Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

مفهوم العمى

أ. د. طه العلواني

تبدو عظمة مفردات القرآن المجيد وتحدي كلماته بغزارة المعاني التي تحملها؛ حتى تبدو كل كلمة من كلماته مفهومًا قائمًا على سوقه، أصله ثابت وفرعه في السماء. ومن تلك المفردات التي نستطيع أن نلمس ذلك فيها -أنتم معشر القرّاء وأنا-: «العمى» -أعاذنا الله وإياكم منه-؛ فالعمى يقال في افتقاد «البصر والبصيرة»، وعلى الأول قوله تعالى: ]أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى[ (عبس:2)، وهذا لا يُذمّ صاحبه، كما لا يُذم أيّ نقص خِلْقيّ: ]لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ[ (النور:61).

أمّا العمى المذموم فهو عمى «البصيرة»  الذي قد يصاحبه تعامي الأبصار وقد لا يصاحبه، وعليه يحمل نحو قوله تعالى: ]فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ[ (الحج:46)،  وقوله: ]وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا[ (الإسراء:72)،  وقوله: ]وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى[ (فصلت:44)،  وقوله تعالى: ]إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ[ (الأعراف:64).

ويقال: «عمي الأمر عليه» أي: اشتبه.  وقوله : ]فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ[ (القصص:66) أي: غميت واشتبهت. «ومعمي الأرض»  مجاهلها التي لا أثر فيها يهدي السائرين.

وفي ثقافة مجتمعاتنا يستهجن الناس ذكر النواقص الخِلقيّة لما تستلزمه أو توحي به من نقص في صاحبها عن سواه؛ ولذلك درج الناس قبل انهيار ثقافتنا أن يقولوا للأعمى: «بصير» وللأعور: «كريم العين» لئلا يذكروا شيئًا قد يشعر صاحبه بالنقص عن الآخرين؛ ولذلك فإنّ السِّفلة من الناس قد يعيّرون الإنسان بما ابتلي به من عاهة يريدون بذلك إشهاره بأنّه أقل من غيره.

فكأنّ نقص الخِلقة يستلزم نقصًا في الخُلُق. قيل: إنّ معاوية لقي ابن عباس يومًا وكان «أرمد» -أي: أصيب «بالرمد»- فقال معاوية له: ما لكم يا بني هاشم تصابون في أبصاركم عند الكبر؟ فقال له ابن عباس: كما تصابون في بصائركم يا معاوية. ويُعد هذا في الأجوبة المسكتة، يرضى الله عنا وعنهم أجمعين. وقال أحدهم لطه حسين: كيف عميت، ولماذا؟ فقال: أراد الله أن يحميني بذلك من رؤية أمثالك!!

ودخل أحد علماء اليمن على الشيخ عبد العزيز بن باز، فتناظرا في مسألة علميَّة قادتهما إلى مناقشة موقف العلماء من “مسألة المجاز في القرآن الكريم”، وكان الشيخ بن باز يتبنَّى موقف ابن تيميَّة في المسألة، القائم على نفي وجود المجاز في القرآن، وكان الشيخ اليماني على مذهب الأشاعرة في المسألة؛ يرى وقوع المجاز في القرآن، وحين طال الجدل بينهما دون حسم، قال الشيخ اليماني للشيخ بن باز: يا شيخ إنّك ستحشر يوم القيامة أعمى، ولن تنظر إلى وجه ربنا –تبارك وتعالى- لأنّ الله تعالى قال: ]وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا[ (الإسراء: 72)، وأنت في هذه أعمى ولا تقول بالمجاز، فيلزمك على مذهبك أن تكون في الآخرة أعمى !! فأطرق الشيخ ولم يجب.

وقد كثر الحديث عن ذوي الاحتياجات الخاصَّة في عالمنا العربيّ في الآونة الأخيرة، وهي ظاهرة صحيَّة تحتاج إلى أن نترجمها إلى إجراءات وأعمال على جميع المستويات، فعلى المستوى الثقافي لا بد من العمل على تنقية ثقافتنا من كل ما يحمل معنى الإهانة أو التفريق بين من ابتلي بعاهة، ومن لم يبتل بذلك، وعلى مستوى الخدمات لا بد أن نقدم لأصحاب الاحتياجات الخاصة سائر الخدمات التي تريحهم، وتحوّلهم إلى عناصر منتجة.

إنّ العالم الغربي بالذات قد قطع أشواطًا متقدمة جدًّا في خدمة هذا القطاع من المواطنين، يمكن اقتباس كثير منها وإضفاء الصيغة الإسلاميّة عليها، وإضافة ما في تراثنا وفي حجج الوقف -من إضافات حضاريّة كثيرة- عليها لنشكل منظومة عناية بهؤلاء، تُزيل عنهم المشاعر السلبيّة، وتُعيد لهم الثقة بالنفس وبمجتمعاتهم المسلمة، بإذن الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *