Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

الفتوى والغرامة

أ.د/ طه جابر العلواني

منذ بدأت دراساتي في العلوم الشرعيّة نشأ في نفسي خوف شديد من الفتوى، وتهيُّب من ممارستها، وعزمت على ألاّ أمارسها في المستقبل، حتى لو بلغت مستوى الاجتهاد؛ ذلك لأنَّ أول الشيوخ الذين درست عليهم في الفلوجة قال ذات مرة: “إنَّ المفتي إذا اكتشف الخطأ في فتواه أو اجتهاده فإنَّ ذمته لا تبرأ عند الله إلا بعد أن يتأكد أنَّه قد بلَّغ كل الذين بلغتهم فتواه بأنَّه كان مخطئًا فيها، وأن يناشد من عمل بتلك الفتوى أن يتوقف عن العمل بمقتضاها، وإذا تعلَّقت الفتوى بحقوق آدميِّين حتى ضاعت عليهم بعض حقوقهم فإنّ المفتي المخطئ مطالب بالعمل على ردّ ما تسببت فتواه بضياعه على أهله؛ لينجو من إثم الفتوى التي أخطأ فيها”. ولم نكن قادرين على مناقشة شيخنا في تلك السن المبكرة في موضوع الخطأ والعفو عن الخطأ غير المقصود، خاصة إذا نجم عن اجتهاد معتَبر من أهله، وقد بقي ذلك الشعور مسيطرًا عليَّ حتى يومنا هذا، وحين قرَّرت الإقامة في أمريكا عزمت على التفرغ التام للبحث والكتابة، دون التصدي للفتوى وتوابعها، وإذا أضفت على الكتابة شيئًا فلا ينبغي أن يتجاوز ذلك التدريس والمحاضرة، ولكن لم تنتهِ السنة الأولى من إقامتي حتى وجدتني أستجيب لضغوط قيادات المجتمع المسلم هناك بترأس اللجنة الفقهيَّة لأمريكا الشماليَّة وكندا، التي طوَّرناها عام 1988م لتصبح المجلس الفقهيَّ لأمريكا الشماليَّة؛ فقبلت على مضض، وكنت أحيل سائر الاستفتاءات المهمة إلى المجامع الفقهيَّة الدوليَّة وإلى كبار العلماء والمفتين في العالم الإسلاميِّ، الذين يمثِّلون غالبيَّة المذاهب الإسلاميَّة، وحين تأتي فتاواهم قد أُضيف لها الأدلة والعلل التي استندت الفتوى إليها، وأعطيها الصفة التي تتقيد بها الآراء القانونيَّة، وتلقيت ذات يوم استفتاء من إدارة أكبر سجن من سجون نيويورك يقول: “إنَّ في السجن سجينًا أمريكيًّا مسلمًا يعتنق المذهب الشيعيَّ، وهو يصر على أنّ الصلاة خلف إمام سنيٍّ بالنسبة له لا تُقبل، ويريد منا أن نُعيِّن له وحده إمامًا شيعيًّا يؤمُّه في صلاته ويُرشده دينيًّا، فهل يجب علينا ذلك، وهل هو صادق في دعواه بأنَّ صلاة السنيِّ خلف الشيعيِّ أو الشيعيِّ خلف السنيِّ لا تُقبل؟”، فكتبت جوابًا -بعد التشاور مع العضو الشيعيِّ عندنا في المجلس الفقهيِّ السيد حسن القزويني- بأنَّ المسلمين إخوة، وأنَّهم يصلون خلف بعضهم، وأنَّ الإمام الخميني قد أمر الشيعة أن يُصلُّوا خلف أئمة السنّة في الحرمين وغيرهما؛ ولذلك فإنَّ لهذا الأخ أن يصلي خلف الأئمة السنّة الذين يستقدمهم السجن لإقامة صلاة الجمعة وتقديم الدروس، وأرسلت الفتوى إلى إدارة السجن، وما هي إلا أيام حتى تسلَّمت إشعارًا من المحكمة بأنَّ عليَّ الحضور أمامها في نيويورك للدفاع عن نفسي في الفتوى التي اتُّهِمت من قبل الأخ بأنَّني ما أفتيت بها إلا لأضيع عليه حقه الديني في الحصول على إمام من مذهبه، فطلبت من المحامي أن يذهب لتسوية الأمر مع المحكمة ويحمل معه فتاوى الشيعة في جواز الصلاة خلف الأئمة السنّة، ولكن المدّعي كانت معه فتاوى من شخص يحمل لقب «آية الله» تنصُّ على عدم صحة الصلاة خلف الإمام السنّي، وبعد أخذ ورد انتهى الأمر بأن أدفع من حرِّ مالي مبلغ خمسة آلاف دولار للمحامي وللغرامة، فاستذكرت نصيحة شيخي الأولى وأنا في الثانية عشر من عمري بألاّ أقرب الفتوى ولا أمارسها، خوفًا من الله أولاً، ونأيًا بنفسي عن المشاكل ثانيًا.

لكنَّ وجودي على رأس المجلس الفقهيِّ رغم المحاولات العديدة للاستقالة لم يتسبب في هذه الغرامة وحدها، بل دسَّ الشواذ جنسيًّا عليَّ، سألني أحدهم عن عقوبة الشذوذ الجنسي في الإسلام، وببساطة الشيخ وطيبة الفقيه أدركتني غفلة الصالحين فلم ألتفت إلى القرط المعَلَّق في أذنه، وذكرت له الحكم الشرعي في عقوبة الشذوذ الجنسي كما ورد في السنَّة وأقوال ومذاهب الفقهاء، لم أزد ولم أنقص، وما إن خرج الرجل من عندي حتى أقامت عليَّ جمعيّة «الشواذ المسلمين»!! التي كانت تحمل اسم «الفاتحة»!! دعوى قضائيَّة ذكرت فيها أنني أُحَرِّض على قتلهم، وأنشر ثقافة التفرقة «Discrimination» ضدهم، والكراهية لهم، وبعد جهود جهيدة مع قيادة الفاتحة وإمامها الضخم، البالغ من العمر ثمانية وأربعين عامًا، انتهى الأمر بخمسة آلاف دولار أخرى. فهل لي الحق بعد ذلك أن أتوب عن الفتوى وأبتعد عن الإفتاء، خاصة حين تكلِّف الفتوى مبالغ كبيرة مثل هذه بـ«العملة الصعبة»، إضافة إلى الصداع والقلق والوقت الضائع بين المحامين ووسطاء الخير مع هؤلاء، وهل لي أن أرجو القراء جميعًا أن يتوجهوا إلى الله بالدعاء لمساعدة المفتين وحمايتهم، وحفظ المسلمين من فتاوى غير المؤهَّلين، ومشكلاتها!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *