د. طه جابر العلواني
وُجهت لي ولثلاثة أساتذة مسلمين غيري الدعوة للمشاركة في ندوة في مركز «جورج شولتز»[1] للبحوث والدراسات، وهو مركز تبرع به وزير الخارجيّة الأمريكي الأسبق. وذلك لمناقشة الخطاب الدينيّ في العالم الإسلاميّ. كانت ندوة مصغرّة حضر فيها عدد محدود من كبار موظفي البيت الأبيض والخارجيّة والأمن القومي الأمريكيّ.
كانت الندوة ليوم كامل برئاسة مستر «هايس» أحد أهم رجال الكونجرس الجمهوريّين، وموضوعها الوحيد كان «الخطاب الدينيّ في العالم الإسلامي».
قلت في إجابتي عن الأسئلة الستة التي طرحتها الندوة:
من منطلق الحرص الشديد على تحقيق حوار بين حضارتين -أنتمي إلى كل منهما بنوع من أنواع الانتماء- وهما الحضارة الإسلاميّة التي شكلت عقليّتي وشخصيّتي وبنيت فيها، والحضارة الأمريكيَّة التي جئت إليها بشخصيّة قد تكوّنت سابقًا، لكنّها لديها انفتاح على أي جديد حسن يشكل إضافة؛ لأنّ طبيعة الثقافة الإسلاميّة طبيعة منفتحة تطلب العلم والحكمة دون اهتمام بمصدرها. فالاهتمام فيها في ذات الحكمة لا في الوعاء الذي خرجت منه، وإيمانًا منّي بأنَّ كلًّا من الحضارتين يمكن أن تشكّل عضدًا وسندًا قويًّا للحضارة الأخرى إذا أحسنت كل منهما فهم الأخرى وخصائصها وعناصر الالتقاء والافتراق بينهما، ولا شك أنَّ ما نحن فيه -الآن- يحتل أهميّته من هذه الزاوية؛ وذلك لأنَّ الهدف من هذه الّلقاءات لا يمكن أن يكون مجرد تقديم معلومات أو خبرة من مصدر من مصادر المعلومات أو الخبرة، وما ينبغي له أن يكون، كذلك ما ينبغي أن يكون الهدف مجرد إثارة نقاش لغرض النقاش، أو ملأ فراغ في برنامج لقاء أو مدارسة، بل الهدف ينبغي أن يتحدد بـ: كيف نتعاون لنوجد -معًا- أجواء صحيَّة للحوار بين العالم الإسلاميّ وثقافته وبقايا حضارته والولايات المتحدة الوارثة للحضارتين الهيلينيّة والرومانيّة ثم الأوروبيّة بعد عصر الأنوار،إن اعتبرناها مغايرة للحضارتين قبلها، راجين أن ينتهي هذا الحوار بتفاهم وتعارف وتآلف وتعاون لصالح الطرفين، ودخول أبناء الحضارتين في السّلم كافّة.
حين تلقّيت رسالة معهدكم أمضيت وقتًا طويلًا أكتب وأحذف، حتى أدركني ما يشبه اليأس من التمكن من إنهاء هذه الورقة بشكل يُرضيني -في الوقت المحدد- لخطورة موضوعها، خاصّة في ظل الظروف الراهنة،ولأهميّة العناصر والشخصيّات الذين ستُلقى عليهم، ثم رأيت أنّ من أفضل السُّبل لذلك أن أقوم بما يلي:
- أن أتجاوز الخلفيّة التاريخيّة للحضارتين -الإسلاميّة والأمريكيّة- وأن أركّز على الوضع الحالي الذي نحياه؛ تجنّبًا للاسترسال والإطالة.
- أن أقوم بتفكيك الأسئلة، أو الإشكاليّة التي أثارتها ورقة الدعوة؛ لأجعل منها أسئلة أساسيّة قد تستدعي وتُثير عشرات الأسئلة الفرعيّة، بحيث ينفسح المجال لمعالجة كثير من المسائل التي قد تحتاج لأكثر من ندوة أو مؤتمر حتى تتضح في الأذهان، ونتمكن من بناء تصوّر أو برنامج طويل المدى لحوار بين الإسلام وأمريكا، أو الإسلام والغرب، يتحدّد من خلاله جواب سؤال مطروح منذ وقت طويل،وهو: “أين يلتقي الإسلام والغرب، وأين يفترقان؟ ومَنْ هم أولئك الذين سيساعدون على تحقيق هذا اللقاء، أو سيعارضونه، ويعملون على تخريبه، سواء أكانوا من أبناء الإسلام وحده، أو من أبناء الغرب وحده، أو من أبناء الإسلام والغرب معًا؟”.
ولذلك فقد قمت بتفكيك الأسئلة والقضايا المثارة -في ورقة الدعوة- إلى سبعة أسئلة أساسيّة، وبدأت الإجابة عليها واحدًا بعد آخر، وبدون أيّ تحفّظ، فقد اعتبرت حديثي هذا حديثًا إلى النفس بحكم انتمائي للحضارتين معًا، أو تفكيرًا بصوت عال كما يُقال، وهو في سائر الأحوال تعبير عن همٍّ خطير يشغل أذهان الجميع الآن.
السؤال الأول: ما هي الحوارات الداخليّة التي تدور في أروقة المجتمع المسلم؟ والتي يُحبّ صنّاع القرار في أمريكا معرفتها؟
والجواب: أنّنا إذا رصدنا أهم أجهزة الإعلام العربيّة والإسلاميّة؛ من برامج تلفزيونيّة وإذاعيّة، وصحف يوميَّة، ومجلات أسبوعيّة وشهريّة، إضافة إلى خطب الجمعة ودروس المساجد ومجالس تداول الرأي المفتوح التي تُسمّى في بعض البلاد العربيّة بـ«الديوانيّات»، مضافًا إلى ذلك بعض الندوات وورشات العمل، فإنّ ذلك الرصد سيؤدي بنا إلى أنّترتبط سائر الحوارات -التي تدور الآن في المجتمع المسلم- وبدون استثناء بهمّ عربي إسلامي مشترك ذي ثلاث شعب متداخلة، وهي:
1- طبيعة علاقة العرب والمسلمين بأمريكا ثم أوروبا، وآثار تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر عليها، وكيف أبرزت هذه الأحداث هشاشة تلك العلاقة، وضعفها، بحيث حملت الكثيرين من المسلمين على الشعور بأنّ هذه العلاقات سرعان ما استلبت أمريكيا وأوروبا بعد ذلك، وتغيّرت -دون توقع من العرب والمسلمين- وبشكل جذري وحادّ لا يتناسب -في نظرهم- مع أحداث سبتمبر، وبدؤوا يناقشون أسباب هذا الإستلاب وهذه الهشاشة في العلاقة، متسائلين: أهي الذاكرة التاريخيّة للغرب، وهي ذاكرة ما تزال متـرعة بأدبيّات وذكريات وتراث الحروب الصليبيّة -التي سمّيناها نحن العرب «بحروب الفرنجة»- والتي تعبر عنها أدبيات وقصص وروايات وأفلام لا نهاية لها؟ أم هي العلاقة الوثيقة -بل العضويّة- بين التراث اليهوديّ/المسيحيّ الذي جعل آثار العلاقات الإسلاميّة/اليهوديّة المتأزمة تنعكس على العلاقات الإسلاميّة/الأمريكيّة/الأوربيّة، وبخاصة العربية منها؟ أم هي الأخلاقيَّات الميكافيليّة الكامنة في الطبيعة الغربيّة مع الآخر؟ أم هي محاولة استثمار ما حدث؟ وهو أمر لا يد للعرب ولا للمسلمين فيه، بقطع النظر عن انتماء الخاطفين للطائرات والمهاجمين لأهداف هجمات سبتمبر في نيويورك وواشنطن وبنسلفانيا إلى بلدان عربية ومجتمعات إسلامية؟ كل هذه التساؤلات وكثير غيرها مما يشبهها، أو يتفرع عنها، تدور -الآن- حائرة في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة.
وقد بدأت الغالبيّة العظمى -من المتعلّمين العرب والمسلمين- تميل إلى أنّ الغرب عمومًا وأمريكا على وجه الخصوص تستثمر بتعمّد وسابق إصرار وربما بخطة مبيّتة أو بنوع من «تواطؤ استراتيجيّ» تطرّف أو إرهابيّة «أسامة بن لادن» والقاعدة، التي أدينت وشجبت إسلاميّـــًا من سائر الهيئات والمؤسسات الدينيّة والقيادات العربيّة والإسلاميّة ومجتمعات الأقليّات المسلمة في الغرب وفي أمريكا خاصة، وتستغل أيضًا ما أطلق عليه «عدوانيّة صدام»، التي أُدينت عربيًّا وإسلاميًّا قبل أن تُدان غربيًّا، ومن خلال استثمار إرهابيّة «القاعدة»و«ابن لادن» وعداونيّة «صدام» و«البعثيّين» التابعين له يحاول الغرب -وأمريكا خاصة- بسط سيطرتها الشموليّة وفقًا لـ«ـمعايير الغرب الذاتيَّة» على سائر العرب وجميع المسلمين، قافزين ومتجاوزين أيّ فهم إيجابيّ لحقائق الشخصيَّة العربيَّة والإسلاميَّة، فارضين على جميع العرب والمسلمين عقابًا جماعيًّا لا سند له إلا منطق القهر الرومانيّ القديم المعروف تاريخيًّا، ويبدو أنَّ الغرب الحديث قد اعتبره إرثًا له أن يستحييه ويعتز به.
2- هناك تساؤلات كبيرة يُثيرها المثقفون في تلك المجتمعات العربيّة عن أسباب التأييد الأمريكيّ شبه المطلق لنهج شارون -في وقته- ولأيّ شارون يقوم في إسرائيل -وكل صقور إسرائيل شارون- تجاه الفلسطينيين من ناحية، ودعمه في رفض كل محاولات التسوية العربيّة، بقطع النظر عن أنَّ شارون لم يخف أنَّه لن يقبل من العرب عامة والفلسطينيّين خاصّة أقل من «الاستسلام التام الكامل» دون قيد أو شرط، وذلك قد أحرج سائر الأنظمة العربيّة والإسلاميّة الصديقة للغرب، وأفقدها القدرة على ممارسة أي دور يحفظ لها ماء الوجه، ويمكّنها من ضبط الأوضاع سلميًّا في المنطقة، إضافة إلى المعاملة المهينة للسلطة الفلسطينيّة وللفلسطينيّين، التي لا يوازيها في نظر هؤلاء المثقفين إلا تلك الإهانة التي مارستها أمريكا وبريطانيا على الشعب العراقيّ كله من خلال غاراتهما الجويّة التي لم تنقطع مدة اثني عشر عامًا، بعد تقسيم العراق -واقعيًّا- إلى ثلاثة وحدات من خلال المناطق المحميّة، وكذلك الحصار المفروض على العراق، وآثاره المدمرة على أبناء العراق باستثناء السلطة، ثم أنهت العراق وفكّكت كيانه، ودمّرت كل ما أنجزه ذلك الشعب خلال ثلاثة وثمانين عامًا، كما أنّ الأجهزة الإعلامية المختلفة-ومنها الأجهزة الغربيّة- تنقل من صور عنف الدولة الإسرائيليّة في فلسطين عامّة -وفي غزة خاصّة- ما لا يستطيع إنسان يعيش في هذا العصر احتماله أو إقراره، فإذا حاول المُضْطَهَد أو القتيل أن يُعبّر عن غضبه ورفضه لهذا الإذلال والتدمير -ولو بالانتحار- نسارع في أمريكا إلى شجب فعله واستنكاره، وجعله دفاعًا شرعيًّا لتسويغ ما ترتكبه إسرائيل، وتشجيعها على ممارسة مزيد من عنف الدولة، وتنقل أجهزة الإعلام الغربيّة يوميًّا -وبمستويات مختلفة- صور أطفال العراق وهم يحتضرون ويموتون في أحضان أمهاتهم، والمرضى العراقيّين وهم يفقدون حياتهم على أسرَّة مستشفيات محطمة، وبين أيدي أطباء عاجزين عن فعل أيّ شيء؛ لأنَّهم لا يملكون حتى حبة الأسبرين، أو جرعة البنسلين أو الأنسولين، أو أبسط الأدوية التي تباع في الغرب على الطاولات في محلات الأطعمة.
3- أمام كل ذلك يتساءل المثقفون والمفكرون العرب عن الأسباب التي جعلت أمريكا تتجاهل دور المثقفين والمفكرين، خاصة ذوي التوجهات الإسلاميّة الحضاريّة المعتدلة، ذات الطابع المنهجيّوالمعرفيّ، وعن أسباب عدم التواصل معهم، ودعم وحماية مؤسساتهم ومراكز بحوثهم، ومنتدياتهم -كما فعلت مع سعد الدين إبراهيم- لتعلو أصواتهم في الإطارين العربيّ والإسلاميّ على أصوات المتطرفين الذين كانوا موضع دعم وعون الغرب والولايات المتحدة -خاصة في فترة الثمانينيات- لتحقيق هزيمة روسيا وتفكيكها، ولإيقاف مد الثورة الإسلاميّة في إيران بدعم صدام. ولم يكن الغرب في حاجة إلى ذلك، فالثورة الإسلاميَّة في إيران -بحكم انبثاقها في إيران- ذات الأغلبيّة الشيعيّة والإثنيّة الفارسيّة لم تكن أمامها فرص للانطلاق خارج بلادها وتثوير العالم الإسلامي ذي الأكثريَّة السنيَّة المطلقة، وموجات التأييد للثورة بين الشباب العربي والمسلم لم تكن في مستوى قلب أو تغييب أو تغيير الأنظمة الصديقة لأمريكا أو تهديدها بشكل جديّ، فلم يكن لدعم صدام مسوّغ مع استبداده، ثم استدراجه حتى يصبح غولًا وخطرًا على المنطقة كلّها يستدعي إبعاده عن السلطة حربًا جديدة لا تُبقي ولا تذر، لا في العراق -وحده- بل في المنطقة كلّها.
هذه الجوانب الثلاثة والتساؤلات المتصلة بها هي التي تتحكم بمجريات كثير من الحوارات الداخليّة في العالم العربيّ والإسلاميّ في حدود اطلاعنا ومتابعاتنا للساحة ولو عن بعد؛ ولذلك فإنّ هناك شعورًا عامًّا بالإحباط، وظنًّا بأنّ أمريكا لا ترغب جديًّا بالحوار مع العرب والمسلمين، وأنَّها لا تريد بهم أو لهم خيرًا، وتتجاهل مفكريهم ومعتدليهم، ومن بينهم أصدقاء أمريكا نفسها، وأنَّ هناك تغييبًا متعمدًا لأجواء الحوار بين الحضارتين، ورغبة في التصعيد لأهداف استراتيجيّة واقتصاديّة ذات صلة بالعولمة، وأنّه يتماتخاذ كثير من أمراض المنطقة -التي يعدّها الكثيرون مسؤولة عنها- وإرهابيّة القاعدة وابن لادن ذرائع مخططة مسبقًا لذلك التصعيد، حتى صار الناس يتحدثون عن مخططات (بوش-بلير-شارون) لاحتلال المنطقة، والسيطرة على بترولها ومياهها، وتفريغها من سكانها العرب والمسلمين، وإذلالهم، وإهانة مقدساتهم، ويستدعي بعضهم الأساليب التي اتبعت مع الهنود الحمر، ويقارن بينها وبين الأساليب الأمريكيَّة التي تتبع حاليًّا في المنطقة.
أمّا على المستوى الدينيّ فقد نمّت هذه التصورات ردودَ فعل دينيّة وقوميّة ستنضج ولا شك،وستنتج تيّارًا صِدَاميًّا راديكاليًّا يولّد رفضًا لكل ما هو آت من الغرب ومن أمريكا بالذات، وأهم مؤشرات ولادة هذا التيّار رفع كثير من الشعوب العربيّة والإسلاميّة المسؤوليّة والإدانة عن صدام وابن لادن، والقبول النفسيّ والعاطفيّ لتصرفاتهما رغم الإدانة العقليّة لكل منهما.
فهناك -إذن- حالة غليان قد تنفجر في أيّة لحظة، ونتائجها على العلاقات العربيّة والإسلاميّة والأمريكيّة حاليّـــًا وفي المستقبل غاية في الخطورة.
السؤال الثاني:كيف تُدار الحوارات الدينيّة في المجتمع المسلم، وما هي قنواتها؟
الجواب: لهذا السؤال شقان، الأول الحوارات الدينيّة وكيفيّة إدارتها، والثاني قنوات الحوار التي يمكن أن تمثل آليّات لبلورة هذه الحوارات واستخلاص نتائجها، وتحويلها إلى برامج متنوّعة تؤسس لحركة المجتمع أو تساعد في توجيهها، فالسؤال هنا يستحضر خلفيّة حضاريّة ينطلق كل شيء فيها في إطار مؤسسات، وهذا أمر بدهيٌّ في الحضارة الأمريكيّة، وكان قائمًا في فترة تشكل الحضارة الإسلاميّة وانطلاقتها الأولى.
أمّا الآن فهذه المؤسسات لا وجود لها في العالم الإسلاميّ؛ ولذلك صارت كثير من الظواهر الفكريّة في المجتمعات المسلمة ترتبط بالأفراد لا بالمؤسسات، ولم تعد عمليات إنتاج الأفكار وربط حركة المجتمع بها متوفرة في إطار مؤسسي، لا لأنّ الإسلام نقيض «الديمقراطيّة»، أو لأنّه يقف ضد بناء «مؤسسات المجتمع المدنيّ» كما يتوهم كثيرون؛ فالإسلام يؤصّل لـ«ـلشورى» ويجعلها جماعيّة إلى حد كبير، ويطالب بها في كل موقف تقريبًا، ويرتقي بها إلى مستوى الفريضة الدينيَّة. ولكنّ الأسباب الحقيقيّة تكمن في التخلّف وقصور مستويات النمو والتعليم والتطور الاقتصاديّ والثقافيّ والتربويّ والاجتماعيّ، فكل المجتمعات المسلمة في العالم تعيش مرحلة ما قبل الصناعة، وتنظيمات «المجتمع المدنيّ» ذات الطابع المؤسَّساتي لا يمكن أن تنشأ من فراغ، وبلا أرضيَّة؛ ولذلك فهي لا توجد لديها، وإن هي وجدت فإنّها لا تملك ما يجعلها فاعلة بعد.
لكنّ المتعلمين -في هذه المجتمعات- يتطلّعون إلى وجودها وإبرازها وإعطائها الفاعليّة اللّازمة إن أمكن، مع معرفتهم وإدراكهم لما ذكرناه، وإلى أن توجد هذه المؤسسات -مؤسسات المجتمع المدنيّ- وتبدأ تأثيراتها على تلك المجتمعات المسلمة بالظهور ستبقى الروابط الطائفيّة والمذهبيّة والقبليّة -في بعض الأماكن-هي المنطلقات والمحاضن الأساسيّة، بمرجعيّاتها التقليديّة لهذه الحوارات وما يدور فيها، وحين يتصل الأمر بقضايا ومسائل إسلاميّة، أو بتوضيح مفاهيم أساسيّة من منظومة المفاهيم الإسلاميّة الكبرى؛ مثل «الإيمان» و«الولاء والبراء» و«الجهاد» و«الاستشهاد» وما إليها؛ فالقنوات والمرجعيّات الطائفيّة والمذهبيّة هي التي تكون لها الكلمة العليا في تفسير ذلك كله.
ومن المعروف أنَّ هذه القنوات يتحكم فيها -فقهيًّا-منطق «القياس التقليدي»، وتفسير آيات القرآن المجيد، والأحاديث النبويّة بمرجعيّتها الثقافيّة في المعرفة التاريخيّة، وأدواتها التي يرجع معظمها إلى عصر التدوين -تدوين العلوم الإسلاميَّة الذي بدأ من سنة (99-143هـ)- إذ لم تظهر بعد قنوات معرفيّة جديدة نوعيًّا تتولى تقديم رؤى بديلة، وتحدث نقلة نوعيّة.
فحين تُدِين أمريكا وأوروبا العمليّات الفرديّة الفدائيّة الفلسطينيّة، وتُدرجها تحت دائرة الإرهاب دون تمييز معرفيّ بين الشكل التنفيذيّ لتلك العمليّات -الذي يمكن أن يشبه في ظاهره العمليّات الإرهابيّة في الذهن الغربيّ- وتتجاهل المضمون الفلسفيّ والدينيّ والتاريخيّ لهذه العمليّات الفلسطينيّة، تقوم المرجعيّات المشار إليها بالدفاع عن هذه العمليّات وتزكيتها، وذلك بربطها بالجهاد والاستشهاد، وتُسمّيها «عمليات استشهاديّة» دون تمييز كذلك، فكأنّ الغرب يستدعي تراثه للحكم على هذه العمليّات، ويستدعي بعض فقهاء المسلمين ودعاتهم وتراثهم كذلك. وهنا يضيع الصوت المعرفيّ المنهجيّ المتزن القادر على التفريق بين الشكل والمضمون منهجيًّا، والذي يستطيع أن يستحضر طبيعة الصراع العربيّ الصهيونيّ بخلفيّاته الإسلاميّة في الدائرة العربيّة، واليهوديّة الإسرائيليّة في الدائرة الصهيونيّة، ويتجاوز منطق التراث الثوريّ الغربيّ والصراع من أجل تحكيم القانون والنظام، كما يتجاوز منطق القياس الفقهي التقليدي، وتفسير النصوص من خلال قاموس لغويّ جزئيّ، وبالتالي فإنّه يتمكن من تقديم رؤية ثالثة تتجاوز وصف تلك العمليّات بـ«ـالإرهابيّة»و«الاستشهاديّة» معًا، وتزنها بموازين تشمل سائر الأبعاد الاستراتيجيّة والمتغيرات المؤثرة في طبيعة الصراع «العربي+الإسلاميّ Xالصهيونيّ+اليهوديّ» معرفيًّا ومنهجيًّا وتاريخيًّا، مرورًا بالواقع الراهن والمستقبل المنتظر، وفي هذه الحالة لن نسمع تلك التقييمات الجزئيّة المتسرّعة لمثل هذه الوقائع من أيّ طرف، بحيث تستدعي تلك التقييمات المتسرّعة -من الجانبين- مشكلات إضافيّة جديدة تطيل عمر الصراع، وتنمّي أسبابه ودواعيه، فتستمر عمليّات السجال والفعل ورد الفعل، إلى أن يرى الطرف الأقوى يسر وسهولة الحل العسكريّ وكل ما يشتمل عليه من دمار وتخريب شاملين، وبكل ما يترتب عليه من آثار سلبيّة، وذلك ما حدث في حرب إسرائيل على غزة واستمرار حصارها.
إنّ أمريكا -الآن- كما يعتقد الكثيرون من أبنائها -فضلًا عن بعض المفكرين المسلمين والعرب- قد فقدت توجهاتها التحريريّة والتحرّريّة، وغيَّبت كثيرًا من قيم المؤسّسين لها، وبدأت تتعامل مع ما هو سائد من قنوات تقليديّة، فتحرم نفسها والمجتمعات العربيّة والإسلاميّة من فرص التعاون على بناء قنوات حضاريّة جديدة يمكن أن تشكّل دعائم بناء أساسيّة في حوار الحضارات والديانات، فتقدم للبشريّة ما هي أحوج ما تكون إليه اليوم؛ لنعيش في سلام!
السؤال الثالث: كيف تتصالح التأويلات المتصارعة المختلفة -في القضايا الدينيَّة- في المجتمعات الإسلاميَّة؟
للإجابة عن هذا السؤال نحتاج إلى ملاحظة جوانب عديدة، بعضها نظريّ وبعضها عمليّ، فالرغبة أو الدعوة إلى التصالح بين التأويلات المتصارعة موجودة ومتوافرة في العالم الإسلاميّ في إطارها النظريّ الذي يرتبط بأخلاقيّات «التسامح الدينيّ»،وفي تعاليم الإسلام كمٌّ وافر منها، فهناك دعوات للتقريب بين الأديان، وأخرى للتقريب بين المذاهب والطوائف، وذلك في الإطار النظريّ، القائم على إبداء حسن النوايا، وحتى إبراز بعض النصوص الدالة على مشروعيّة، بل وفوائد التعدد والاختلاف في التأويلات.
تاريخيًّا كانت الدولة الإسلاميّة تساعد على تحجيم تلك التأويلات، وقد تحرص على تعدّدها في الوقت نفسه، وتتبنَّى من بين الآراء والاجتهادات والتأويلات ما تراه منسجمًا أكثر من سواه مع مصالحها وسياستها، وتبقى التأويلات والاجتهادات الأخرى في ساحة هي أقرب ما تكون إلى الساحة الأكاديميَّة المعاصرة، يتداولها العلماء وطلابهم في مدارسهم، ويمارسون فيها رياضتهم الذهنيّة.
وكانت حين ترى أنَّ بعض هذه التأويلات قد تشكل مصدرًا لتشكيل طوائف ومذاهب جديدة، وتقوم هذه التأويلات -في الوقت نفسه- بدعم شرعيَّة وجود هذه الطوائف من ناحية، والتشكيك في شرعيّة الدولة من ناحية أخرى، آنذاك قد تتدخل الدولة بأشكال مختلفة، تتدرج من الحوار والجدل وعقد مجالس المناظرات إلى السجن والاعتقال، وربما المحاكمة والاتهام بالردّة، فالقتل، بحسب مستويات التهديد، وكثيرًا ما تقحم المؤسسة الدينيّة ممثلة بمفتين أو قضاة من بين عناصرها في هذه الإجراءات، أمّا في الوقت الراهن فإنَّ القنوات الموجودة -حين توجد- لا تُعدّ كافية لإيجاد مصالحة بين التأويلات المتصارعة؛ ولذلك نادينا بـ«ـأدب الاختلاف» لتدعيم أفكار التسامح، وقبول التعدد، ولكنّ أخلاقيَّة التسامح الدينيّ والمذهبيّ لها حدود تقف عندها ولا تتجاوزها؛ خوفًا من أن تفقد المجموعة الدينيّة أو المذهبيّة «مشروعيّة وجودها».
كما أنَّ بعض الخلافات حول التأويلات المتصارعة ليست سطحيَّة، بل ترجع أصولها إلى القرون الهجريّة الثلاثة الأولى، الموافقة للقرن الثامن الميلاديّ امتدادًا إلى القرن الثاني عشر، وهي فترات تَشَكُّل الفِرَق والطوائف الإسلاميّة العديدة وفقًا لتلك التأويلات، والتي بُنيت على أساس منها أنماط مختلفة من الأنظمة السياسيّة والمسلّمات، التي تحوّلت لدى بعضٍ منها إلى جزء من معتقداتها، وتأصّلت جغرافيًّا وديموغرافيًّا، وكانت لها صراعاتها الدمويّة عبر التاريخ، ومن هنا يتّضح أنَّ هذه الصراعات أو التأويلات المتصارعة سوف تستمر حتى لو أوجدت لها قنوات؛ مثل تعزيز دور الإفتاء الرسميَّة أو تشكيل مؤسسات مثل «رابطة العالم الإسلاميّ» في مكة، أو «مجمع البحوث الإسلاميَّة» في القاهرة، أو «مجمع التقريب» في طهران، أو المجامع الفقهيَّة العديدة، فالرغبة في إيجاد أجواء لتصالح الآراء في العالم الإسلاميّ لا يمكن تحقيقها بدون دعم وإنماء «أدوات معرفيَّة ومنهجيَّة» جديدة تُعيد قراءة تلك التأويلات المتصارعة -نفسها- وفي بيئة نشأتها التاريخيَّة لتُعيد تفسيرها، وتنفي عنها أسباب ودواعي الاختلافات الحادة التي تجعلها قابلة للتوظيف وإعادة التوظيف كما حدث في «حرب صدام والبعثيين ضد إيران»، فقد تم استحياء أكثر الآراء السنّــيَّة والشيعيَّة التاريخيَّة تطرفًا لتوظيفها في ذلك الصراع.
إنّ الحل المناسب لهذا هو إدخال تعديلات أساسيّة على مناهج تدريس العلوم الدينيَّة -كما فعلنا في برنامجنا في «جامعة العلوم الإسلاميَّة والاجتماعيَّة»- تتجاوز أحاديّات الطرح الطائفيّ والمذهبيّ، وتُعيد قراءة التراث وتقييمه وتفسيره بتصديق قرآنيّ، ثم الهيمنة بالقرآن عليه، بحيث ينشأ طلبة هذه الدراسات مستوعبين لأساليب ووسائل فهم وتفسير وتوظيف مختلف الآراء في صالح البناء الحضاريّ وإقامة العلاقات الإنسانيَّة المتوازنة، ورفع أيدي الحكومات عن هذا النوع من التعليم لحمايته من التوظيف السياسيّ والأيديولوجيّ تبعًا لتوجهات الأنظمة السياسيَّة في كل دولة.
السؤال الرابع:هل هناك مؤسسات دينيَّة في العالم الإسلاميّ السنّيّ مقابلة لما هو متوفر في المناطق الإسلاميَّة الشيعيَّة؟
الجواب: يرتبط البناء الفكري لـ«ـلسنّة» بالمفهوم «الجماعيّ العام» للدين الإسلاميّ، رجوعًا إلى مراحله التأسيسيَّة الأولى في مكة والثانية في المدينة في الحقبة النبويّة الشريفة، عبر حياة الرسول -صلّى الله عليه وآله وسلّم- ثم مرحلة الخلافة الراشدة من بعده -صلّى الله عليه وآله وسلّم- وهي الفترة الواقعة ما بين (11-40هـ)، الموافقة لـ(632-661م)، فالمجموع حوالي (52) سنة، فتلك الفترة تمثّل فترة تأسيس «الإطار المرجعيّ» للـ«ـمذهب السنّيّ» في مجالات الأصول والفروع، أمّا ما جاء -بعد ذلك- من مذاهب سنيّة فقد قامت على اجتهادات تلتزم -في كثير من الأحيان- بالإطار المرجعيّ، وأحيانًا تتخذ منه مؤيّدات وشواهد على ما تصل إليه اجتهادات المجتهدين وآراؤهم وقواعدهم في فهم النصوص وتفسيرها؛ ولذلك تعددت المذاهب داخل هذا الإطار المرجعيّ لتنقسم إلى مالكيّة وحنفيّة وشافعيّة وحنبليّة.
أمّا بالنسبة للمذاهب الأخرى غير السنّيّة فقد عُدّت مذاهب منشقة عن مذهب الغالبيّة المطلقة -مذهب «أهل السنة»- حين ظهرت بعض المقولات والآراء التي أعقبت معركة الخلافة بين علي ومعاوية في صفين سنة (37هـ-657م)، فكان على تلك المذاهب -المنشقّة- أن تبرّر انشقاقاتها عن التيار السنّيّ الإسلاميّ الجامع، سواء بدعم «شرعيّة التحزب لعليّ»أو تأييد «شرعيّة الخروج عليه»، وهذا قد اقتضى بناء طائفيًّا يقوم على أسس مفاهيميّة جديدة، تُعيد تأويل أحداث الفترة النبويّة الشريفة، وتتخذ موقفًا مغايرًا لما كان عليه الحال في فترة الخلافة الراشدة، فكوّنت هذه المجموعات «أيديولوجيا إسلاميّة» أدّت إلى تكوين مؤسسات للمحافظة عليها، والدفاع عنها، وتلك هي طبيعة كافّة الحركات المتفرعة أو الانشقاقيّة التي تنفصل عن تيار عام عبر التاريخ البشريّ، بغض النظر عن الحكم على هذه الحركات وتقييمها.
فالفرق بين التيار السنّيّ والتيار الشيعيّ والإباضيّ-بقطع النظر عن الفرق الداخليّة- هو الذي جعل المؤسسيّة تظهر في الإطار الشيعيّ ونحوه، ولا تظهر في الإطار السنّيّ، وقد أقام الشيعة دولتهم المتميزة في إيران باسم «الدولة الصفويّة» (1501-1732م)، فكانت دولة الإمام الخمينيّ هي الدولة الثانية التي تقوم في إيران بجهود المؤسسة الدينيّة،وعدم تجذّر العلمانيّة.
ومن هنا فإنَّ كيفيّة مخاطبة «العقل السنّيّ» أو «الرأي السنّيّ» تختلف عن كيفيّة مخاطبة «العقل الشيعيّ» أو «الرأي الشيعيّ»؛ فالخطاب الموجه إلى «الرأي السنّيّ» لا يتم عبر قنوات مؤسسيّة، بالرغم من امتلاك السنّة لمراكز توجيه دينيّ تمارس تأثيرها الدينيّ في المحيط السنّيّ، وتصدر الفتاوى -في بعض الشؤون- ولكنّها ليست مرجعيّات مطلقة أو شبه مطلقة يتبعها الناس فيما تذهب إليه، كما هو الحال بالنسبة للشيعة، ففي المحيط السنّيّ كان تأثير الأزهر في مصر قائمًا في العالم السنّيّ وكبيرًا إلى حد ما، قبل بروز علماء الخليج، بعد ظهور البترول فيه، كما كانت الزيتونة والقرويّين في تونس والمغرب مصادر تأثير في العالم السنّيّ المغاربيّ لفترة طويلة، وبعد أن خفت تدريجيّـــًا دور هذه المؤسسات برز دور أفراد؛ مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والنائينيّ وبعض علماء الهند ورشيد رضا، ثم علي ومصطفى عبد الرازق، وابن باديس والإبراهيميّ والمراغي وشلتوت وغيرهم، وأخيرًا الغزالي والقرضاوي، كما برز دور الحركات الدينيّة التي أسسها مفكرون مثل حسن البنا والمودودي، ثم الصدر وابن نبي وغيرهم. أمّا دور «الإفتاء» و«المجامع الفقهيّة السنّيَّة» و«رابطة العالم الإسلاميّ» و«مجمع البحوث» فإنَّها لا توازي -في تأثيرها- أو تُضاهي المرجعيَّات الدينيَّة المنضبطة كما في «قم» وحوزاتها في إيران أو «النجف» في العراق.
السؤال الخامس: كيف تتعامل المؤسّسات الدينيَّة التقليديَّة مع أصحاب الآراء والتأويلات المختلفة؟
الجواب:إنّ الانفتاح السنّيّ الملحوظ على تعدّد الآراء، وعدم وجود مرجعيّة مؤسّسية حاكمة وقابضة على شؤون وشجون الوضع الدينيّ-كما هو الحال في العالم الشيعيّ- يجعل هذا السؤال غير وارد في الإطار السنّيّ، بَيْد أنّ هناك «ارتباطًا وظيفيًّا» بين السلطة السياسيّة الحاكمة في البلدان السنّيّة وبين المؤسّسات الرسميّة الدينيَّة، تجعل بينهما نوعًا من التنسيق أو التعاون -في أي مستوى من مستوياته- عندما تبرز تأويلات تمسّ الجانب السلطويّ سياسيًّا.
وقد تُبادل السلطةُ السياسيَّةُ مؤسّساتِ الفتوى التعاونَ عندما تبرز آراء أو تأويلات تُسيء إلى العقيدة أو إلى ما هو معلوم من الدين بالضرورة بحسب فهم وتصورات المؤسّسات الدينيَّة، فتمضي تلك المؤسّسات في عمليّات عزل لأصحاب تلك الآراء قد تصل إلى مستوى التكفير للقائلين بتلك الآراء أو المقولات، وقد تطلب تلك المؤسّسات تقديم بعض هؤلاء إلى القضاء، أو عزلهم من وظائفهم العامة، أو الحكم بردّتهم وتطليق زوجاتهم أو استتابتهم، وقد تتعاطف السلطة السياسيَّة مع بعض هذه المواقف لئلا تفقد ولاء ودعم تلك المؤسسات حتى لو لم تؤمن بما تقوم عليه أو تذهب إليه.
السؤال السادس:هل هناك محددات وضوابط تحدد ما هو مقبول من التأويلات الدينيّة وما هو مرفوض؟ فإن وجدت، فما هي؟ وإن لم توجد، فما البديل؟
الجواب: هناك ضوابط ومحددات للاجتهادات موروثة، يغلب أن يلاحظها المتصدّون لتلك التأويلات إذا كانوا من داخل الدوائر الدينيَّة، أمّا التأويلات التي تأتي من خارج الدوائر الدينيَّة فغالبًا ما تُستقبل باستغراب شديد، وقد تُثير جدلًا قد ينتهي بصدور بعض الفتاوى ضد أصحاب تلك التأويلات، أو الاكتفاء بالإهمال أو الطعن بأنّ القائلين بها ليسوا من أهل الاختصاص، فتُحاصر حتى تنتهي وتفقد تأثيرها.
وقد تختلف المواقف من هذه التأويلات بين مؤسسة و أخرى بحسب نوعيّة الشيوخ القائمين على تلك المؤسسات.
السؤال السابع:ما هي الوسائل التي تتبعها الهيئات التقليديّة في نفي التعدّد والتنوع في الآراء والتأويلات في المجتمعات الإسلاميّة؟
الجواب: في الحقيقة ليست هناك سلطة دينيّة كـ«ـالفاتيكان» تستطيع أن تمنع -بسلطان الدين- أو تنفي التعدد والتنوع في الآراء والتأويلات في المجتمعات الإسلاميَّة، فالاجتهاد العقليّ يُعَدّ واحدًا من المسلّمات لدى العقل المسلم بكل أنواعه، لكن هناك ثقافة مشتركة وأعرافًا سائدة راسخة لا تقبل أن تكون عرضة لتقلّبات الرأي، واختلاف المواقف، فإحداث شيء في العقيدة والمسلّمات على مستوى الحذف أو الإضافة يُعدّ من الأمور المرفوضة على مستوى الثقافة والعرف العام؛ ولذلك فإنَّ أيَّة أطروحة تمسّ العقيدة لا يصعب على أفراد العلماء أو المؤسّسات أو طلاب العلوم الدينيَّة تبنّيه للرأي العام لمنافاتها للعقيدة، وضرورة رفضها، لتُحَاصر ويتوقف امتدادها -كما حدث«للماركسيَّة اللينييَّة»- في معظم أنحاء العالم الإسلاميّ، فلا تبرر مثل هذه الانحرافات بالتعدّديَّة والليبراليَّة ونحوها.
ومثلها ما يُعدّ من الأمور المعلومة من الدين بداهة؛ كوجوب الصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، وتحريم الزنا، واللّواط، والسرقة، والقتل، وما إليها؛ نحو عقوق الوالدين، فلو أبدى أحد رأيًا يدعو فيه إلى إباحة شيء من هذا النوع من المحرمات، أو إلغاء واجب من الواجبات، أو التقليل من شأنه، فإنّ رفض هذه الآراء ومحاصرتها يُعدّ جزءًا من الثقافة والعرف العام يقترب من القضايا المتعلّقة بالثوابت العقيديَّة.
أمّا الأمور الأخرى فهي ميادين اجتهادات وآراء متعددة، ولكن بحيث لا تصطدم تلك الاجتهادات مع الفكر الدينيّ السائد، فإن حدث ذلك فإنَّ هناك وسائل أدبيَّة ومعنويَّة للعزل والمحاصرة للخارجين على ذلك الفكر؛ من منع الكتب ومصادرتها، ومعاقبة ناشريها والمروّجين لها، فضلاً عن كاتبيها.
وهناك وسائل أخرى، فإذا انتفت تعدّديَّة الرأي أو تنوّعه إلى ما يضعف سلطان الدولة أو يشكك في شرعيّتها فقد تستصدر من المؤسّسة الإفتائيّة في البلاد ما يُسوّغ لها معاقبة ومحاصرة أصحاب تلك الآراء، كل حالة بحسبها، وقد تلجأ الدولة –آنذاك- إلى تجفيف مصادر الدعم المالي، وقد تلجأ إلى فصل المخالفين من وظائفهم، أو حبسهم، أو منعهم من السفر، أو ترويج الشائعات المسيئة ضدهم، أو أي أسلوب آخر تراه مجديًا في محاصرة آرائهم وإفقادها فاعليّتها وتأثيرها.
وفي الختام نستطيع القولأنَّ هذه الأسئلة -على أهميَّتها-لا نجد فيها جديدًا، بل أسئلة أعادت إلى الذاكرة أسئلة الحداثة، ومحاولات أوروبا -بعد انتصارها على العثمانيّين والألمان في الحرب العالميّة الأولى- طرح تلك الأسئلة على نفسها وعلى النخبة من المسلمين التي تأثرت بالغرب منذ دخول نابليون مصر سنة (1798م)، ولكن ماذا كان مصير الحداثة في العالم الإسلامي؟ لقد انتهت إلى مزيد من التخلف الاقتصادي والتفكك الاجتماعي والتطرف والرجعيّة الثقافيّة، كما أنّها كرّست التصاق العالم الإسلاميّ بتراثه إلى درجة جعلته يحاصر كل حركات التجديد والإصلاح، مثل الأفغانيّ وعبده ومَنْ إليهم، ويقضي على تأثيرها أو اتجاهها.
ويخطئ مَنْ يظن أنّ الدين هو العائق الذي وقف في وجه الحداثة، أو أنّه هو الذي امتص وأجهض محاولات التحديث؛ والحقيقة أنّ الدين كان يمكن أن يكون أهم العوامل الإيجابيّة في إقناع العالم الإسلاميّ بقبول الحداثة وتبنّيها، بل وأسلمتها، لكن الجهل بطبيعة الشخصيّة الحضاريّة العربيّة والإسلاميّة، وقياس أوروبا -في حينه- العالمَ الإسلاميّ على البوذيّ والوثنيّ واليابانيّ جعلتها لا تنظر بدقة إلى خصائص الشخصيّة العربيّة والإسلاميّة، وعلاقتها بالإسلام، وطريقة استقبالها للجديد، خاصّة الآتي من «الآخر».
وبالنسبة للأمريكان-مسلمين وغير مسلمين-هم في حاجة أن يطرحوا على أنفسهم السؤال التالي: ماذا نريد من العالم الإسلامي؟ ويحدّدوا بدقة إجابتهم على هذا السؤال، كما يحتاجون إلى دراسات متعمّقة لمحاولات التحديث من خلال نماذجها المختلفة في تركيا والعالم العربيّ-بصورة خاصّة- اللتين كانتا أكثر تعرضًا لتبنّي تجارب الغرب من سواهما، ومع ذلك لا يزال التخلّف -بكل أشكاله- ضاربًا بأطنابه في ذلك العالم، في حين أنّ دول الخليج -وخاصّة السعوديّة- قد استطاعت أن تتقبل من الحداثة نسبة أكثر مما تقبّلته بلدان أخرى مع وجود التديّن والنزعات القبليّة والطائفيّة ونحوها.
إنّالأمريكان محتاجون لأن يطرحوا على أنفسهم-إضافة إلى ما ذُكر- الأسئلة التالية:
- ماذا نريد من العالم الإسلاميّ بالتحديد؟ وهذا الذي نريده، هل نريده لأنفسنا كأمريكان أم لغيرنا؟
- هل نريد أن ننقل إلى العالم الإسلاميّ مضامين حضارتنا أو أشكالها، أم المضامين والأشكال معًا؟
- هل نستطيع أن نحقق انسجامًا مقنعًا بين مبادئنا وقيمنا وسياساتنا في ذلك العالم؟ أم أنّنا نجد أنفسنا مضطرين أن نتعامل معه بوجهين وأن نتجاهل قيمنا وتراثنا عند التعامل معه؟
- هل فقدنا الأمل في إمكان أي تعايش بين الإسلام والديانتين الإبراهيميتين الأخرتين؟ أم أنّنا لم نعطِ هذا الجانب ما يستحقه من اهتمام؟
- هناك أسئلة أخرى لا بد من إثارتها لكي نتمكن من بلورة تصوّراتنا وفهمنا لهذا العالم العجيب، وشكرًا.
[1]الخارجية الأمريكية سبتمبر 2002