Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

مراجعة على مراجعات

د.عابد الجابري
د.عابد الجابري

أ.د. طه جابر العلواني

أ.د. محمد عابد الجابري كاتب ومتفلسف مغربيّ معروف، قدّم نفسه إلى القارئ العربيّ بمشروع فكريّ، عمل على أن يجعله هادفًا هادمًا بانيًا. تابعت مشروعه منذ بدايته، منذ صُنِّفت حلقاته الأولى “بتكوين العقل العربيّ”، ثم “بنية العقل العربيّ”… الخ.
في دائرة “مراجعات تفكيكيَّة في التراث الإسلاميّ” بأدوات معاصرة وبخلفيَّة ثقافيَّة فكريَّة تنتمي إلى “عالم الفلسفة” وخلفيَّة أيديولوجيَّة تتصل بنسب وثيق بتيار قوميّ اشتراكيّ، يجعلها مهما بذل صاحبها من جهد لتجميلها، قراءةً لائكيّةً معاصرةً في حقل “تراث دينيّ إسلاميّ” شاركت في إنتاجه مجموعة هائلة من شعوب أميَّة ذات جذور حضاريّة مختلفة من عرب وفرس وكرد وبربر وترك وهنود وغيرهم، اجتمعت على أصول وقواعد دين واحد يحمله كتاب كونيٌّ إلهيّ المصدر. تقتضي الأمانة العلميّة أن يقوم مراجع ذلك التراث باستحضار ذلك كلّه؛ إذ لا يمكن فصل أيّ جزء من أجزاء ذلك التراث وتخصصه بشعب واحد من الشعوب الأميّة التي دخلت الإسلام، وبدأت تصوغ فكرها في إطار فهمها له، وتحوله إلى معارف وعلوم تصب في الدائرة الحضاريّة الإسلاميَّة، وتحدث آثارها في المحيط الاجتماعيّ الإسلاميّ. فليس من المنهج أو الموضوعيَّة في شيء أن تحوّل المنتجات الفكريَّة الإسلاميَّة كلها إلى منتج عربيّ يشكل تكوينًا وبنية لعقل عربيّ. واللغة –وحدها- سواء أكانت لغة النصّ التأسيسيّ المكوّن. أم لغة التديّن التي صارت لغة ثقافة للأمّة المسلمة كلّها لا تكفي لذلك النوع من الافتئات الواسع بحيث يحول ذلك التراث المشترك إلى تراث جهة واحدة من الجهات المشاركة في صياغته، ففي ذلك تساهل يحتاج الكاتب إلى جهد مقنع لتسويغه وبيان جوازه وقبوله، ولم أر في مشروع الأستاذ الجابريّ شيئًا عالج هذه الثغرة في مشروعه.
ونحو الأستاذ لا يخفى عليه أنّ أجزاء ضخمة من التراث الإسلاميّ قد كتبت باللّغات الفارسيَّة والأرديّة والتركيَّة إضافة إلى العربيَّة فليس من العدل والإنصاف أن يجري التعميم قبل الاستقراء، والمعارف تتأثر بمناهجها ونظريّة المعرفة التي أنتجت انطلاقًا منها، وذلك يعني أنّنا أمام “نظريّة معرفة تقوم على مصدرين: الوحي بكل ما يعنيه من غيب. والكون”. فإذا لم يكن ذلك ملاحظًا لدى الباحث في ذلك التراث دون تحكم شخصيّ منه في تفسير الوحي بغير ما فسّره القرآن ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ (الشورى:51) فإنّ من المتعذر عليه أن يكون موضوعيًّا يتصف بحثه “بالاستقامة المعرفيَّة”.
إنّ التراث الإسلاميّ في حقيقته هو تراث شاركت في توليده وبنائه وصياغته الشعوب الأميَّة التي كانت المخاطب الأول بالرسالة الخاتمة: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ﴾ (يس:6) إذ إنَّ خطاب الرسالة الخاتمة قد وجه في صفحتين: أولاهما: مخاطبة الشعوب الأميَّة التي لم ينزل إليها من الله كتاب ولم يرسل إليها رسول من قبل. وذلك ينقل الشعوب الأميَّة إلى شعوب كتابيَّة، كتابها القرآن المجيد. الثانية: التوجّه إلى الشعوب الكتابيَّة اليهوديّة والنصرانيَّة لإعادة الوحيّ المنزل إليهم إلى حالة “الصدق المطلق” و”الهيمنة عليها بعد التصديق عليها وإعادتها إلى “حالة الصدق” التي نزلت بها قبل التغيير.
ومن هنا يصبح من الخطأ المنهجيّ والمعرفيّ اختزال ذلك –كلّه- وحصره في إطار عربيّ ثم التعامل معه تفسيرًا وتأويلاً وآثارًا انطلاقًا من ذلك، ليس ذلك فحسب بل إنّ هناك مشاركات من المنتمين إلى البيئة المسلمة من المنتمين إلى الأديان الأخرى من يهود ونصارى وصابئة وسواهم. ومن يقرأ تراجم العلماء المختلفين في كتب الطبقات يرى الأعداد الكبيرة من الأطباء والمهندسين والفلاسفة وأصناف العلماء الآخرين من غير المسلمين. ومن هنا فإنّ من يقومون بمراجعات كالتي يقوم بها الأستاذ الجابري لتراثنا الإسلاميّ تحتاج إلى ملاحظة كل ذلك الذي ذكرنا. إنّ تلك المراجعات ضروريَّة، لكن لا بد من احترام المنهج العلميّ عند القيام بها، وإلا فقد تفرز أزمات وإشكالات أكثر من أن تقدم حلولاً.
هذه المقالة كنت قد كتبتها والأستاذ الجابري ما يزال على قيد الحياة، يواصل مشروعه الهام، الذي حاول -بعد أن قطع مراحله الأولى-أن يجعل من تراث ابن رشد وتحقيقه وسيلة ثانية من وسائل المراجعات، بحيث تُصبح أفكار الدكتور الجابري وكأنَّها تعليقات على التراث الرشيدي، ومحاولة تواصل معاصر مع ذلك القديم الغابر، وقد صادف الدكتور الجابري في تلك المحاولة نجاحًا لا يُستهان به، بقطع النظر عمن أنكر عليه ذلك واعتبره متطفلاً على التراث الرشيدي، يحاول أن يتعسَّف في حق المحقق؛ ليحمِّل ذلك التراث بعض أفكاره، ويفتح لها بابن رشد سبل انتشار، ثم عرَّج على القرآن الكريم وكتب المدخل والأقسام الثلاثة في فهم القرآن الحكيم الذي سمَّاه بالتفسير الواضح حسب ترتيب النزول، وجهده هذا جهد كان علماء الأشاعرة يتفاءلون بمن تكون نهاية حياته العلميَّة مع القرآن الكريم، ويعتبرونها مؤشِّرًا على حسن الخاتمة، وقد اطَّلعت على عمله هذا، ووجدت فيه تأملات كان يمكن أن تكون أكثر دقة وعمقًا لولا بعض القيود التي كانت تحيط بالأستاذ وهو يحاول القيام بمحاولة تُعد جديدة أو تجديدًا أوَّليًّا في مشروعه الفكريّ.
الكتاب الآن بين أيدي القراء، وقد سبقه لكتابة تفسير أو فهم أو تأمُّل -بحسب ذلك- أستاذان جليلان من بلاد الشام، هما الأستاذ محمد عزة دروزة، الذي أعد تفسيرًا طُبع بعشرة مجلدات، راعى فيه التواريخ غير الدقيقة ولا الثابتة للنزول، وقد طُبع في عشرة مجلدات في خمسينيات القرن الماضي، وأُعيد طبعه في الآونة الأخيرة طبعة فاخرة بمجلدات عشرة، نشرتها (دار الغرب الإسلامي) بعد أن نفذت الطبعة الأولى لـ(دار إحياء الكتب العربيَّة)، والمحاولة الثانية قام فيها الشيخ عبد الرحمن حسن حبنَّكة الميداني بعنوان (معارج التفكر ودقائق التدبر)، وأيضًا بحسب ترتيب النزول، وهو ترتيب –كما يعلم الجميع- ليس يقينيًّا، تعوزه كثير من الدلائل والشواهد ليُعتمد عليه في هذا المجال، فالمسلمون قد تلقوا القرآن الكريم بحسب ترتيبه في العرضتين الأخيرتين؛ بين رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- وجبريل عليه السلام، وهي التي كتبتْ لجانُ الصحابةِ المصحفَ الإمامَ وفقًا لها، وهو الترتيب المعتد به، الذي ينبغي أن يُعتمد عليه في التفسير والتأويل والاستنباط واستخراج الأحكام وما إلى ذلك، إذ أنَّ الارتباط بتواريخ النزول ومناسباته قد يُوحي لمن يجهل حقيقة القرآن بانَّه تاريخانيّ مرتبط بعصره، كما ذهب إلى ذلك أركون عافانا وعافاه الله، في حين أنَّ الترتيب وفقًا للعرضتين يقطع الصلة ما بين عصر ومناسبات عصر النزول وتواريخه، ويعطي للقرآن الكريم صفة الإطلاق والشمول والعموم، ويلغي مشروعيَّة كثير من التساؤلات الاستشراقيَّة. ولا باس عندنا من أن يعمد المفسر إلى الاستفادة من ذلك في رصيد معلوماته عندما يُقدم على التفسير، ولكن في نفسي أشياء كثيرة من اعتماد ترتيب النزول، وتجاهل وتجاوز ترتيب العرضتين الأخيرتين، وما أجمعت عليه الأمة حول المصحف الإمام.
على كلٍّ لقد كان اجتهادًا من أهله، أرجو أن يُثاب الجابري الراحل عليه، وأن يسلك في الدار الآخرة بين من تصدُّوا لخدمة القرآن الكريم، وألا يُحرم بركة ذلك أصاب أم أخطأ، رحم الله الجابري، وعفا عنا وعنه، وغفر لنا وله، ورحمنا عندما نصير إلى ما صار إليه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *