د.طه جابر العلواني
“رمضان مبارك، وكل عام وأنتم بخير”…….
لكل شيءٍ صورةٌ وحقيقةٌ، فلا تُغني الصورةُ عن الحقيقةِ شيئًا وإن مثَّلت مظهرًا، ونحن -في شهر الصيام- أحوج ما نكون إلى أن ندرك أنّ جميع العبادات -التي أمرنا الله بها- لها صور وحقائق، فالإيمان -مثلا- له صورة وله حقيقة، فصورته أن ينطق المؤمن بـ”لا إله إلا الله وأنّ محمدًا رسول الله”، وحقيقته أن يؤمن بوحدانيَّة الله في ألوهيّته وربوبيّته وصفاته. وللصلاة صورة وحقيقة، فصورتها ما نفعله جميعًا حين يُنادى للصلاة فنقوم لأدائها فيما يُسميه القرآن المجيد «إقامة الصلاة» أو «إقام الصلاة»، وأمّا حقيقتها فهي تطهير للعقل والقلب والوجدان والسمع والبصر والفؤاد، وإسلام الوجه والبدن وقوى الجوارح لله تعالى بكل إخلاص، مما يثمر خشوعًا في القلب، وإخباتًا لله، وقنوتًا له، وآنذاك تقف الصلاة حارسًا على الضمير الفرديّ للإنسان، تُنبّهه إذا غفل وتُوقظه إذا نام، ولا تسمح للشيطان أن يتسلل إليه، ولا أن يكون له قرينًا، بل سيكون الإنسان ذا قلب سليم، مخلصًا لله، منفتحًا على تقواه، مُعْرِضًا عن الغفلة عنه -جلّ شأنه- وما يؤدي إليها.
لقد بدأنا الصيام، وهو عبادة من أجلِّ العبادات، وشهرها من أفضل الشهور وأكرمها عند الله، فهو شهر القرآن المجيد، وشهر البعثة النبَويّة لإنقاذ البشريَّة، وهو شهر الفرقان، مَنْ صامه وأقام لياليه -إيمانًا واحتسابًا وإخلاصًا وتوبة ومآبًا- غفر له في آخره، ونال جائزة الصيام والقيام في آخرته، ونال الحُسنين وحظي الفرحتين، فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه. وصورة الصيام كلنا يُجيدها ويُتقنها، ولكن المتقنين الفاقهين لحقيقة الصيام والقيام قليلٌ ما هم، فكيف نجعل صيامنا صورة وحقيقة لا صورة فقط؟ فالصور مردودة على أصحابها، فكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، وكم من قائم ليس له من قيامه إلا التعب والنصب، أولئك الذين يعنون ويهتمون بصورة الصيام والقيام لا بحقائقهما، أمّا الحقيقة فتعني أن يستحضر الصائم الإيمان وشعبه كلها، والبرَّ وخصاله كلها، والإسلام والإحسان كذلك، ويعمل على التحلي بكل خصال أهل الإيمان وحملة الإسلام، والمتصفين بالإحسان؛ ليكون من أهل القرآن ومن أهل رمضان، ومن الوارثين الذين يرثون الفردوس، فإذا لم يشعر الصائم بأنّ صيامه قد زاده إيمانًا، وأثمر في قلبه اليقين، وجعله يستقرئ خصال الإيمان والإسلام والإحسان ليقوم بها كلها، ويشعر بأنّ الحياة قد بدأت تدب في ضميره الفرديّ وحسّه وسائر قوى وعيه، فتذكّره بهويّته ووحدة أمّته، وضرورة تحري الصدق في انتمائه لها والعمل على إنقاذها وإنهاضها من كبوتها، وإعادة بناء وحدتها، فإنّه في هذه الحالة بحاجة إلى مراجعة صيامه وقيامه؛ ليتبيّن له نصيب الصورة منه من نصيب الحقيقة، فإنّ الصورة لا تحمل إلا المظهر الخارجي، فلو جئنا بصورة أسد ميت وحشوناه ليفًا وتبنًا فإنّ هذه الصورة لا يمكن أن تقاوم أي خطر يأتيها، ولو من دجاجة أو قطة أو عصفور يريد السقوط على ذلك الجلد المحشو الممثل لصورة الأسد، أمّا الحقيقة فتمثّل ذلك الحيوان المفترس، ملك الغابة الذي لا يستطيع أي حيوان آخر منازلته أو النيل منه.
إنّ هذا الشهر الكريم -وهو واحد من اثني عشر شهرًا في السنة- موسم لاسترداد الحقائق التي أضعناها، وموسم للانتقال من الصور الهامدة إلى تلك الحقائق الهادية المرشدة، وكم أتمنى أن أجد أبناءنا وبناتنا وإخواننا يتجهون نحو الانتقال من صور الإسلام إلى حقائقه، و من صورة العبادة إلى حقيقتها؛ ليُعيدوا بناء الأمّة المسلمة الواحدة، ويتحلّوا بالتوحيد الخالص والإيمان الكامل والتزكية الطهور، ويتحلوا بالاتجاهات العمرانيّة التي بها تُبنى وعليها تقوم الحضارات، فتعالوا نجعل من شهر صيامنا هذا مناسبة للانتقال من تلك الصور الباهتة في إيماننا وعباداتنا ومناهج تفكيرنا وسلوكنا وأخلاقنا؛ لنبني أنفسنا وأسرنا ومجتمعاتنا وأمّتنا البناء الحقيقي السليم، والله وليُّ التوفيق.