أ.د/ طه جابر العلواني
من المفاهيم القرآنيَّة المتعلقة بالأسرة «الإيلاء»، وقد ورد في مواضع من القرآن المجيد، منها قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ*وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة:226-227)، وقال (جلَّ شأنه): ﴿وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (النور:22).
وحقيقة «الإيلاء والأليَّة»: الحلف على الامتناع عن شيء ما كان ينبغي للحالف أن يمتنع عنه، ولا يجدر به أن يستعمل اليمين لتوكيد ذلك الامتناع على نفسه، وكأنَّه يحاول منع نفسه -بقوة اليمين- عن الرجوع عمَّا عزم على الامتناع منه. وكان العرب في الجاهليَّة «يولون من نسائهم»؛ أي: يحلفون على عدم معاشرة الزوجة، والقيام لها بحقها الطبيعيِّ إذا قصَّرت في أمر يريده الرجل، فهو يمين من أيمان السفهاء الجاهليِّين، يُراد به تأديب المرأة أو إذلالها والانتقام منها بحرمانها حقها الطبيعيِّ على زوجها.
وقد نهى الإسلام عنه، وذكر الفقهاء أنَّ الحقَّ الطبيعيَّ للمرأة ألا يحرمها زوجها من نفسه يومًا في كل أربعة أيام إن استطاع، فإن جاوز ذلك عُدْ معتديًا على حقها إن لم يكن هناك عذر من مرض أو سفر، وأنَّ ذلك حدٌّ أدنى يُدفع به عنها الضرر في النفس وفي الجسم، وتُدرأ به الفتنة، ومع نهي القرآن وتعليم النبي -صلى الله عليه وآله وسلَّم- الناس ضرورة الامتناع عن أيمان الجاهليَّة وممارستها فإنَّه ما يزال هذا النوع من الانحراف شائعًا سائدًا في أوساط كثيرة شعبيَّة وريفيَّة، فكثيرًا ما نسمع رجالا يدعون أصحابهم لتناول طعام أو زيارة أو قبول هديَّة، فإذا أبدى المدعو تردُّدًا في شيء من ذلك حلف عليه الداعي «بإيلاء الجاهليَّة»، فقال: «عليَّ الحرام أن تأكل أو تشرب أو تفعل…» يُريد تحريم مباشرته زوجته على نفسه، وقد يشعر المحلوف له بشيء من الحرج، فيقبل ذلك رحمة بصاحبه أو بزوجته أو بكليهما، وقد لا يستجيب، أمَّا «الحداثيُّون» فقد طوَّروا هذه الظاهرة الجاهليَّة الأولى إلى ما يطلقون عليه separation أي توقف عن المعاشرة الزوجيَّة، وانفصال عنها، لفترة تسبق الطلاق أو العودة، قد تمتد إلى سنة أو أكثر.
وكل هذه الظواهر مخالفة لهدى القرآن المجيد، ومَنْ سقط في شيء من هذا الانحراف أمهله الله (تعالى) أربعة أشهر فقط، فإمَّا أن يرجع عن خطئه، ويتوب ويعود إلى زوجه، ويتوب عن تلك الممارسة الخاطئة، أو يعزم على الطلاق، إذا كان «الإيلاء» قد حدث بناءً على نفرة أو كراهيَّة بين الزوجين تعذَّرت إزالتها بالوسائل الشرعيَّة المعروفة.
إنَّ النكاح ميثاق غليظ، والمحافظة عليه مسؤوليَّة مشتركة بين الزوجين؛ ليس لأيٍّ منهما أن يُفرِّط فيه أو يُوهن منه ويضعفه أو يفكه إلا بِمُقْتَضى الشرع الذي بُنِي النكاح عليه.
وقد استعمل القرآن الكريم كلمة «حدود» أربعة عشرة مرة؛ اثنتا عشرة منها استعملت في قضايا الزوجية والنكاح والطلاق؛ لما لهذا الميثاق الغليظ الذي تأخذه المرأة على الرجل من أهمية عند الله (تعالى)، فيُفترض بالرجل أن يكون أمينًا في ممارسة مسؤولياته وصلاحياته، وأن لا يُعرِّض هذه العلاقة لأيِّ خطر، فهذه العلاقة من حدود الله التي يجب أن تُحترم: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (البقرة:229)، ومن أكثر أنواع الاستهتار والسفه أن يستخدم الرجل تلك الأيمان الجاهلية، ويجعل من الطلاق يمينًا يُسافه به ويُعرِّض نفسه وزوجه وبيته لتجاوز حدود الله، فلنتَّقي الله (تبارك وتعالى) في تلك الحدود التي حدَّها لنا، ولنحترم بيوتنا ونساءنا والروابط الزوجية، فذلك من معاقد الإيمان ودلائله التي لا بد من الحرص عليها، ومَنْ وقع في شيء من الإيلاء فعليه أن يتوب إلى الله ويستغفره، وأن يعود إلى رشده ويفيء إلى زوجه قبل أن يمرَّ على ذلك وقت طويل قدَّره القرآن المجيد بشهور أربع.
نسأل الله (تبارك وتعالى) أن يحفظنا والقراء الكرام من نزغات الشيطان… إنَّه سميع مجيب.