أعرب الشعب المصري عن أخلاقياته الحضارية وسلوكياته بشكل يدعو إلى العجب في الأسابيع الأولى. وما تغير ذلك إلا بعد مضي فترة على سقوط رأس النظام السابق وظهور مصطلح “البلطجية” وكأنه تعبير عن محاولات لهيمنة قيادات الفوضى الخلاقة على ذلك الانفجار الشعبي الهائل الذي عبر الشعب عنه بكل أطيافه بشكل رائع. وهنا تبدو عناصر الفوضى الخلاقة من بلطجية وفلول ومن إليهم وكأنها حاولت التسلل للأخذ بزمام ذلك الغضب الهائل الذي تفجر وتوجيهه نحو أهداف الفوضى الخلاقة.

هذه الجوانب والتساؤلات المتصلة بها هي التي تتحكم في مجريات الحوارات الداخليّة في العالم العربيّ والإسلاميّ. وفي ظل هذه الحوارات تطرح فكرة «إعادة صناعة وصياغة الخطاب الدينيّ»؛ وذلك بعد أن أدّت تلك الظروف -التي نبّهنا إليها بإيجاز شديد- إلى ردود أفعال دينيَّة وقوميَّة توشك أن تشكّل رفضًا لكل ما هو آتٍ من الغرب، ومن أمريكا خاصّة، وقد بدأت اتجاهات تكاد تنادي بتبرئة كل المتهمين بمعاداة الغرب من المسؤوليَّة فضلاً عن الإدانة، واعتبار أمريكا وبريطانيا والغرب وإسرائيل مسؤولين عن كل أسباب المعاناة في المنطقة وفي العالم الإسلاميّ كلّه.

وبدأت اتجاهات القبول النفسيّ والعاطفيّ للتصرفات المعادية لهؤلاء -جميعًا- بالنموّ رغم الإدانة العقليَّة لتلك الاتجاهات في كثير من الأحيان، فلا غرابة أن نرى المنطقة تعيش حالة غليان قد تتفجر في أيَّة لحظة لا سمح الله ولا قدَّر.

فكيف تُدار «الحوارات الدينيَّة» في عالمنا هذا، وهل يمكن أن تؤدي إلى إيجاد مقوّمات إيجابيَّة لصياغة خطاب دينيّ جديد؟

أصحاب الخطاب الإسلامي

 ربما اكتشف أصحاب الخطاب الديني -على اختلافهم- أنّ الأمّة المسلمة وصياغة الخطاب الديني فيها يواجهان اليوم تحديًا أكبر بكثير من كل ما واجههوه فيما مضى.  فكنا ندرس في كتب الفقه مَنْ يقول: “لا تنعقد صلاة الجمعة بأقل من أربعين”، ويقول له الآخر: “يكفي اثنى عشر أو ثلاثة أو أكثر أو أقل”، اكتشفو جميعًا أنّ النقاش حول العدد لم يعد له موقع في عمليات التغيير. فإذا كانت الطائرة التي خرّبت هوريشيما قادها طيار واحد فخرب مدينة بأكملها، فمعنى ذلك أنّ فكرة العدد قد تغيّرت تمامًا. وإذا كان المقاتل فيما مضى يشترط أن يكون ذكرًا، فقد أفرز العصر قيادات نِسوية في الدروع والطيران تستطيع أن تقوم بأسلحتها ومعداتها. وجاء الإنترنت ليُبيّن أنّ هناك إمكانيّات هائلة يتكشّف العصر عنها شيئًا فشيئًا، فنعرف وسائل لم تكن في الحسبان، ولم تدخل في إطار وسائل الخطاب الديني بعد. فكيف يستوعبها هذا الخطاب وكيف يُوظفها؟

لم يُعنَ الأزهر ولا الزيتونة ولا القرويين ولا كلية الشريعة في العالم الإسلامي بتعليم طلّابها وتلامذتها ومنتسبيها التعامل مع هذه الآلات والأجهزة الحديثة وكيفيّة توظيفها في الخطاب. وهنا قد يتبيّن المسلم ماذا خسر وخسر العالم بانحطاط المسلمين وتخلّفهم وتأخرهم عن دخول العصر ومعرفة تقنياته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *