Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

الثَّورة بين الشرعيَّة والإتهام

أ.د/ طه جابر العلواني

لو سألني سائل عن أهم إنجازات القرآن المجيد بعد تحقيق قيم «التوحيد والتزكية والعمران»، وتوجيه الإنسان لها باعتبارها مقاصد عليا عليه أن يتغيّاها ويعمل لها، ويستظل بوارف ظلالها، لقلت: إنَّ هناك إنجازين حققهما القرآن المجيد بعد الذي ذكرنا:

أولهما: إشاعة المعرفة بعد أن ظلّت زمنًا حِكرًا على الكهنة والأباطرة، يستخدمونها لفرض سلطانهم على الناس، ويصلون -بادعائهم احتكارها- إلى ما يريدون من إخضاع الناس لسيطرتهم وفرض أنفسهم قادة عليهم. أمّا مع إشاعة القرآن للمعرفة وإيصالها إلى الناس كافّة، وإثابتهم على القراءة، والضرب في الأرض والسير في مناكبها، والتفكر في كل ما حولهم؛ مما أدى إلى تكوين عقليَّاتهم وبناء نفسيَّاتهم وتهذيب سلوكيَّاتهم. مع تلك النقلة لم يعد باستطاعة أحد احتكار المعرفة والاستئثار بها، وابتزاز الناس بها، وتحويلها إلى سلطة يفرض مُحتكر المعرفة بمقتضاها سيطرته وسلطانه على الناس.

ثانيهما: سحب جميع السلطات والصلاحيَّات من البشر كافَّة وحصرها بالله (جلّ شأنه) فكانت «الحاكميَّة» صفة خاصَّة به (تعالى) بمقتضاها يفوض أممًا يصطفيها ورسلًا وأنبياء يوحي إليهم، فالحاكميَّة حصرت «الشرعيَّة» فيما يصدر عن الله مبلَّغًا للبشر من رسله وأنبيائه. ويكتسب الحاكم والمحكوم أي صفة من صفات السلطة والسلطان بسلطان من الله وحده، فما أمر الله به أو أذن فهو مشروع، وما حرم أو كره فهو مرفوض، وما أحل وأباح فهو على الخيار، وما لا دليل عليه لا سلطان له ولا شرعيَّة. بذلك تنظم الحقوق والواجبات ويسود العدل، فالله وحده هو مَنْ يُؤتي الملك مَنْ يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويُعزّ مَنْ يشاء ويُذل مَنْ يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (آل عمران:26) فلم يعد في مقدور أحد أن يحكم باسم حق إلهيّ، أو تفوّق بشريّ، أو امتياز على الناس.

هذان الإنجازان نزعا عن البشر أهم جوانب السلطة والتسلط، وأصبح ما يخرج عن تلك الحدود والأطر التي رسمها (جلّ شأنه) منزوعة الشرعيَّة ولا يعتد بها، وبذلك تحققت المساواة بين الأفراد. ولم يتمرد على هذه الإنجازات إلاّ فئات انضمت إلى صف العدو الذي حذر (جلّ شأنه) منه: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا…(فاطر:6)، فتلك الفئات لا تستطيع أن تنال من الشرعيَّة؛ إذ لا سلطان لديها: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ…(الحجر:42)، فلا تعمل ولا تتحرك إلا بين الغاويين وبهم: ﴿…إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ(الحجر:42)، وبرغم نزع الله (تعالى) للشرعيّة عن الشيطان ومعسكره، فإنَّه لم يمنعهم من العمل بالقوة، ولم يحل بينهم وبين المحاولة، ولكنَّه بيّن فساد أعمالهم وبطلانها وعجزهم وعجزها عن أن تؤتي ثمارها: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(القصص:50)، وقوله (تعالى): ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ(يونس:81)، وقوله (تعالى): ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ*فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ*فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ*إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ*قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ*قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ*قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ*وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ*قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ*قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ*إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ*قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ*إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ*قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ*إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ*وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ*لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ*إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ*ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ*وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ*لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ(الحجر:28-48). هنا تميّز معسكر الشيطان وحزبه من الغاويين، كما تميّز معسكر أولئك الذين دُعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم، فقبلوا مرجعيَّته واحتكموا إليه وتجاوزوا أحكام الجاهليَّة.

هنا أصبحت «الشرعيَّة» واضحة المعالم وبيَّنة الحدود ويصعب التنازع عليها، فالشرعيَّة ليست دعوى يدّعيها هذا الفريق أو ذاك، ولا تُقام الأدلة عليها بآراء واجتهادات ورغبات وأهواء لهذا الفريق أو ذاك، بل تقوم على براهين إلهيَّة، نزلت في كتاب الله (جلّ شأنه): ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(الأنعام:115)، ﴿وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا(الكهف:27)، يتلوها رسول الله على الناس، ولا يملك أحد تبديل شيء منها، بمَنْ في ذلك رسول الله -صلَّى الله عليه وآله وسلَّم-.

الشرعيّة

لقد أصمّ مَنْ يُطلَق عليهم كتَّاب ومفكرون ودعاة وثوريون آذان الناس بما يسميه بعضهم بـ«ـشرعيَّة الميدان» و«شرعيَّة البرلمان» و«شرعيَّة الشارع» و«شرعيَّة الجامع» و«شرعيَّة الكنيسة» وما إلى ذلك. كل هذه الشرعيَّات في حاجة إلى أن يُقام عليها الدليل والبرهان، ولا شرعيَّة هنا إلا شرعيَّة القرآن، فهو كلمات الله التي لا تبديل لها ولا تخضع لهوى أحد أو فئة ولا لرغبات هذا ونفور ذاك، فهي المعتصم والمخرج من الفتن والأهواء والحيرة والتذبذب.

إنَّني أعلم أنَّ شعوبنا قد عانت الكثير من الكبت، وأنَّها وهي تمارس حقها للتعبير لأول مرة منذ عقود وتخرج من حالة البكم والخرس التي فرضها الحكَّام والمتألهون تريد أن تشعر بأنَّها ما تزال تجيد النطق وتحسن الكلام؛ ولذلك فهي تتكلم وتتكلم وتتكلم حتى تشعر السامع أحيانًا بنوع من الصداع أو الغثيان، فتتكلم أحيانًا فيما يصلح وما لا يصلح، وفي الجد والهزل، وفي الحلو والمر كالطفل الذي يتعلم الكلام لأول مرة. ولكن أخشى ما أخشاه أن تضيع المفاهيم في غمرة هذه الممارسات، وتلتبس السبل، وتختلط المصطلحات، وتلك هي الطامَّة الكبرى، فمَنْ يتحدث عن «شرعيَّة الميدان»، وهو يعرف أنَّ الميدان لا يعدو أن يكون ملتقى شوارع وطرق عديدة، يدخل إليها البر والفاجر، والطيب والخبيث، والمحسن والمسيء، والظالم والمظلوم. ويريد أن يميّع الشرعيَّة حتى يملّها الناس ويضيقون ذرعًا بها، ويتمنون لو استطاعوا تجاوزها والعودة ثانية إلى اللاشرعيَّة الدكتاتوريَّة أو ما يشبهها، إنَّما هو إنسان غافل أو متآمر. والذي يقول: إنَّ الشرعيَّة للبرلمان؛ لأنَّه المنتخب، في ظروف يعلم الكل أنَّها استثنائيَّة، فهو يريد أن يحصر الشرعيَّة في الفئات التي حصدت الأصوات في ظل الظروف الاستثنائيَّة ويضفي على ما صدر أو يصدر منها صفة الشرعيَّة، وفي ذلك ما فيه.

 لقد حذّرت في مقال سابق من أنَّ أعداء مصر والمتربصين بها والساعين إلى تدمير وحدتها لن يجدوا فيها مثلما وجدوا في العراق من فئات وطوائف وعنصريَّات ومذاهب يوظفونها ويحاولون أن يفعلوا مثل ذلك في إيران وفي الخليج وربما في تركيا أيضًا، وأنَّهم –هؤلاء الأعداء- سيحاولون تحويل الفئويَّة وبقايا الحزبيَّة والتجمعات السياسيَّة إلى بدائل عن الطوائف والفرق والمذاهب؛ لاستخدامها في تمزيق هذه الكتلة البشريَّة المتناغمة التي يصعب اختراقها.

إنّني أسمع أصواتًا تحاول أن تجعل من العسكر فئة تقابل المدنيين، والعكس بالعكس. وبين هؤلاء وأولئك أحزاب وجماعات وفئات وتوجّهات وأهواء ونحل. تُبذل جهودٌ متواصلة لتكريسها وتقويتها وإيجاد عوامل صراع بينها. وفي ظل غياب أجهزة ثقافيَّة وإعلاميَّة هادية مهتدية، تعرف الشرعيَّة والخصائص الذاتيَّة لهذه الأمَّة والصفات الأساسيَّة لهذا الشعب وتحترمها، وتحرص على إبقاء الصراع بعيدًا عن الثوابت والخطوط الحمراء تلتبس الأمور وتختلط، ويلتفت الفرد يمينًا ويسارًا فيرتد إليه طرف فكره وطرف عينه خاسئين حسيرين، حيث لا تلوح في الآفاق وفي ظل ذلك الإسهال الإعلاميّ أيَّة بوادر انفراج؛ فنفقد بذلك أهم مكاسب الثورات وهي ثقة الشباب بنفسه، وثقته في قدرته على التغيير، وذلك أخطر ما يتهدد شبابنا في الميدان وفي البرلمان؛ ولذلك فإنَّ الحالة تُعدّ خطيرة مالم يتداركها ذوو النهى، ويفرغوا تلك الشحنات السلبيَّة، والتي يمكن أن تتحوّل في أي وقت إلى انفجارات لا تُؤمن عواقبها ولا تُحمد.

الثورة.. وما بعد الاستبداد

إنَّ ثورة مصر التي اندلعت في الخامس والعشرين من يناير 2011 ينبغي أن ننظر إليها باعتبارها بداية طريق طويل نحو الإصلاح الشامل والتغيير الحقيقي لما في النفوس والعقول والقلوب والواقع ونظم الحياة ونظم العلاقات وسائر ما يتعلق بحياة الناس، فهي بداية الطريق لتحقيق مشروع حضاريّ شامل يُعيد لمصر مكانتها وموقعها النموذجيّ في التأثير الفكريّ والثقافيّ والمعرفيّ في العالمين العربيّ والإسلاميّ؛ ولذلك فإنَّ أي تراجع عن الثورة أو انتكاسة لها -لا سمح الله- ستكون مدمرة، لا على المستوى المصريّ وحده، بل على مستوى العالم العربيّ والإسلاميّ، وربما يمتد إلى العالم الثالث.

فكيف نصون الثورة؟ و كيف نضمن استمرار انطلاقها، والتجدد الدائم لحيويّتها وفاعليّتها حتى تبلغ أهدافها؟

لا بد لنا من تقديرٍ سليمٍ ودقيقٍ للموقف. ففي مصر قبل الثورة جرت محاولات عديدة لتغيير سياساتها وممارساتها وثقافتها وعلاقات الإنتاج والتوزيع فيها. ليس ذلك فحسب، بل استهدفت ممارسات عهود الاستبداد والدكتارتوريَّة العسكرية عقل الإنسان المصريّ ونفسه وكيانه الإنسانيّ. أمَّا عقله فقد وضعت خطط دقيقة لاختراقه أولًا ثم احتوائه ثانيًا[1]. ولعل من أهم نتائج تلك الخطط أنَّ هذا العقل قد اقتنع بأنَّ الله (تبارك وتعالى) كأنَّه يحكم السماء وحدها: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾ (الزخرف:84) أمَّا الأرض فيحكمها الغرب وإسرائيل؛ فلا يمكن عمل شيء في هذه المنطقة لا يحظى برضا وموافقة الغرب وإسرائيل. والنظم العربيَّة -منذ بداية تأسيسها- كانت نظمًا ضعيفة مهلهلة، فسرعان ما اقتنعت بتلك الفرية وأسرع حُكّامها للارتماء بأحضان هاتين القوتين والاعتماد عليهما، أو على واحد منهما للمحافظة على السلطة والنفوذ. ولعل الرئيس الراحل السادات عبّر عن ذلك بشكل قوي حين أعلن بأنَّ تسعًا وتسعين من أوراق اللعبة السياسيَّة في أيدي أمريكا. وحين رفض تجاوز المسافة التي قطعها جيش مصر البطل بعد عبور قناة السويس. ففي حين كان قادته -ومنهم الشاذلي يرحمه الله- يحاولون الوصول إلى «مضايق تيران» أعلن -يغفر الله لنا وله- أنَّه لا أستطيع مقاتلة أمريكا وإسرائيل في وقت واحد، وأنَّ أمريكا قد مدّت جسرًا جويًّا لإسرائيل، فعلينا أن نتوقف، فكانت بعد ذلك الثغرة ومفاوضات الكيلو مائة وواحد، وفي ظل هذا الاختراق والاحتواء أصبحت الشعوب -ممثلة بجيوشها وأحزابها والمتطلعين لقيادة الانقلابات فيها- كلما أعدوا للانقلاب على دكتاتور أو تغيير أوضاع يذهبون بأنفسهم إلى أجهزة القوة الأعظم ليأخذوا الإذن والمباركة منها قبل القيام بما يريدون، وتأخذ تلك الأجهزة حريّتها بالكشف عنهم وتوريطهم وتدميرهم، أو بإعطائهم الموافقات المشروطة المذلة؛ ولذلك توقفت الانقلابات بعد تلك المرحلة -مرحلة الخمسينيَّات والستينيَّات- التي امتلأت بمحاولات انقلابات العسكريَّة.

الثورات الشعبية بين الشباب والسلطة

إنَّ أجمل ما في الثورة التونسيَّة والثورة المصرية، وفي الثورات المماثلة أنَّ انطلاقتها الأولى كانت شعبيَّة نظيفة، لم يدبّرها آخرون، ولم يفجروها، ولم يسهموا بقيادتها؛ ولذلك كانت الآمال معلّقة على هذه الثورات في أن تنهي حالة الاحتواء والاختراق للعقل العربيّ، وتُعيد بناءه ذاتيًّا بمفاهيم العدالة والحريَّة والاستقامة والمواساة والتحرّر؛ ليستعيد العربيّ والمسلم حالة الإيمان بالله والثقة بالنّفس وبالأمَّة، والوعي بالذات، ويعود له إحساسه بأنَّه إنسان مبتعث لإخراج مَنْ شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فذلك الإحساس أعتبره تفسيرًا لتلك الحالة -حالة الطهر والربانيَّة التي سادت شباب التحرير والميادين الأخرى في مصر منذ الانطلاقة الأولى وحتى إعلان سقوط الطاغية- فكان هناك تراحم واحترام للكبير، وإيثار لمصالح الأمَّة والوطن على المصالح الشخصيَّة، وما إلى ذلك من خصال أدهشت المراقبين كافّة.

هنا أصبح الناس يتلفّتون يمينًا ويسارًا ببقايا العقول المخترقة بحثًا عن قيادة هذه الثورات، أين هي؟ ولماذا لم يسمعوا البيان رقم واحد مذيَّلاً بتوقيع اللواء أركان حرب أو العقيد أو ما شاكل ذلك؟ ولم يستطع العقل المختَرَق أن يدرك أنَّ الثورات الشعبيَّة تقودها في لحظة الانطلاق روحٌ تسري في ذلك الشعب وتجري منه مجرى الدم، قد لا ترى أشخاصها إلا بعد وقفات، ولكنَّك تستطيع أن ترى آثارها، وذلك ما حدث. هنا تبدأ الجهات والفئات والأشخاص في التَّقدّم والترشّح؛ لتفرض قيادات نفسها للترشح، في حين يقف الثوار الحقيقيُّون مواقف أشبه بمواقف الطهر الصوفيّ والتجرد الروحيّ، يراقبون الحالة، فيقولون أحيانًا: هذا بعض ما أردناه، وأحيانًا هذا مما لا نريده، ولم يكن يخطر ببالنا حين انطلقنا، لكنَّ الآخرين وهم يرشحون أنفسهم لقطف الثمار قد يفترضون أهدافًا ويخترعون وسائل ويعلنون عن غايات يزعمون أنَّها كانت وراء تلك الثورة، والنَّفسيَّات المنهزمة والعقول المختَرَقة المحتواة لا تستطيع التصديق بأنَّ فاعليَّة الأمَّة لم تنعدم ولكنَّها حُيِّدت.

إنَّ أجمل ما في مصر هو وحدة شعبها، وخلّوها من المذاهب والطوائف المختلفة. ولكنّ بعض النّاس يريدون تطوير الاختلافات الطفيفة الحزبيَّة والفئويَّة لجعلها اختلافات حادة وحقيقيَّة؛ لتفتيت الشعب الواحد والإيقاع بين بنيه، وتنزيل العذاب عليه من فوقه ومن تحت أرجله، وإلباس هذا الشعب والتلبيس عليه؛ ليكون شيعًا، وفرقًا، وأحزابًا، ينازع بعضها بعضًا على رقابكم، وعلى الهيمنة عليكم، والاستبداد بمقدّراتكم، فاحذروا الفرقة وقاوموها ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، وإذا كان لا بد من الاختلاف حول بعض الأمور فلا بد من كبح زمامه بأدب الاختلاف، والحيلولة بينه وبين الإطاحة بالأخلاق العالية والإحساس بالأخوَّة، والانتماء إلى البلد الواحد والشعب الواحد، ووحدة الأصل والغاية.

وقى اللهُ الأمَّةَ شرَّ الفرقة والفساد.

[1]  لمن يريد شيئًا من التفصيل فليرجع إلى كتابات فيلسوف مصر وأستاذ علماء السياسة المصريّين والعرب؛ الراحل/ حامد ربيع، في سلسلة مقالاته ودراساته القيِّمة حول اختراق واحتواء العقل العربيّ والعقل المصريّ بالذات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *