أ.د/ طه جابر العلواني
إنَّ الله كما أنَّه قد يسَّر القرآن للذكر قد دعا إلى تدبُّره وتلاوته -حق التلاوة- وتعقُّل ما جاء فيه والتفكير فيه، وذلك يستلزم إضافة إلى تلاوته حق التلاوة، ومعرفة معاني ألفاظه ومفرداته، والتناسب بين كلماته في الآيات، وآياته في سوره، وسوره في وحدته البنائيَّة. يجب -أيضًا- تدبُّر «سياقاته» ونزوله مفرَّقًا منجَّمًا، حيث كان لتثبيت فؤاد رسول الله فيه وبه، وكذلك أفئدة المؤمنين: ﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً﴾ (الإسراء:106)، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ (الفرقان:32).
فهذا التنجيم والنـزول على مكث لابد أن يستدعي سائر أنواع «السياق» الذي نزل فيه كل نجم من نجوم القرآن المجيد.
وهنا تتضح أهميَّة «أسباب النـزول» و«المناسبة» و«تأريخ النـزول»، ومعرفة موقع كل نجم بالنسبة لما قبله ولما بعده؛ ليتمكن المجتهد، والمفسِّر، وأهل الاستنباط، والمدركون لأسرار بلاغة القرآن ودلائل إعجازه من الوقوف من النصِّ على ما لا يمكن الوقوف عليه بدون ملاحظة سائر أنواع السياق.
وإذا كان المناطقة -ومَنْ إليهم- قد اعتبروا دلالات الألفاظ على المعاني أنواعًا ثلاثة، هي «دلالة المطابقة» و«دلالة التضمُّن» و«دلالة الالتزام»، وقالوا بـ«دلالة المنطوق» و«دلالة المفهوم»، فإن «دلالات السياق» أظهر وأبرز من تلك الدلالات -كلِّها- وهي أقواها في خدمة النص، وإبراز معانيه.
إنَّ الكلام يجري إعداده في نفس المتكلِّم، فالمتكلِّم يعدُّ ويرتِّب المعاني في نفسه في المرحلة الأولى، ثم يبدأ في اختيار الكلمات المناسبة للتعبير عن تلك المعاني، ويظل يرتب فيها كلمة كلمة حتى يطمئن إلى أنَّها هي العبارات التي ستُفصح وتبيِّن عما يريد التعبير عنه؛ قال الأخطل:
إِنَّ الكَـلَامَ لَـفِـي الفُـؤَادِ وَإِنَّمَا *** جُعِلَ اللسَانُ عَلَى الفُؤَادِ دَلِيلا[1]
وقال عمر: “كنت قد زوَّرت في نفسي كلامًا فسبقني إليه أبو بكر…”[2].
ولذلك فقد هفا الإمام الرازي -وهفوات الكبار على أقدارهم- حين اعتبر «الدليل اللفظيَّ» -أيًّا كان- مندرجًا تحت «الظنِّ» لا يرقى إلى القطع إلا إذا تجاوز عوائق عشرة، هي: القطع بصحَّة نقل اللغة والنحو والتصريف، وعدم الاشتراك، وعدم المجاز، وعدم الإضمار، وعدم التخصيص، وعدم التقديم والتأخير، وعدم الناسخ، وعدم المعارض[3].
ولو تأمل الإمام الرازيُّ «السياق»، والتفت إليه بالقدر الكافي -وهو الأصوليُّ القدير، والمفسِّر الكبير، المدرك لبلاغة القرآن ونظمه والسياق منه وأسراره- لما أطلق هذا القول، ولما ساقه بتلك الطريقة. فـ«السياق» -إذا أدرك على حقيقته- فإنَّ فيه القدرة على معالجة هذه الاحتمالات العشرة، واستيعابها وتجاوزها، وحماية الخطاب القرآنيِّ من أيِّ أثر من آثارها.
[1]– لا وجود للبيت في ديوانه ولا في تكملة الديوان. فلعله سقط منهما. وقد ورد البيت منسوبًا إليه بهذا اللفظ في شرح شذور الذهب«28»، وتفسير الإمام الرازي «1/15» ط. بولاق. وورد البيت من غير عزوٍ إلى الأخطل في تفسير النيسابوري «1/27» والرسالة العذراء «248» وشرح المفصل «1/21» والمصباح المنير «2/741» والبيان والتبيين «1/218». وجاء معزوًّا إليه في الموشى «8». وقد أكثر علماء الكلام من الاستشهاد به في بحث صفة «الكلام». وانظر هامشنا على المحصول «2/27».
[2]– قال له عمر يوم السقيفة على ما في النهاية لابن الأثير «2/134» ولسان العرب «5/425» ط. بولاق وتاج العروس للزبيدي «3/347» والكامل لابن الأثير ط. المنيرية وسيرة ابن هشام «2/659» والمحصول بتحقيقنا «2/26».
[3]– انظر المحصول بتحقيقنا «1/390» ط. مؤسسة الرسالة، بيروت «1412هـ, 1992م».
لقراءة البحث كاملا يرجى فتح الرابط التالي:
السياق المنهج -المفهوم-النظرية