د.طه جابر العلواني
زار المنطقة خلال الأسابيع الماضية شخصيَّتان رمزيَّتان، لكل منها وزنه العالميُّ وثقله الدوليُّ وتأثيره الدينيُّ والسياسيُّ، لبس رجل الدين منهما ثياب السياسيِّ لبسط سلطان الكنيسة ومدِّ نفوذها، ووضع سياج حولها يحميها من أيَّة رمال متحركة، حتى لو كان مصدرها الكنائس الشرقيَّة، ذلك هو بابا الكنيسة الكاثوليكيَّة «بنديكيت».
والعلاقة بين الدينيِّ والسياسيِّ في الكنيسة الكاثوليكيَّة حين هيمنت على سياسات الدول والملوك والأباطرة والنبلاء فيها قادتها إلى حروب وسياسات قمع كثيرة، فاستقر في العقل الذي صار يُسمى أوربيًّا أنَّ الكنيسة لو سيطرت على السياسة أفسدتها، فوضعت كثيرَا من الحدود والقيود على الممارسة السياسيَّة للكنيسة الكاثوليكيَّة، وأقنعتها بأنَّ عليها أن تقبل وظيفة سامية تقوم بها لصالح السياسة إذا احتاجت السياسة ذلك، لكن ليس لها أن تتجاوز حدود موظَّف -بالدرجة الممتازة أو السامية- يُطلب منه أداء مهام معينة، إذا انتهت عاد إلى زاويته في الفاتيكان في قلب روما، فحضر البابا يقدم رسائل سياسيَّة للمنطقة في بؤرة مشكلاتها والمنطقة الملتهبة فيها تحت ستار الحج. وفي ذاكرتنا التاريخيَّة هذا الحج دائمًا يقترن بمنافع لهم، ويكون مقدِّمة لأحداث هامَّة وخطرة، أو تتويجًا لأحداث سابقة.
فحجُّ آباء الكنيسة تصاحبه أو تعقبه أو تتقدَّمه حروب ومحاولات بسط نفوذ واستلحاق واستتباع، وأول مَنْ يتضرر به أو يشعر بالتهديد كنائسنا الشرقيَّة.
اقترن اسم «بنديكيت» بتوجيه رسالة مهينة للإسلام، رفض -وما يزال يرفض- الاعتذار عنها إلا بشكل ضعيف، ألا وهو أنَّه نقل عن سواه «وناقل الكفر ليس بكافر»، وهذا عذر أقبح من ذنب، فالرجل كان أستاذًا جامعيًّا تدرَّج في مختلف المناصب اللاهوتيَّة والكنسيَّة، وهو يعرف كيف يختار مَا يستشهد به والرسائل التي يمكن أن يحملها، وجاء المنطقة، وأبى الكرم العربيُّ إلا أن يبرز بأجلى وأقوى صوره، فاستُقبل استقبالا لم يحظَ به ملك ولا رئيس ولا زعيم من قبل، ومع ذلك فلم يَلِن دماغه، ولم يصدر عنه من عبارات الشكر والتقدير والثناء مَا يمسح جراح هؤلاء الذين أُهينوا في دينهم وفي رسولهم -صلى الله عليه وآله وسلَّم- ورموزهم ومقدساتهم، مع أنَّ الملك الذي استقبل واحتفى به كل تلك الحفاوة، وفتح له أبواب المملكة الأردنيَّة على مصراعيها سليل أسرة هاشميَّة تنتمي إلى آل البيت نسبًا، فلم يحصل العرب منه على شيء، وكان الجميع يتوقعون أن يصدر عنه شيء يُعلن فيه -على الأقل- أنَّ القدس مدينة الأمم الثلاث التي تنتسب إلى إبراهيم، سواء اتصل نسبها بطريق إسماعيل أو بطريق إسحاق ويعقوب -عليهم السلام- لكنَّه لم يفعل.
أما الزائر الثاني فقد كان «أوباما»رئيس أمريكا، أوباما قام بمبادرة جريئة لرأب الصدع بين العالم الإسلاميِّ وبلاده، وأعطى مجموعة من الرسائل المقروءة والصامتة، ورغم معارضة الكثيرين من مواطنيه لتلك الزيارة ولتنفيذ برنامجه فيها، حيث تلقَّى مذكرة من المنظمة الصهيونيَّة الكبرى في أمريكا «إي باك»، وقَّع عليها ثلاثمائة وثلاثون من أعضاء مجلس النواب، وستة وسبعون من مجلس الشيوخ بألا يُوجَّه أيّ ضغط لإسرائيل، وأنَّ كل مَا يحق له أن يقوله هو أن يطالب الطرفين -العربيّ والإسرائيليّ- بأن يجلسا معًا ويتفاوضا، وعليه أن يبارك النتائج أيًّا كانت، لكنَّه تجاوز ذلك كلّه، وطالب إسرائيل أن توقف الاستيطان، وأن تكون القدس والحق فيها موزعًا بين حملة الأديان الثلاثة «الإسلام، النصرانيَّة، اليهوديَّة»، إذ هي موضع تعظيم المنتمين لهذه الأديان الثلاثة، ليس لأحد أن يستأثر بها، وأكد على دعوته بتأجيل نقل السفارة الأمريكيَّة من تل أبيب إلى القدس، كما رفع صفة الإرهاب عن حماس، وأكد أنَّها لاعب منتخب لا يمكن تجاهله، وأعلن استعداده لسحب قواته من العراق بمجرد استقرار العراق وتمكُّن حكومته المحليَّة المنتخبة الموحدة من تحقيق الأمن والاستقرار فيه.
لم يستجب للضغوط الإسرائيليَّة بتحريض الجوار العربيِّ ضد إيران؛ بل أعطى إشارة واضحة بضرورة إخلاء المنطقة من الأسلحة التدميريَّة. ولم يتردد في الاستشهاد بآيات من القرآن الكريم بشكل بادٍ فيه الاحترام الكامل، والإحساس بما يمكن للرجوع إلى القرآن أن يؤديه على مستوى العالم لا على مستوى المسلمين وحدهم، وأنَّ الإسلام دين سلام وداعية أمن واستقرار، وهو أبعد مَا يكون عن الإرهاب الذي ألصقه به «بوش» والإدارة السابقة، وأنَّ اتجاهات العنف يرفضها القرآن.
كلا الزائرين لم يُخليا رسائلهما -إلى المنطقة- من النبرة التبشيريَّة؛ لكن البابا كان يريد أن يرسل للعرب والمنطقة والكنائس الشرقيَّة رسالة كنيسته.
أما «أوباما» فقد حاول أن يبشِّر بالديمقراطيَّة ونبذ الفساد والاستبداد بطريقة لبقة.
فماذا يفعل العرب للاستفادة من الزيارتين؟
- أمَّا البابا فإنَّ العرب محتاجون أن يعينوا كنائسهم الشرقيَّة ويستفيدوا منها في تحقيق أهدافهم المشتركة، وأن تُعطى دورًا في حوار مع الفاتيكان أكبر من الدور الذي تؤديه وتقوم به في الوقت الحاضر، بحيث تجعل من قضايانا الإقليميَّة جزءًا من أجندة البابا والكنيسة الكاثوليكيَّة في أيِّ حوار يحدث.
- وأمَّا أوباما فلا بد من التواصل بين القيادات العربيَّة وأوباما، والعمل -عربيًّا وإسلاميًّا- على دعمه ومطالبته بعدم التراجع عن وعوده بدعم الحريَّات ومكافحة الفساد والاستبداد وانتهاك حقوق الإنسان، وإثبات أنَّ إسرائيل تتصدر قائمة التلاعب بحريَّات الأقليَّات.
فتُهم الفساد تناولت رؤوسًا كبيرة على مستوى رئيس الدولة ورؤساء الوزارات، والاستبداد بشؤون المواطنين العرب والمسلمين في الأرض المحتلة، وكل ذلك يتعارض وما تدَّعيه من كونها دولة ديمقراطيَّة.
- مطالبته بألا يتراجع عن وعوده بالقضاء على «الأسلحة النوويَّة والكيماويَّة والجرثوميَّة»، وإخلاء هذه المنطقة منها، ومبادلة مَا يُطَالَب العربُ به من الضغط على إيران -التي لم تُنتج شيئًا بعد- بالتخلص من مئات القنابل النوويَّة الإسرائيليَّة، إضافة إلى أسلحتها الكيماويَّة والبيولوجيَّة التي يمكن أن تدمِّر المنطقة والعالم.
ولدول المنطقة في اليابان -وبقيَّة جيران كوريا الشماليَّة- أسوة حسنة.
- لا بد من التمسُّك بما ذكره في خطابه حول القدس، واعتبارها مدينة الأديان الثلاثة، لا يجوز لأحد الاستئثار بها -عاصمة سياسيَّة- ويمكن أن تُشَكَّل لها إدارة من المنتمين للأديان الثلاثة، ويُبحث عن صيغة مناسبة، مثل صيغة الفاتيكان وإيطاليا أو أيَّة صيغة أخرى مناسبة لإدارتها.
- لأوباما أن يؤكد على أمن أمريكا كما يشاء، على أن يؤكد انتفاء أيِّ خطر عربيٍّ أو إسلاميٍّ على أمن أمريكا الداخليِّ أو مصالحها الخارجيَّة، خاصَّة إذا نجحت أمريكا في مساعدة العرب والمسلمين على بناء المؤسَّسات الديمقراطيَّة ودعم الحريَّات وحقوق الإنسان، والتخلُّص من الفساد والاستبداد، وحلِّ المشكلة الفلسطينيَّة حلا عادلا، ينسجم وقيم الثورة الأمريكيَّة، وحلِّ الأزمة العراقيَّة، وحلِّ أزمات مماثلة أخرى على مستوى العالم الإسلاميِّ.
وأخيرًا، فأيًّا مَا يكون الأمر فإنَّ العرب قالت:
مَا حكَّ جلدَك مثلُ ظُفركَ | فتولَّ أنتَ جميعَ أمركَ |
إنَّ العرب، والفلسطينيِّين خاصَّة، والمسلمين عامَّة في حاجة ماسَّة إلى تنظيم البيت الداخليِّ، ومعرفة مَا لديهم من وسائل وأدوات يستطيعون توظيفها مجتمعة للاستفادة من هذه الفرصة.
[1] كتبت هذه المقالة في يونيو 2009 بمناسبة زيارة بندكت وأوباما، ولم تنشر في حينها.