أ.د/ طه جابر العلواني
«الخوف» توقع مكروه عن أمارة أو دليل، مظنون أومعلوم، كما أنَّ «الرجاء والطمع» توقع محبوب عن أمارة أودليل مظنون أومعلوم، فالرجاء ضد الخوف ونقيض الأمن.
وقد وصف الله عباده المتقين بقوله: ﴿وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ (الإسراء:57)، وحين كان المشركون يخُوِّفون الأنبياء والصالحين منهم -بأصنامهم وشياطينهم- أعلنها سيدنا إبراهيم صريحة، فقال: ﴿كَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (الأنعام:81)، ويقول الله -جلّ شأنه- ليحذرنا من الخلط بين الخوف منه والخوف من غيره: ﴿تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ (السجدة:16)، فخوف الإنسان من الله مركّب مشوّب بالحب والرجاء، وبالطمع بمغفرته -سبحانه- ورضوانه، وبذلك يفارق الخوف من الله الخوف من غيره، فالخوف من الله -بذلك التركيب المعجز- يتحول إلى دافع للحركة الخَيّرة المستقيمة باتجاه الاستقامة والاعتدال والتقوى والعدالة؛ ولذلك قال جلّ شأنه: ﴿ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ﴾ (الزمر:16)، وفي الوقت نفسه نهى الله -تعالى- عن مخافة الشيطان والمبالاة بتخويفه، فقال جلّ شأنه: ﴿ إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران:175)، ولا يُعقل أن يكون تخويف الله -تعالى- مثل تخويف الشيطان، فالله -جلّ شأنه- متفرد في ذاته وصفاته وأفعاله، فهو -جلّ شأنه- ليس كمثله شيء؛ ولذلك فإنّ الخوف منه غير الخوف من الشيطان وسواه، والخوف من الله شيء له حقيقة مغايرة عن الخوف من الشيطان وأوليائه وغيرهما.
و«الخيفة» هي الحالة التي يصير الإنسان إليها بعد أن يستولي الشعور بالخوف عليه، كما قال تعالى: ﴿تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾ (الروم:28)، وتُطلق «الخيفة» أيضًا على مَنْ لازمته حالة الخوف.
و«التخَوّف» هو التّنقّص، كما في قوله تعالى: ﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ﴾ (النحل:47)؛ أي: يأخذهم أفرادًا وجماعات فينقصون، فهناك أقوام يهلكون دفعة واحدة برجفة أو صيحة أو ما شابه ذلك، وأقوام يُؤخذون على تخَوف؛ أي: تنقص فينتقي الموت خيارهم، كأنّه يصطفيهم اصطفاءً ويتـرك شرارهم وسفهاءهم، فتضطرب أحوالهم ويحقّ القول عليهم.
إذًا فـ«ـالخوف» حالة نفسيّة -يمكن أن تكون طبيعية- تُشَكل دافعيّة تدفع الإنسان لحماية نفسه والدفاع عنها عند الإحساس بالخطر، فينجو منه، والخوف من الله حذرٌ واعٍ من ارتكاب ما يؤدي إلى إغضاب الله -جلّ شأنه- أوارتكاب المخالفات والذنوب التي تجعل العبد مهددًا بالمصير إلى النار في الآخرة والضنك في الحياة الدنيا. والخوف إذا كان بشكل معتدل كان إيجابيًّا، فهو -كما قلنا- يُولّد الدوافع الخَيّرة التي تحمي الإنسان من المؤديات إلى التهلكة، لكنّه إذا زاد عن حده فإنّه يتحول إلى صفة مدمّرة تشل الإنسان عن الحركة، وقد تجعله يستسلم استسلامًا عجيبًا مخذولا، كاستسلام فريسة الضبع له، فمن المعروف في أخلاق الحيوان أنّ الضبع إذا أراد أن يقضي على فريسته فأول ما يفعله هو أن يقف في وجهها ويدفعها نحو خوف شديد تدرك به أنّها ميتة لا محالة، وأنّ المقاومة لن تنفعها، ثم يدعوها للسير خلفه، فيسير أمامها وهي تسير خلفه وقد شلها الخوف عن أي تفكير بالتصرف أو الهرب أو المقاومة، حتى يصل بها إلى منزله ليفترسها ويستمتع بالتهامها وهو في مأمن من مشاركة أي حيوان آخر له في فريسته، وكانت العرب إذا قالت: “فلانٌ مضبوع” فإنّها تعني بذلك أنّه قد أصبح مثل فريسة الضبع، يسير خلف صاحبه، مشلول الإرادة والتفكير، فاقد للقدرة إلا على السير خلف قاتله.
الظواهر السلبيّة في مجتمعاتنا:
انتشرت في الآونة الأخيرة في مجتمعاتنا الإسلامية ظواهر سلبيّة في غاية الخطورة، عجز الكثير من المحللين أن يجدوا أسبابًا لها، أو ذكروا لها أسبابًا غير مقنعة ولاتصلح تفسيرًا لها، ومن تلك الظواهر السلبيّة -التي أستطيع القول بملئ الفم أنّها ناجمة عن استيلاء الخوف على قلوب شعوبنا، ومشاعر أبنائنا، واستبداد ذاك الخوف بتلك العقول والمشاعر- منها الاستسلام واللامبالاة بالمصير ولا بما سيأتي ولا بالمستقبل، فضلا عن الحاضر، وهذه اللامبالاة لا يحتاج الانسان إلى بصر من حديد ليرى شيوعها وانتشارها بين الجميع، ومن برز لديه شعور بالاهتمام بما قد تأتي به الأيام فإنّه كثيرًا ما يلجأ إلى مقاومة ذلك الشعور بشَتى أنواع المقاومة؛ ليسكته ويتخلص من عذاباته، فبعض الناس يُسكته بمعارك وهميّة، أو –على الأقل- غير متكافئة، وبعضهم يُسكته بالأفلام والمسلسلات والروايات الهابطة التي لاتزيده إلا خبالاً، والبعض يُسكته بالخرافة والشعوذة والكهانة، وتفسير الأحلام، والاستغراق في المنامات وخرق رموز لها وتعبيرات ما أنزل الله بها من سلطان، والناظر في أحوال شعوبنا (العربيّة خاصة) منذ فترة طويلة يستطيع أن يعزوها إلى بدايات فترات الاستعمار وما تلاها وماترتب عليها من آثار مختلفة، حيث فقد الانسان -في عالمنا العربي والإسلامي- استقراره النفسي وطمأنينته القلبيّة، واهتمامه بنفسه وحاضره ومستقبله. وقد باءت بالفشل شتَى خطط التنمية والتطوير، بل وخطط التحديث التي وضعت لبلداننا، ولم تعد علينا إلا بالمزيد من الضياع والتيه.
و«الخوف» يقف في مقدمة أسباب الفشل، حتى صار الخوف من الفشل من أهم أسباب السقوط فيه، فنحن إن عمّرنا بلادنا وسلّحنا جيوشنا ونمّينا مواردنا فإنّ تجاربنا المعاصرة والغابرة تقول، ثم ماذا؟ سيأتي مستعمر مدمر ليدمر لنا كل هذا بين عشيّة وضحاها، وقد حدث ذلك في بلدان كثيرة، حدث في فلسطين، والعراق، ومصر وفي بلدان المغرب وفي إيران وغيرها، حتى صار بيت أبي العتاهية:
لِدُوا للمَوْتِ وابْنوا للخَرَابِ فَكُلُّكُمُو يَصِيرُ إِلَى التّرابِ
شعارًا من الشعارات في الأذهان وفي المجالس، إذ لم يُسمح حتى الآن لأي بلد عربي إسلامي أن يأخذ محاولاته للنهوض أويحقق أهدافه، إذ إننا نجد دائمًا عقبة أو عقبتين في الطريق تصادر ما نفعل، وتنحرف به، وقد تكون المصادرة متمثلة في تحريض حركات النهوض والإصلاح في ديارنا بعضها ضد البعض الآخر، وتلك أشدها على نفوسنا، ثم نجد أنّ المحاولات قد تبَخّرت، والجهود قد ضاعت.
إذا رجعت إلى نفسي لأضرب بها مثلا أقول: لقد ولدت بالعراق عام ١٩٣٥م، بعد أن أكملت الخامسة من عمري وطَعَنْتُ في السادسة ابْتُلِيَتْ بلادي بالاحتلال البريطاني الثاني، ومازلت أذكر أزيز الطائرات وأصوات القنابل التي كانت تقذفها على مدينتي الصغيرة الآمنة الهادئة على ضفاف الفرات الفلوجة، وما زالت أصواتها مألوفة لأذني، ولا أزال أذكر كيف كان يهرب أهلي ويهَربون بي معهم على الأكتاف طلبًا للنجاة من مكان لآخر حتى انقضت تلك الفترة بما لها وما عليها، ودخلت الابتدائيّة، وقبل أن أتخرج فيها أُعلن عن قيام إسرائيل، وقد سبق ذلك الإعلان تدمير كثير من القرى الفلسطينيّة من قِبَلِ المنظمات الإرهابيّة الصهيونيّة -الهاغانا، وزفاي، وشتيرن… إلخ- بشكل بشع، وكان الآلاف من الفلسطينين يأتون هاربين هائمين على وجوههم، تلتقطهم السيارات العسكريّة العربيّة لتنقلهم إلى بغداد، حيث أُقيمت لهم مخيّمات اللاجئين، وقبل أن يذهبوا إلى بغداد كان لا بد أن يمروا بمدينتنا الصغيرة، ويروون لنا قصص خوف مما يخلع القلب والعقل، وذلك يعني أنّني وأبناء جيلي كنّا نعايش تلك القصص المرعبة، ونعيش فيها، ونتسائل: “ترى هل تستمر إسرائيل في غطرستها حتى تحقق ما تزعم بأنّه نبوءة ووعد إلاهي، بأن تقيم ما بين النيل والفرات دولتها الكبرى، التي تحكم من خلالها العالم؟”، فكأنّها تضرب في فلسطين، ليس لتدمير الفلسطينين وحدهم فحسب، بل لتحطيم النفسيّة العربيّة وكل مقوّمات العرب والمسلمين المحيطين بفلسطين خاصة، وحين جاوزنا تلك المرحلة العُمريّة لم يهدأ الخوف كما كان يفترض أو يُتوقع، ولكن بدأ خوف من نوع جديد، ألا وهو خوف التوسع الإسرائيلي، خوفٌ من مؤيدي إسرائيل ومناصريها، خوف من البَغْضَاء التي بدأت تظهر على ألسن وأقلام وأفلام العديد من الغربيين، الذين صاروا -فجأة- مستنفرين من قبل القوم الذين قال الله فيهم: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾ (الإسراء:6)، حيث إنّ لديهم قدرة هائلة على استنفار العالم لتأييدهم عندما يريدون.
وبينما نحن على مقاعد الدراسة في السنة الثانية الجامعيّة، وكنت في مصر آنذاك، شنّتْ إسرائيل وبريطانيا وفرنسا على مصر العزيزة حرب ١٩٥٦م، مستهدفة نظام عبد الناصر لتخويف سائر الأنظمة والشعوب الأخرى، وحين أجبرتهم على الانسحاب ظروفُ المرحلة ووقوفُ أمريكا والاتحاد السوفيتي معًا ضدّ ذلك العدوان، فإنّ الخوف لم ينتهِ، بل استمروا في إرهابنا وتخويفنا، ثم عوَدَتْنا إسرائيل على أن تشنّ في أيّة نقطة تختارها بعد كل سبع سنوات -وقد تمتد إلى عشرة في بعض الأحيان- حربًا مُدمِّرة، فجاءت حرب العام ١٩٦٧م، ثم ١٩٧٣م، ثم ١٩٨٢م … وهكذا، وكانت كل تلك الحروب -مهما قيل عنها وعن نتائجها- تنتهي بتكريس حالة الخوف في نفوس أطفالنا وأبنائنا وشعوبنا، بل وحُكَّامنا، وما تزال الأمور جارية، ومياهنا كلها متـرعةٌ بالأساطيل الأجنبيّة، وأقطارنا كلها متـرعة بالقواعد الأجنبيّة، الأخطار تحيط بنا من كل جانب، وفي وسطها يولد أطفالنا، انظر إذا شئت إلى أطفال غزة وأطفال جنوب لبنان وأطفال العراق، وباكستان وأفغانستان، وأطفال البلدان الأخرى الذين يولدون في ظِلِّ الفقر والتشّرد فلا يكونون أقل سوء حظ من الأطفال الآخرين، مَنْ كانت القنابل تتساقط على المهد الذي يدرجون فيها، فتتناثر أشلاؤهم مختلطة بألعابهم إذا وُجد من يأتيهم بألعاب وبأدوات إرضائهم… وتستمر الحالة هكذا.
«حالة الخوف» الكامن والظاهر هي المسؤول الأول عن إيجاد أزمة ثقة بين حكَّام المنطقة وشعوبها، فقيل لبعض الحاكمين: لا خطر عليكم من إسرائيل، ولا من الصهيونيّة، ولا من المرابين الذين يأكلون أموالكم ويمصون دماءكم، ولا من تجَّار السلاح الذين يستهلكون أي فائض من أموالكم بتجاراتهم الفاسدة، بل أعداؤكم شعوبكم وشبابكم، خاصة أولئك الذين تُسَوِّل لهم أنفسهم أن يُقَصِّروا ثيابهم ويطَولوا لحاهم هروبًا من الواقع السيء إلى ماضٍ يمتلئ بالقوة وعناصرها، حيث كانت الدولة الإسلاميّة هي القوة العُظمى، فهؤلاء الشباب لا يحقّ لهم أن يرجعوا -ولو بالخيال- إلى ذلك الماضي السحيق، يعيشون فيه لحظات خيال ليتخلّصوا من إرهاق وتدمير هذا الحاضر المزعج الكئيب، قيل لهم: إنّ الخطر عليكم في خمار امرأة تُخَمِّر رأسها لتشعر بالانتماء إلى قوة الماضي هربًا من ذُلِّ الحاضر، وقيل للشعوب: حُكَّامكم خَونة، باعوكم لأعدائكم، ولم يمنحوكم ديمقراطيّة، ومنعوا عنكم الحرفيّة… إلخ، حتى بلغوا إلى مستوى جعل الحاكمين والمحكومين -معًا- يستنصرون بالخارج، ويطلبون منهم النجدة دون استثناء، فقد استنصر قوم بإسرائيل، واستنصر قوم بغيرها، وقبائل المعارضة والموالاة كلها تجري هنا وهناك؛ طلبًا للنصرة… ممن؟ من الضبع، لعلّه ينقذها، وهذا ضد طبائع الأشياء، وما درس العراق منا ببعيد، ومازال هناك مَنْ يتطلعون للاستنصار بالآخرين نتيجة أزمة الثقة، ولو أدرك الحاكمون أنّ شعوبهم أقرب إليهم من أولئك الذين يوالونهم، وأنّ استعادة مشاعر شعوبهم وولائهم ليس بالأمر المستحيل، بل هو أمر ممكن إذا شعر الحاكم أنّ شعبه وأهله وأسرته هم أقرب إليه من سواهم، وعليه أن يكون الأخ الأكبر والأب الشفيق، ولو رفعوا مستوى هذه الشعوب، وعلَّموها وحسَّنوا مستوياتها المعيشيّة والثقافيّة والعقليّة لأمكن أن يستردوها ويجعلوها سندًا لهم، وهم أولى وأقرب من الخارجي صدق أم كذب، وهم أولى وأقرب من الأجنبي أخلص أو غدر، علمًا بأنَّ الإخلاص لا يمكن أن يوجد بين فريسة ومفترس، فتلك صفات لا يمكن أن تقوم إلا بين المتكافئين، ولا من عمل جميع المخلصين على تصحيح هذه العلاقات وإعادة بنائها بناءً سليمًا.
إنَّ الشعوب قد زهدت في السلطة، وها أنتم ترونها لم تعد تهتم لتغيير حاكم ومنافسة متغلب، إذ كل ما تريده أن تعيش بشيء من سلام وشيء من ستر، وأن تأمن من الخوف، فإذا أطعمهم الحاكم من جوع وآمنهم من خوف، عظّموه وساندوه وباركوا له حكمه، فليتهم أدركوا ذلك واتجهوا إلى شعوبهم وصارحوها وبنوا معها المواثيق بدلا من بنائها مع الأجنبي، وخدموها بإطعامها من جوع وتأمينها من خوف، وهو أمر بالإمكان تحقيقه إذا خلصت النوايا واتفقت الإرادات؛ إرادات الحاكم والمحكومين، وزال الخوف من قلوب الاثنين، وعولجت أزمة الثقة في كل بلد بحسب ظروفه.
إنَّ ظاهرة الخوف التي نعيشها قد تغلغلت من كل جانب من جوانب حياتنا، فهناك خوف داخل كل إنسان وداخل كل أسرة وكل مؤسسة وكل فريق، فالأسرة لم تعد كما كانت، أسرة متماسكة تعي مستوى الروابط القويّة فيما بين أبنائها، ولذلك تفشّت نسبة العنوسة والطلاق في السنة الأولى من الزواج، إذ إنّ الخائف لا يستطيع أن يتحمل المسؤوليّة، أي مسؤوليّة، والخائف لايستطيع أن يبني مؤسسة، والأسرة مؤسسة، الزوج تحت وطأة الحياة الثقيلة يشعر بالخوف من المستقبل، بل من الحاضر أيضًا؛ لأنّ غالبيّة الأسر الجديدة تتكون وهي مثقلة بالديون التي سبّبتها مظاهر التـرف لتثبت الناس بها وببعض المظاهر الكاذبة، ولو عقلوا ونظروا إليها بعين الحقيقة ما وجدوا لها معنى يستحق أن يتشبثوا بها، مثل نفقات حفلات الزواج والمصاريف الباهظة التي تنفق عليها بدون عقل وبدون داع، وقد زاد العنف في الأسر، ودُمِّرت العلاقات، وانتشر في بعض الأماكن زنا المحارم وفي أماكن أخرى اللواط والشذوذ الجنسي، وفي أماكن ثالثة الزنا بأنواعه، وزيجات الأخدان السريّة وما إليه… وهذه الأسرة -التي تولّى القرآن تنظيمها منذ البداية إلى النهاية، وفصّل فيها ما لم يُفصّل في أي أمر آخر- قد أصبحت مع الأسف عرضة للانهيارات.
كما إنّ الهبوط بمستوى الشعوب لم يقتصر على ما تقدم، بل قد أُضيفت إليه أنواع أخرى من الهبوط، فقد انتشرت في الآونة الأخيرة الخرافة، كالسحر والشعوذة بكل أنواعها، يروّج لها أناس جهلاء، يرتدي بعضهم مسوح أهل العلم، وآخر ما يرجع إليه كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأهم ما يرجعون إليه قصص وأكاذيب ودجل وشعوذة، وكتبٌ كُتبت في عصور التخلف والانهيارات النفسيّة في فترات تاريخيّة مختلفة.
هؤلاء كرّسوا هذا، وكأنّ الأمّة ينقصها مزيد من الخوف فأرادوا استكماله، فصار الانسان منا يخاف من دخول الجن فيه، ويُخيَل إليه أنّه من الضعف بحيث يمكن أن يُقتل عن بُعد بالسحر والشعوذة وما إليها، فصار خائفًا من نفسه هذه المرة، فكأنّه لا يكفي له أن يكون لديه نسبة عالية من الخوف من كل شيء حوله، فزرعوا الخوف فيه من نفسه وذاته، وجعلوا الخوف يجري في عروقه مجرى الدم، فأنّى لأمّة يستبد بها الخوف بهذه الطريقة، ويتغلغل في جميع جوانبها النفسيّة والعقليّة أن تصوغ مشروعًا حضاريًّا أو مشروع نهوض؟
أمّا إذا ذهب الإنسان إلى المسجد ليلجأ إلى الله -سبحانه- ويعمل على تقوية قلبه بزيادة إيمانه فقد يفاجئه قصّاص مليء بالعُقد، ليتحدث إليه عن عذاب القبر، والشجاع الأقرع الذي سينام معه في قبره، وعن تفاصيل دقيقة عن جهنم، بحيث يصفها وكأنّه يراها، وبعضهم لا يبخل على سامعيه بدموع كاذبة وبكاء وتأوهات وابتهالات ودعوات أن يجنبه الله -سبحانه وتعالى- هذا النوع من العذاب أو ذاك، ولو التفت هؤلاء إلى عادات القرآن الكريم لوجدوها لا يُذكر فيها آية عذاب إلا تالية لآية رحمة ليتحقق التوازن النفسي، ويمتزج الخوف بالرجاء، ففي الوقت الذي يُرَغِّب -جلّ شأنه- في جنته يُرَهِّب من عذابه، فتحدث حالة توازن ليست كحالة الخوف من الأسد المفترس أو الكوبرا من الثعابين، بل حالة رجاء وطمع في رحمة الله، وتطلع إلى عفوه ورضاه ومغفرته، ورجاء فيما عنده ولما عنده، وبذلك لايكون الخوف خوفًا مدمرًا مُقْعِدًا، يشلّ الدافعيّة ويقضي على الفاعليّة، بل يكون أشبه بالهيبة والرهبة القائمين على الحب والتقدير. إنّه خوف الانسان ممن يحبه ويعظمه ويكْبره ويُمَجّده ويسبّحه ويسجد له ويرجوه ويطمع في مغفرته ويخافه، في إطار هذه المجموعة المتنوعة من المشاعر لا يمكن للخوف إلا أن يكون حالة إيجابيّة.
من هنا نقول إنّنا جميعًا مدعوون إلى معالجة حالة الخوف والعمل على التخلص منها، وبناء الوعي على الخوف الإيجابي الذي يحرص القرآن المجيد أن يُوجده فينا، والتخلص من التخوف السلبي بكل أنواعه وسائر ينابيعه ومصادره…
والله أعلم.