د. طه العلواني
«المسجد» مكان مخصص للعبادة، لا تعلو فيه كلمة غير كلمة الله_ تعالى_ هو واحة لعبادة الله وذكره، وطمأنينة القلوب، وراحة النفوس المتعبة المرهقة بهموم الحياة، وضغوط المعيشة. فتجدد الأجسام التي أرهقتها الهموم خلاياها، وتستأنف قوى وطاقات الإنسان حيويَّتها وفاعليّتها ونشاطها لتتزود بما يساعدها على استئناف نشاطها الحياتيّ بعد كل صلاة جماعية بحسّ تقيّ نقيّ مرهف، ونفس مطمئنّة وقلب سليم.
والصلاة في المسجد جماعة تمنح رواد المسجد الإحساس بالانتماء إلى الأمَّة والمجتمع، والوعي «بالهُويَّة المشتركة» فيشعر المصلي الفرد القليل بنفسه أنه كثير وقد انضم إلى صفوف متراصّة متساوية كأنَّها بنيان مرصوص، صفوف تقف بين يدي الله_ تعالى_ تدعوه رغبًا في مغفرته، وطمعًا في رحمته، وتصلي له سبحانه قانتة خاشعة مخبتة، يشعر كل منهم بأنَّ كلًا من المصلين في هذه الصفوف أخٌ له لا تتم صلاته، ولا ينال ثواب الصلاة الجامعة إلا إذا التحم بمن على يمينه ومن على يساره كتفًا بكتف وقدمًا بقدم، مع توحّد القلوب وائتلافها_ وهو الأهم_ فصفوف المصلين لو اختلفت اختلفت قلوبهم. وإذا اختلفت قلوبهم، فذلك يعني أنّهم لم يستفيدوا شيئا من صلاة الجماعة. ولم ينالوا ثوابها. إنّ ضغوط الحياة المعاصرة ترتقي بأماكن العبادة إلى أعلى من مستوى أماكن لتلبية الحاجة الدينيَّة التعبُّديَّة، إنّها ترتقي بها إلى مستوى الضرورة الحياتيَّة للمجتمعات المعاصرة. ولقد شهدت العصور الأخيرة كثيرًا من الظواهر السلبيَّة التي أحاطت بدور العبادة وفي مقدّمتها المساجد: منها الإسراف في زخرفة بعض المساجد. ومنها التراجع في مستوى كثير من الأئمَّة والخطباء، إلى أمور كثيرة أخرى لا نطيل بذكرها؛ لكن أخطر ما اعترى المساجد في السنوات الأخيرة صراع بين الفئات من بعض رواد المساجد على السيطرة على إدارة المسجد بمستوى أو بآخر، وفرض أئمة أو خطباء من المنتمين إلي مذهب معين على باقي المصلين، ولا يتم ذلك دون صراع ومشاكل؛ لا مع الجهات الرسميَّة المسئولة عن المسجد كالأوقاف فحسب، بل مع الفئات الأخرى من رواد المساجد. وهذه الظاهرة الخطيرة عانت منها الأقليَّات المسلمة في أمريكا وأوروبا وغيرها من بلدان لا يشَّكل المسلمون فيها صفة الأكثريَّة، بل أقليَّة محدودة، ولا تكون فيها مؤسسات رسمية مثل الأوقاف تتولى الإدارة وتعيين الأئمة والخطباء وبقية موظفي المساجد، وهنا تبدأ الفئات الإسلاميَّة المختلفة المتصارعة نوعًا من الاستقطاب والصراع والحملات الانتخابية التي لا تخلو في كثير من الأحيان من انتهاك حرمّة المسجد، وتقل كثير من مظاهر الصراع الطائفيّ والمذهبيّ والحركيّ والحزبيّ إلى المسجد فيتحول المسجد من الصبغة التي ذكرنا إلى مركز أو موقع من مواقع الصراع الطائفيّ أو المذهبيّ أو الحركيّ، وأحيانا ينتهي الصراع بالمسجد إلى السقوط بأيدي الشرطة والقضاء التي قد تغلق المسجد إلى أن يقول القضاء كلمته في تحديد الفئة التي تتولى إدارة المسجد. وقد تنفق أموال كثيرة على المحامين في وقت تشتد فيه حاجة المسجد أو المركز الإسلاميّ إلى تلك الأموال، ألا يظن هؤلاء أنهم يقعون بفعلهم ذاك بين المعنيّين بقوله تعالى]وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ[ (البقرة:114).
أما الإساءة إلى سمعة الإسلام والمسلمين فهي إساءة وضرر خطير من الصعب تقديره بالأموال. إننا نرى هذه الظاهرة تعبيرًا صارخًا عن أزمة العقل المسلم، والأزمّة الفكريّة التي تهيمن عليه، بحيث صرنا نعجز أن نحافظ على حرمَّة مساجدنا وحياديتها لتكون لله وحده.
ترى هل يكون الحل بالتوعيّة على المساجد وحرمتها وبتوقيع ميثاق شرف بين جميع تلك الفئات التي شاركت في بروز هذه الظاهرة الخطيرة بأن تترك المساجد لله_ وحده_ يرتادها أبناء الأمة كافة من جميع الفئات والمذاهب بعيدا عن جميع أنواع الصراع، فهل من مستجيب؟!