د.طه جابر العلواني
كنت قد كتبت وألقيت محاضرات عديدة في نقد تقسيم الإمام محمد بن الحسن الشيباني -المتوفى سنة 187هـ- للمعمورة، حيث قسَّمها إلى دارين: دار إسلام ودار حرب؛ أمَّا دار الإسلام -عنده- فهي الدار التي تُطبَّق فيها أحكام الشريعة الإسلاميَّة، وتُقام فيها الحدود، ويأمن الناس فيها بأمان الإسلام، وتكون السيادة فيها لأحكامه بقطع النظر عن نِسَب السكان والانتماء الدينيِّ للحاكمين.
وأما دار الحرب فهي الدار التي لا يأمن الناس فيها بأمان الإسلام، ولا تُطبَّق فيها الأحكام الإسلاميَّة، ولا تُقام فيها الحدود. ونقلتُ عن الإمام أبي يوسف قوله الَّذي ورد في كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (15/406) وغيره: “…لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّ دَارَ الْكُفْرِ تَصِيرُ دَارَ إسْلَامٍ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيهَا وَاخْتَلَفُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، إنَّهَا بِمَاذَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ… وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إنَّهَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ فِيهَا”.
ولم يكن نقدي لتقسيم المعمورة بهذه الطريقة مبنيًّا على فراغ أو على خضوع لأُطروحات معاصرة تستهجن هذا الرأي، فلقد عشنا وسمعنا رئيس أكبر دولة في العالم وأقواها سلطانًا يقول وهو في غمرة حربه على ما أسماه «الإرهاب»، في زلة لسانٍ أو في قولٍ مقصود: «إننا أمام حربٍ صليبيَّة ثانية»، وصدرت تنويهات مثل تلك عن قيادات دينيَّة وسياسيَّة في أماكن مختلفة، واليوم لم يبقَ أحدٌ على وجه الأرض لم يسمع بمناداة إسرائيل بأنَّها دولة يهوديَّة، وأنَّها تدعو العالم كلّه لأن يعترف بيهوديَّتها، وتعتبر ذلك شرطًا للتصالح مع مَن تضعهم في صفوف أعدائها؛ سواء من القوى الفلسطينيَّة أو البلدان العربيَّة الأخرى، وبالتالي فكأنَّ تقسيم الأرض -انطلاقًا من نظرةٍ دينيةٍ- لم يعد شيئًا مستفزًّا إلا بالنسبة للمسلمين، فإذا قال المسلمون: هناك دار حرب وهناك دار إسلام، كما يقول اليهود: هناك دار يهوديَّة، ودار غير يهوديَّة، فإنَّ ذلك يُستنكر ويُعتبر من قبيل التمييز وإعلان العداء للآخرين، والقيام بنوع من حرب استباقيَّةٍ نفسيةٍ، والأمر ليس كذلك، فقد نقلت في حينها عن أئمةٍ كبار، أورد الإمام الرازيُّ في تفسيره أقوالهم في تقسيم العالم كله إلى أُمَّة دعوة وأُمَّة إجابة، وبالتالي فالأرض تتبع الأُمَّة، فإذا كانت الأُمَّة المقيمة على أرض ما أُمَّة دعوة فيفترض أن تسمَّى بدار دعوة، وإذا كانت الأُمَّة المقيمة على تلك الأرض أُمَّة إجابة فيفترض أن تسمَّى الأرض أو الدار دار إجابة، وعلى ذلك فكان ينبغي أن يُخرَج هذا التصنيف من دائرة البحث العلميِّ ويُحال برمَّته إلى دوائر القرار السياسيِّ، فصنَّاع القرار السياسيِّ لهم -انطلاقًا من العلاقات الدوليَّة ورؤيتهم لأنفسهم وللعالم الخارجيّ الذي يتعاملون معه- أن يُطلقوا عليه من الأسماء ما يرونه مناسبًا، فللحاكم أو الخليفة أو السلطان المسلم الحق أن يُسمِّي أرضًا ما بأنَّها أرض الحرب أو أرض العدو أو دار العدو أو دار الحرب، وله أن يُسمِّي الأرض التي تكون السيادة فيها للمسلمين أو لأحكام الإسلام، ويأمن الناس فيها بأمان الإسلام، بأنَّها دار إسلام أو دولة إسلام أو ما شاكل.
فهناك فرقٌ كبير بين الدعوة والدولة؛ فالدولة قد تحمل الدعوة وتنفعل بها وتنذر نفسها إليها، وهذا ما يُطلق عليه المعاصرون: «تصدير الثورة» أو ما شاكل، وللدولة أن تكون دولة تفصل أجهزة الدعوة عنها، وتكون لها سياساتها التي لا تفرض عليها ما تفرض على أجهزة الدعوة، فالدعوة تأخذ بقوله عليه الصلاة والسلام: « وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا»، فالأرض -كلّها- لله والأرض -كلّها- للمسلمين مسجد وطهور، والأرض -من منظور الدعوة- يرثها عباد الله الصالحون، لكنَّها من منظور الدولة وعلاقاتها فإنَّ الدولة قد تنظر إلى جهةٍ لا تُرحِّب بقبول دعوة الإسلام، لكنَّها لا تجد ما يمنع أن يكون بينها وبين الدولة المسلمة مصالح مشتركة وتعاون محكوم بضوابط أخرى غير ضوابط الدعوة.
فإذا رأى رجال الدعوة والقائمون عليها أنَّهم يستطيعون أن يدعوا مَن يشاؤون -من غير المسلمين- بحسب تصنيفاتهم، ولكنَّ علاقات الدولة المسلمة ببعض حكومات ودول هؤلاء علاقات سيئة أو عدائية فأجهزة الدعوة لديها من المرونة ما لا يكون لأجهزة الدولة، في الوقت نفسه إذا أرادت جهة ما الاحتجاج على الدعاة فلا تجد الدولة نفسها مسؤولة بشكلٍ مباشر عن ذلك النشاط، وهذا موقفٌ قد لا نجد له تأصيلاً إسلاميَّا، وإن كان الواقع التاريخيُّ قد حفل بذلك وكذلك الواقع المعاصر.
ربما يُستأنس في عهد النبوَّة بواقعة أبي بصير وصحبه من مسلمي مكة، الَّذين انتحوا جانبًا وآذوا قريشًا في تجارتها، ولم يستطيعوا أن يتَّهموا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بعد أن اعتذر عن بقائهم في المدينة، ولم يستطع مشركو قريش أن يتَّهموا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بأنَّه قد خالف صلح الحديبيَّة ولم يلتزم بما عاهد عليه، فالتزم -صلوات الله وسلامه عليه- وترك لأبي بصير وإخوانه حريَّة التصرف.
إنَّ الأمر يقع في دائرة النظر، أمَّا عن الأرض فإنَّ علماءنا قد نصُّوا على أنَّ كل من على وجه الأرض من المسلمين والكفار داخلٌ في أُمَّة محمد -صلى الله عليه وآله وسلَّم- أمَّا المسلمون فإنَّهم أُمَّة إجابة، وأمَّا الكفار فإنَّهم أُمَّة دعوة، نصَّ على ذلك بدر الدين العيني الحنفي في كتابه «عمدة القاري شرح صحيح البخاري» (3/343)، في شرحه لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قَالَ: «أَرَأَيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةٍ لا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى الأَرْضِ أَحَدٌ». وعلى هذا فإنَّنا نستطيع القول بأنَّ أرض أُمَّة الإجابة يُطلق عليها «دار إجابة»، وأرض الدعوة يُطلق عليها «دار دعوة»، وأعاد نحو ذلك في حديث التجديد المعروف في الجزء السابع من الكتاب نفسه (ص461)، وجاء نحوه في «فيض القدير شرح الجامع الصغير» للمناوي (1/9)، ومثله في «إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد» للشيخ صالح بن فوزان الفوزان (1/177)، وأيضًا كتاب «قطف الجنى الداني شرح مقدمة رسالة القيرواني» (1/107)، وجاء فيه أنَّ أُمَّة نبيِّنا محمد أُمَّة دعوة و أُمَّة إجابة، فأُمَّة الدعوة كل إنسيٍّ وجنٍّي من حين بعثته إلى قيام الساعة، و أُمَّة الإجابة هم الذين وفَّقهم الله للدخول في دينه الحنيف، فشريعته لازمة للجنِّ والإنس، والدعوة إليها موجَّهة لهم جميعًا، ليست لأحدٍ دون أحد، بل هي للجميع. وفي شرح الحديث التاسع والثلاثين من الأربعين النوويَّة، كتاب «فتح القوي المتين في شرح الأربعين على تتمة الخمسين» لعبد المحسن بن حمد العباد البدر (1/115) ورد قوله: «أُمَّة نبيِّنا محمد أُمَّتان؛ أُمَّة دعوة وأُمَّة إجابة، فأُمَّة الدعوة…»، وكرَّر الكلام نفسه.
وتمسُّك جمهرة الفقهاء باستخدام مصطح «دار الحرب ودار الإسلام ودار العهد» إنَّما هو تمسكٌ بما يتعلَّق بنظرة الدولة والحكومة المسلمة، لا من منظور الدعوة، ولأنَّ معظمهم جعلوا المدار في إطلاق المفهومَين على الأحكام لا على السكان، فدار الحرب عندهم -في إطار النظرة السياسيَّة- تشمل كل بلد لا تطبَّق فيه أحكام الإسلام كائنًا أهله ما كان، وراجع «روضة الطالبين وعمدة المفتين» للنوويِّ (4/29)، واتَّفقت كلمتهم على أنَّ مَن استطاع أن يمارس عباداته الإسلاميَّة وواجباته في دار الحرب تكون داره دار إسلام، وأنَّه ليس عليه أن يُهاجر منها؛ لأنَّ ذلك سيجعلها دار حرب، فالأفضل له أن يقيم فيها، فكل مَن أمكنه إظهار دينه وأمِن الفتنة في الدين فإنَّ مقامه في تلك الدار مقامٌ في دار دعوة، لا يجب عليه مغادرتها، والحيِّز الذي يعيش فيه المسلمون هو دار إسلامٍ حتى عند أولئك الذين اعتبروا الدار التي لا تطبَّق فيها الشريعة دار حربٍ، أرادوا أنَّ من المحتمل أن تدخل في حالة حربٍ ضد المسلمين.
والدار بعد أن يستجيب أهلها للإسلام ويُقام الإسلام فيها هي دار إسلام ودار إجابة، وما حولها دار دعوة، ولا تُنـزَع منها صفة دار إسلامٍ أو دار إجابةٍ حتى لو غادرها أهلها المسلمون أو احتلها غير المسلمين، وراجع «مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج» (17/888). وذهب الماوردي في «الحاوي الكبير» (14/222) على تفصيل يكاد ينفرد به، منه: وجوب الإقامَّة في دار الحرب لمَن يقيم فيها ويستطيع الدعوة بجدالٍ أو حوارٍ، ويُرفع عنه الوجوب إذا لم يقدر على الدعاء، ولا أن يمنع نفسه من اعتداءٍ عليه، ولا يستطيع الاعتزال، ومَن رجى ظهور الإسلام بمقامه والدعوة إليه فواجبه البقاء، وهناك تفاصيل أخرى يمكن تتبُّعها في كتب الفقه المختلفة.
وعلى ذلك فإنَّ هذه التسمية -أعني تسمية دار الحرب ودار الإسلام ودار العهد- تسميةٌ إداريَّة وسياسيَّة، وليست هي التسمية الحاكمة في مجال الدعوة، فمجال الدعوة لا يجاوز ما ذكرنا من أنَّ الناس جميعًا بالنسبة للرسالة العالمية الخاتمة هم أُمَّة لرسول الله محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- مَن استجاب لله وللرسول وقبِل دعوته فهو من أُمَّة الإجابة، وأرضه أرض إجابة، ومَن لم يستجب فهو من أُمَّة محمدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم- في إطار الدعوة، والدار من حيث الدعوة لا تعدو أن تكون دار إجابةٍ لأولئك الذين استجابوا لله ولرسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- ودار دعوةٍ لأولئك الَّذين لم يستجيبوا، قال تعالى: ﴿إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الأعراف:128)، وقال: ﴿أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء:105). وبالتالي فإنَّه ليس هناك دليلٌ شرعيٌّ يوجبُ استعمال مصطلحات دارالإسلام ودار الحرب، وعلى فقهاء وأئِمَّة المساجد -في الغرب خاصَّة- أن يتوقَّفوا عن ترديد هذه المصطلحات المستفزَّة، ويأخذوا بما ذهب إليه جماهير الفقهاء الَّذين ذكرنا نبذة يسيرة من أقوالهم، بتقسيم المعمورة إلى دار إجابةٍ ودار دعوة، وتوحيد الناس والنظر إليهم جميعًا على أنَّهم أُمَّة الأنبياء، ابتداءً من نوحٍ -عليه السلام- وانتهاءً بخاتم النبيِّين -صلى الله عليه وآله وسلَّم- والله أعلم.