أ.د/ طه جابر العلواني
لقد عُرف الشعب المصريّ عبر تاريخه بعزوفه عن العنف، ورغبته بفض المنازعات والمشاكل بالتي هي أحسن. وأذكر أنَّني حين جئت شابًا للدراسة في الأزهر و-كان عمري لا يتجاوز الثامنة عشر- كنت أتعجّب وأنا أرى في شارع الأزهر والدرَّاسة والمناطق الشعبيَّة المختلفة التي كنت أمر بها أناسًا يختلفون وترتفع أصوات بعضهم على بعض، فكنت -وأنا قادم من العراق- أستغرب كيف تنتهي كل تلك المنازعات بـ«روح ربنا يسامحك» أو «روح منّك لله» أو ما شاكل، فتكون المشاجرات لا تتجاوز رفع الصوت، وربما استعمال بعض الكلمات، وكنت أقارن ذلك بالعراقيّين الذين إذا حدث شيء من العراك بينهم فلا بد من سقوط جرحى وقتلى، فكيف تغيّرت طبيعة هذا الشعب، وتحولت إلى اتجاهات العنف التي لم يألفها ولم يعتدها ولم تكن من شيمه عبر تاريخه؟
إنَّ الأصل في الرياضة أن يتعلَّم المشجعون كيف يحبون اللعب الفني النظيف بقطع النظر عن أي فريق صدر، فقد يعجب مشجعو فريق بلعب الفريق الآخر لرُقيّه، فليس الهدف التعصب، وجعل النادي الذي ينتسب إليه أو يشجعه طائفة ومذهبًا وقبيلة منافسة للطوائف والقبائل الأخرى، لكنَّ وزارات الشباب عندنا والقائمين على الأندية الرياضيَّة لم يستطيعوا أن يربوا الرياضيّين ولا المشجعين على هذه الروح؛ التي تصبو إلى احترام الفن الرفيع والأداء الجيد من أي فريق صدر. ولكنَّنا اعتدنا أن تحدث صراعات نتيجة التوتر الذي يحدث لمشجعي الرياضيّين والفرق الرياضيَّة في الألعاب المختلفة، وفي حدود علمنا لم تصل تلك التوترات والصراعات التي تنشب إلى وقوع قتلى، فكثيرًا ما تقع اشتباكات في الأيدي أو تلاسن، لكننا فوجئنا قبل سنتين عندما لعب الجزائريُّون في مصر وفي السودان وفي الجزائر مع فريق مصريّ أن وقعت اشتباكات بين المشجعين أساءت إلى العلاقات بين مصر والسودان، وكان مَنْ يحكم مصر وقتها هو الرئيس المخلوع، وكان ولداه في مقدمة المشجعين، ولعلنا الآن نستطيع أن نفهم كيف حدث التصعيد -آنذاك- حتى كادت العلاقات تُقطع بين البلدين نتيجة ذلك، ورغم ما سبق لم يقع قتلى ولا إصابات بجروح بليغة، وانتكست محاولات إثارة الفتنة، وخاصَّة من رجال المال والأعمال -آنذاك- الذين كانوا يريدون أن يستعملوا الغضب المصريّ للضغط على الجزائر لتصفية ديون وحسابات، كأنَّهم لم يجدوا وسيلة مبتكرة لتصفيتها أسهل وأجمل وأكمل من ذلك !
إنَّ أسياد المستبدين والدكتاتوريّين قد علَّموهم كيف يبدّدون الطاقات والثروات البشريَّة بمثل الأساليب التي بدَّدوا بها طاقات بلدانهم وثرواتها الماديَّة بالسرقة والفساد والمشاريع الفاشلة وخطط التنمية القاصرة، والانصراف نحو توافه الأشكال الحضاريَّة عن الأسس الحقيقيَّة للتجديد والبناء. ومما ابتكروه لتبديد طاقاتنا البشريَّة الإغراق والمبالغة في الرياضة وتقديم الرياضة، فكما ربطوا بين المهن والحرف والقبائليَّة والطائفيَّة، ربطوا كذلك بين الفرق الرياضيَّة والنوادي لتتحول إلى وسائل تبديد لطاقات الشباب وهدر لها، بل عملوا على إعدادها وتهيئتها للاستغلال السلبي، بحيث يمكن أن تضاف عندما يريدون إلى وسائل الصراع والفُرقة في العالم كله.
ولما سبق، أقول إنَّ ما صرنا نشاهده مؤخرًا -وخاصَّة بعد الثورة- أمر لافت للنظر، ويقتضي التفكير العميق، إذ إنَّ هناك استغلالاً واضحًا للمناسبات الرياضيَّة لإشعال روح التعصب والعداوة والبغضاء بين أبناء الشعب الواحد، وصار العنف سيد الموقف، وفقدت الرياضة بكل أنواعها أهدافها الجماليَّة المنتظرة منها، وحُوّلت ساحات الألعاب الرياضيَّة إلى ميادين قتال وصراع يسقط فيه قتلى بالعشرات… كما حدث في بورسعيد، فسقط سبع وسبعون قتيلاً وأكثر من ألف مصاب وجريح.
هنا لا أستطيع إغفال فكرة المؤامرة، وأنَّ هناك محاولة لإجهاض روح الثورة وتدمير نفسيَّات الثوَّار، ففي البداية غمرت الشائعات البلاد عن كون الثوَّار هم السبب في قطع معايش الناس، والإضرار بمصالح البسطاء والباعة وأصحاب المحلات في الميادين التي يعتصمون فيها، ثم تكاثرت الشائعات عن أنَّهم كانوا ينامون في خيامهم رجالاً ونساء دون أيَّة ضوابط شرعيَّة، وذلك لتنفير الناس منهم، ولحمل أولياء أمور هؤلاء الشباب على الضغط عليهم بكل ما أوتوا من قوة للحيلولة بينهم وبين الذهاب إلى تلك الميادين، ولم تنسَ الشائعات علب الأكلات الجاهزة من الأطعمة الأمريكية «كنتاكي» و«ماكدونلدز» التي زعم أصحاب الشائعات أنَّها كانت تنهال على المعتصمين من مصادر مجهولة، ولا الحديث عن أموال تُنثر عليهم كما تنثر «النقطة» على صدور الراقصات.
ونحن لا نريد أن نقول إنَّ كل من كانوا في تلك الميادين -والذين قُدِّرت أعدادهم في جميع الميادين المصريَّة بحوالي سبعة ملايين أو تزيد، ومن ورائهم ما يزيد عن خمس وعشرين مليونًا يؤيدونهم- كانوا على كلمة واحدة ورأي واحد، لكنَّنا نود أن نقول إنَّه كأي تجمّع بشريّ مفتوح يمكن أن نجد فيه أخطاء وبعض المخطئين أو المسيئين، وعلينا أن نحذر التعميم، سواء لجهة الإيجاب أو السلب. ونحن نعلم أنَّ الطائفين حول الحرم من حجاج أو معتمرين كثيرًا ما يندس بينهم بعض النشّالين، فيمارسون حرفتهم اللعينة وهم يطوفون مع الناس الأصفياء حول الكعبة، فوجود أمثال هؤلاء لا يؤثر على الهدف الأساس، وبالتالي لا ينبغي الإغراق في التعميمات في هذه الأحوال، فلكل قاعدة شذوذ، وسيدنا رسول الله -صلَّى الله عليه وآله وسلَّم- حين وجد مَنْ يطعن في بعض أهل بدر قال لهم: “لعلَّ الله اطَّلع على أهل بدر فقال افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم”؛ لأنَّه -عليه الصلاة والسلام- أراد حماية عامَّة البدريّين من قالة السوء ومن مطاعن أهل السوء. وهكذا فعل -عليه الصلاة والسلام- حين عاد خالد بن الوليد بمجاهدي مؤتة منسحبًا من ميدان المعركة فاستقبلهم شباب المدينة وصبيانها بالحجارة قائلين: “أيها الفرّار”، فكان -عليه الصلاة والسلام- يقول: “بل هم الكرّار إن شاء الله”، وفي تلك المناسبة منح خالد بن الوليد لقب «سيف الله»؛ فلكي لا تدمّر السلبيَّات المعدودة الإيجابيَّات اللامحدودة وتعيد شباب الأمَّة إلى الإحباط لا بد من الحذر من التعميمات، وانتقاء الكلم الحكيم الدقيق.
إنَّ من واجب رجال الدعوة في مصر أن يعملوا على إعادة الأمور إلى نصابها، فالترويح مطلوب، والرياضة فن من فنون الترويح، ولعب الكرة وتشجيعها قد يكون من هذه الأمور؛ ولذلك فليس الحل في مهاجمة الرياضة والرياضيّين، وإنَّما في مهاجمة أولئك الذين انحرفوا بمفاهيم الترويح والرياضة النظيفة، وحاولوا أن يدخلوا الطائفيَّة والقبائليَّة والصراعات إلى هذه الأمور، فلم يرحموا الشباب حين دعوهم إلى الانخراط في الفرق الرياضيَّة أو الفرق المشجعة؛ لأنَّهم لم يريدوا بذلك مساعدتهم على الترويح عن أنفسهم وتقوية أبدانهم واستثمار طاقاتهم، بل أرادوا تبديد تلك الطاقات وصرفها عن التفكير بمشكلات المجتمع السياسيَّة والاجتماعيَّة وما إليها. وها هم اليوم يعملون على تحويلهم إلى ما يمكن أن نطلق عليه «الطائفيَّة الرياضيَّة»، فيجعلون من المشجعين «ألتراس» وغيرهم طوائف وقبائل تتصارع وتتقاتل كلما نجح فريق وخسر فريق. وكما قلنا ليست غاية الرياضة في انتصار فريق أو هزيمة آخر، بل في جماليَّات النشاط الرياضيّ التي تُعلي الفن الجماليّ والرياضيّ لدى الشباب، وتسمو بمشاعرهم، وتروّح عنهم، فيكون التشجيع دائمًا للفن الحقيقيّ والإجادة، سواء أكان التشجيع لفرق سباحة أو كرة قدم أو سلة أو طائرة أو سواهم.
كما ينبغي أن يكون الشغل الشاغل لجميع دوائر صناعة القرار والدوائر الإعلاميَّة والدوائر الأكاديميَّة الآن هو العمل على إعادة التوازن إلى النفسيَّة المصريَّة وإبعادها عن العنف الذي نشهده هذه الأيام، فأولئك جميعًا يتحملون مسؤوليَّة ذلك؛ خاصَّة وأنَّ البلد قد امتلأت أسلحة متنوعة بناء على الظروف التي يعلمها الجميع؛ وذلك حتى لا يتأصل العنف وتنتشر ثقافته، وتزيل بقايا الطمأنينة والسلام والأمن من العقول والقلوب المصريَّة. نحن في هذا لا نطالب الشباب وفصائل الشعب وقوى الأمن وصنَّاع القرار بغض النظر عن كل ما يدور، على العكس، فإنَّنا نطالب الجميع برفع درجات الحذر إلى أقصاها، ورصد حركات المتسلّلين من الغرباء عن شباب مصر والمأجورين، ورصد منابع الفتنة ودعاتها من الإعلاميّين في مختلف المحطات، وإقامة العدل، وإعطاء الشهداء والمصابين حقوقهم، ومحاكمة مَنْ أساؤوا إلى شعب مصر، وسرقوا أمواله ودمَّروا ثرواته وأفقروه وأفسدوا في البلاد واستذلوا العباد، والتعجيل بذلك، فإنَّ سيدنا عمر -رضي الله عنه- كان يجعل من موسم الحج موسمًا لمحاسبة عمَّاله، وولاة الأمصار، والاستماع لشكاوى الناس الذين قد يتأخر وصول شكواهم، واتخاذ القرارات العاجلة بمحاسبة ومعاقبة مَنْ يستحقون الحساب والعقاب، فتأخير محاسبة المسيء يُطمع أهل السوء، ويشجعهم بالاستمرار فيما هم فيه، وييئس الضعفاء من تحقيق العدل ويوغر صدورهم، خاصَّة إذا فقدوا أبناءً وشبابًا أعزَّةً عليهم، وتضرَّروا بكل أنواع الأضرار النفسيَّة والماديَّة والمعنويَّة، فهؤلاء لن تهدأ نفوسهم قبل أن يروا ظالميهم يعاقبون على ما ارتكبوه ضدهم، وإلا فستتأصّل ثقافة الثأر التي كانت مصر تحاول الخروج منها، فالعدل أساس الملك. والتعجيل بالوصول إليه عبادة وكياسة وسياسة. والله وليُّ التوفيق.