د. طه جابر العلواني
في البدء كانت الكلمة، فالكلمة أصل الخلق، فأصل الخلق « كُنْ»، وأصل الإنسان: ]إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً[ (البقرة:30)؛ ولذلك فإنَّ الكلمة، وإن كانت من أحرف يتم تشكيلها، إلا أنّ أهميتها أهميّة بالغة، فبكلمة واحدة دُمّرتْ «هيروشيما» و«ناجزاكي»، ولكن إعمارهما قد أخذ عقودًا، ومع ذلك لم يتحقق، كما أنّ الذين قتلوا وشرّدوا ليس من الممكن استعادة أي منهم.
وقد تتقدم المسؤوليّة عن الكلمة -شرعًا وقانونًا- على مسؤوليّة الفعل، فأهل الكلمة هم الذين يُقال عنهم «أصحاب القرار»، أمّا أهل الفعل فهم المنفذّون، ومن هنا فقد أخذت الكلمة -في ديننا وفي أعراف البشريّة كافة- موقعًا في غاية الأهميّة، لا كلمة صُنّاع القرار وحدها، ولكن أيّ كلمَة صادرة عن أهلها موجّهة إلى آخرين، فقد لا تقل أهميتها عن أهميّة كلمات صُنّاع القرار لما يترتب عليها من تأثير.
والكلمة قد يؤثر الزمن في إعطائها ثقلاً مضاعفًا، وقد يؤثّر المكان، وقد يجتمع تأثير الزمان والمكان فتضيع الكلمة، التي لو قيلت مجردة عن آثار الزمان والمكان ربما يعادل وزنها الأطنان، فإذا أضيف إليها عامل الزمان والمكان فإنّ تأثيرها ووزنها يتضاعفان أضعافًا كثيرة، خيرًا أو شرًّا؛ ولذلك فإنّ فقهاءنا وعلماءنا قد التزموا بتوصيات القرآن المجيد والنبي العظيم -صلى الله عليه وآله وسلّم- في فقه الكلمة وبيان أهميتها، كيف لا والقرآن المجيد ينصّ على أنّ الإنسان ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد؟! ولولا أهميّة القول وخطورة الكلمة لما قال -سبحانه وتعالى- ذلك، ونبّه الإنسان إلى أهميّة كلمته لما يترتب عليها، وحين تساءل معاذ -وهو يستمع إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم محذرًا من إلقاء الكلام على عواهنه- فقال: يارسول الله وهل نؤاخذ بما نقول؟ قال صلى الله عليه وآله وسلّم: “ويحك يا معاذ، وهل يَكُبّ الناسَ في النار على وجهوهم إلا حصائدُ ألسنتهم!”.
ولذلك كان أهل الحكمة من السلف، وقرّاء الصحابة، وأهل بيت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يحذّرون جدًّا من قول شيء قبل أن التفكير فيه وزنته وتدبّر عواقبه، وإذا كان أهل الفقه والعلم في تاريخنا قد أعلنوا تحريم بيع السلاح وتداوله زمن الفتنة، فإنّ الكلمة يقولها الرجل لا يُلقي لها بالاً -في زمن الفتنة- قد يهوي بها في جهنم لما يترتب عليها من إيقادٍ لنار الفتنة.
ومن هنا فإنّنا حين ننظر في تراثنا -الذي بُني على ما جاء في كتاب الله وما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- نجد تراثًا ضخمًا ومتنوعًا في فقه الكلمة وتقييمها، وإدراك المسؤوليّة الكبرى فيها، ويمكننا أن نجمع مجلدات كثيرة مما قاله علماءنا في فقه الكلمة ومسؤوليتها، والتحذيرات الشديدة من استعمالات الكلمة في زمن الفتنة لإلقاء المزيد من النار عليها، ولتحريض المتخاصمين بعضهم على بعض، ولإعطاء الفتنة الوقود الذي تحيا به.
لا شك أنّ زمننا اليوم زمن فيه فتنة، وأوطاننا -ونقولها بأسف شديد- أوطان تموج الفتن فيها موج البحر، لا تهدأ فتنة إلا لتظهر أخرى بأنواع ومظاهر وأشكال متنوعة؛ ولذلك فإنّ أهل الكلمة من أدباء وإعلاميين وخطباء وقادة رأي مطالبون بإن يحذروا أشدّ الحذر من إطلاق الكلمة دون انتباه لآثارها وما قد يترتب عليها، فإنّ ذلك قد يزيد في وقود الفتن، ويتطاير شررها ليُصيب الذين ظلموا ويُصيب الأبرياء، ويجعل منهم ضحايا لسوء استعمال الكلمة وعدم فقهها.
فكيف نستطيع أن نتحلى بالآداب التي أمرنا الله بها؟ لقد علّمنا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- كيف نتحلى بتلك الآداب، ولكن هذا أمر آخر قد يحتاج منا إلى بسط وتفصيل، ولكن ما وددت أن أنبّه إليه في هذا المقام هو ضرورة الالتفات إلى خطورة الكلمة، وأهميّة الوعي بها وفقهها، وإدراك المسؤوليّة عنها، سائلين العلي القدير أن يهدينا إلى الطيّب من القول ويُجنبنا الفتن… إنّه سميع مجيب.