Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

نحو مفهوم قرآنيٍّ للسياحة

 

د.طه جابر العلواني

أصل «السياحة» مأخوذ من «سَوَحَ»، والساحة المكان الواسع، يُقال: «ساحة المدينة» و«ساحة الدار» فناؤه الواسع، و«السائح» الماء الجاري. ويقال: «ساح فلان» إذا تحرَّك ومرَّ مرورًا، تشبيهًا له بالماء السائح أو السائل. والقرآن المجيد دعا إلى السير في أرض الله الواسعة، والمشي في مناكبها، وآياته الكريمة تنبِّه إلى أن «السائحين» هم أولئك الذين يتحرَّون الدروس والعبر والمعرفة: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحج:46)، ففيها إثراء لخبرات الإنسان وتجاربه ومعارفه وعلومه، وخاصَّة المعرفة بالشعوب وثقافاتها وحضاراتها وأديانها وتقاليدها وأعرافها، وسياحة راشدة في بلد ما قد تُغنيك عن قراءة عشرات الكتب، بل والمقرَّرات الدراسيَّة عنه.

وعلم الإنسان أو ما يعرف بالأنثروبولوجيِّ، دعامته الأساسيَّة السياحة، وهو عليها يعتمد وبها يقوم، وهو من أبرز العلوم الإنسانيَة وأكثرها خصوبة وثراءً في قدراته التفسيريَّة للعديد من الظواهر بين الثقافات والحضارات واختلافات الشعوب. ومن ملامح الإعجاز القرآنيِّ توظيفه هذا المفهوم في سائر معانيه المتسامية، فمن معاني السياحة، الصوم الحكميُّ، فالسائح في حكم الصائم، عليه أن يحفظ سمعه وبصره وسائر أعضائه عن الفحشاء والفجور. و«السائحون» الذين أثنى الله عليهم هم أولئك الحافظون والحافظات لحدود الله، لأنَّ السائح حين يترك بيئته الأصليَّة إلى بيئة أخرى قد يشعر كأنَّه تحرَّر من رقابة بيئته وأهله ومعارفه، وضغوطهم، وقد يجعله ذلك يُرخي لنفسه العنان، فيرتع بما هو متاح من محرَّمات قد لا يفعلها في بيئته؛ لئلا يعرِّض سمعته للمخاطر، ومثل هذا عليه أن يعلم بأنَّ الله يرى ورقابته أعظم وأشمل وأدق من رقابة البيئة والمجتمع مهما كانا. وإذا كانت المفاسد والانحرافات متاحة فلا ينبغي للإنسان أن يكون كالبهيمة السائمة، ترتع في كل ما هو متاح ولا تتوقف إلا إذا ألجمت وحبست.

إنَّ «السياحة» بالنسبة للإنسان المسلم رسالة وميدان آخر غير بيئته، عليه أن يُري الناس الذين يزور بلادهم أفضل ما لديه، وأحسن ما في الإسلام وسلوك المسلمين. إنَّ البلدان التي تريد للسياحة أن تنمو فيها وتزدهر تحتاج إلى أمرين استنباطًا من سورة قريش: ﴿لإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ (قريش:1-4)، إذ إنَّ أهم ما يحتاجه السائح الجاد الرخص في التكاليف الضروريَّة؛ الطعام والفنادق والمواصلات والأمن على نفسه وماله، كذلك لا بد من إشاعة «ثقافة السياحة» وتقديم البرامج التي تعطي الراغبين في السياحة أفكارًا ومعلومات أساسيَّة عن الأماكن المختلفة، وكيف يستفيد السائح من الإمكانات السياحية فيها، فقد تنوعت السياحة واحتياجات السائحين.

إنَّ المسلمين يحتاجون إلى النظر إلى هذا الجانب نظرة ملائمة، فالسائحون ذكرهم القرآن المجيد مع التائبين العابدين الحامدين: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (التوبة:112)، ورسول الله -صلى الله عليه وآله وسلَّم- أخبر بأنَّ الله -تعالى- “قد جعل لنا الأرض مسجدًا وطهورًا”، “وقد زوى له الأرض فرأى مشارقها ومغاربها…”، فلا ينبغي أن تعالج بعض الأعراض الجانبيَّة للسياحة بدعاوى المنع والمضايقة، بل بالترشيد والتصحيح وإعادة بناء المفهوم، وآدابنا العربيَّة حفلت ببناء أدب للرحلات والسياحة والأسفار، وقد نسب للإمام الشافعيِّ قوله:

تَغَرَّب عن الأوطانِ في طلبِ العُلى وسافرْ فَفِي الأَسفَار خَمْسُ فَوَائِدِ
تَفْرِيجُ هَمٍّ واكْتِسَـابِ معيشةٍ وَعِلْم وآدَابٌ وصحـبةُ مَاجِدِ

وقال بعضهم في الحضِّ على مغادرة أرض الذلِّ:

ارْحل بِنفسكَ من أرضٍ تُضام بهـَا وَلا تَكُن مِن فِرَاقِ الأَهلِ في حَرَقِ
فَالعنبر الخَامُ روثٌ فـِي مَواطِنـِه وَفِي التَّغَرُّب مَحْمُول على العُنُـقِ
وَالكُحْلُ نَوعٌ مِن الأَحجارِ تَنْظُـرُهُ فِي أَرْضِهِ وهو مَرْمي عَلى الطُرُقِ
لَمَّا تغرَّب حـَاز الفَضْـلَ أَجْمَعَـهُ فَصَار يُحْمَل بَين الجفـنِ والحـَدَقِ

وقال آخر:

إذا أنكرَتْـني بلدةٌ أو نَكَرْتُها خَرَجْتُ مَع البازيِّ عَلَيَّ سَوَادُ

وقال آخر يصف حال الغريب:

إنَّ الغريبَ لهُ مَخَـافة سَارقٍ وَخضوعُ مديونٍ وذلة مُوثَقِ
فَإِذَا تَذَكَّـرَ أَهْلَـهُ وبـِلادهُ فَفُؤادُه كَجَنَاحِ طيرٍ خافـقِ

وقال آخر في الحضِّ على الترحال:

مـَا في المقامِ لذِي عقلٍ وذي أدبٍ من راحةٍ، فدع الأوطانَ واغتربِ
سَافر تجد عِوَضـًا عمن تفارقـه وانصبْ، فإنَّ لذيذَ العيشِ في النَّصَبِ

ونُسب للإمام الشافعيِّ قوله:

إِنِّي رأيـتُ وقـوفَ المـاءِ يُفسـدُه إنْ ساحَ طابَ، وإنْ لم يجرِ لم يطـب
والأسدُ لولا فراق الأرضِ ما افترستْ والسهمُ لولا فراق القوسِ لم يُصِـب
والشمسُ لو وقفتْ في الفلكِ دائمـةً لَمَلها النَّاس من عَجَمٍ ومـن عَـرَب
والتبرُ كالترب مُلقـى فـِي أماكنـِه والعُود في أرضهِ نوعٌ من الحطـبِ
فَـإنْ تَغَـرَّبَ هَـذا عـز مطلـبِـهِ وَإنْ تغـرَّبَ ذلـكَ عَـَّز كَالذَّهَبِ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *