أ.كريم محمد
إضاءة أوليّة:
مقصودنا بالخطاب الدينيّ؛ هو مجمل الأفكار الرئيسة والآليّات المعرفّية الحاكمة لإنتاج مجموعة من المعارف في فترةٍ ما. والخطاب الدينيّ الذي نتحدث عن تجديده، هو مجمل هذه الأفكار والآليات الحاكمة لإنتاج مدوّنات الفقه والتفسير على مدار تاريخنا، والتي نشأت حول النص الأصليّ، فيخرج من الخطاب المراد التعرّض له هنا، النصُّ الأصليُّ الحاكمُ، أي القرآن الكريم، على كل الخطابات من موقع الأصليّة والحاكمية والهيمنة؛ أي هيمنة “الكتاب ” على كلّ ما يُنتج حوله؛ تفسيرًا وشرحًا وتأويلًا واستخراج أحكامٍ “فقه”، إلى غير ذلك.
وإنّ تجديد هذا الخطاب ليحتاج إلى اضطلاع خاصّ بتحديد موقعيّة الكتاب الحكيم ودوره في تشكيل الذهنيّة الإسلاميّة القديمة والمعاصرة، ومن ثمّ اتخاذهِ مرجعًا حاكمًا ومهيمنًا على كلّ النتاج الإسلاميّ. فكما أنّ القرآن كان كتابًا مهيمنًا على الكتب السماويّة من قبل، فصحّحها ونقحّها مما علِقَ بها من تأويلات الرهبان وكذبهم على الله (تعالى)؛ فإنّه، أيضًا، يهمين على ما يُنتج حوله من فقهٍ وكلامٍ وتفسير، حتى لا يتخذ النّاس من نصّ بشريّ، فقهيٍّ أو تفسيريٍّ، إمامًا لهم من دون القرآن، أو حتى تهيمن تصوّرات تاريخيّة معيّنة على فهمنا للكتاب الحكيم. في حين أنّنا مطالَبون دائمًا بالانفتاح على القرآن باعتبارهِ ملهمًا متجددًا، وكلامًا لا ينفد، وحقيقة تمدّنا بالفلاح والرّشاد في أزماتنا و”مآزقنا الرّوحيّة” التي نقع فيها.
ومن ثمّ، فلا بدّ عند الحديث عن “تجديد الخطاب الدينيّ”، وهي الكلمة الرائجة والسلعة المشتراة من كلّ أحدٍ، حقًّا وباطلًا، صوابًا وخطأً، من تحديد عدّة أمور هامّة لا بدّ من توضيحها:
أولًا، ما “مرجعيّة” هذا التجديد الذي نرومه؟ أو على أيّ معيارٍ سوف يتمّ هذا التجديد المطلوب؟
ثانيًا، ما الذي نبتغي تجديده؟ هل نجدّد الخطاب، بصورةٍ لغويّة لنستبدلَ مصطلحاتٍ قديمة بأخرى معاصرة حتى نصير “مجدّدين”؟ أم أنّ التجديد يشمل الإبستيم النّاظم لتفكيرنا، والخروج من براديم معيّن إلى براديم آخر جديد؟
ثالثًا، لماذا التجديد؟ هل هي شهوةٌ تجتاجنا لتجديد كلّ خطاباتنا، أم أنّ هناكَ مآزق روحيّة وعلميّة يقعُ فيها المسلمون من حين لآخر؟
وطرح هذه الأسئلة في بداية استشكال موضوع “تجديد الخطاب الدينيّ” لهي الأساس والمنطلق للدخول إلى بحث هذا الإشكال. ونحن هاهنا سنتبع عدّة أمور منهجيّة نروم إيضاحها؛ فكما سنعمد إلى البحث التاريخيّ لنبيُّن كيف كان المشكلُ في تراثنا وتاريخنا حتى منعطفنا الإصلاحيّ في القرن التاسع عشر وحتى وقتنا هذا، فإنّنا سنروم أولًا، وقبل كلّ شيء، الإجابة عن الأسئلة الثلاثة التي طرحناها عاليه، وهي سؤال “المرجعيّة “، “ما مرجعيّة التجديد؟”، وسؤال “الماهيّة”، “ما هو التجديد؟”، وسؤال “العليّة”، “لماذا التجديد؟”.
لنمضِ لإيضاح هذه الأسئلة الثلاثة.
1- سؤال “المرجعيّة”:
من حين لآخر، يصعد سؤال “تجديد الخطاب الدينيّ”، سواء على الصعيد الدينيّ، أو السياسيّ، أو الإعلاميّ. وتنطلقُ أقلام كثيرة في تسويد بياض صفحاتٍ عن الموضوع. إلّا أن سؤال “المرجعيّة” يكون مشوّشًا غالبًا في هذه الدعوات، وهذه الكتابات. ونحن هاهنا نوضّح أنّ “مرجعيتنا” لـ”تجديد الخطاب الدينيّ” هو القرآن الكريم، باعتباره كتابًا مهيمنًا، وكتابًا حاويًا للمعرفة بالعالَم ومعرفة الأنفس، ومن ثمّ فإن التجديد الذي نرومه هو طرح كلّ المنتج الإسلاميّ، المعرفيّ والسياسيّ، على القرآن كمرجعيّة عُليا حاكمة. واتخاذنا للقرآن مرجعًا للتجديد هو لكون القرآن الكريم هو الذي نظم المعرفة الإسلاميّة، فقهًا وكلامًا وعقيدةً، فحتى الذين حادوا عن مقاصده، وابتعدوا عن روحه، كانت غايتهم بالأساس الاقتراب منه، حتى وإن كان ذلك بالابتعاد عنه.
إذن، القرآن الكريم هو مرجعيتنا التي نرى أنّه ينبغي تعميمها على كلّ متحدّث عن موضوع “تجديد الخطاب الدينيّ” حتى يكون تجديدًا إسلاميًّا أصيلًا.
2- سؤال “الماهيّة”:
يتعلّق سؤال الماهيّة بتحديد ما هو الذي يُراد إصلاحه في الخطاب الدينيّ، فهل هي لغته، أم مضمونه، شكله أم ما ينطوي عليه.
وبرأينا، إن البقاء في خانة التجديد الشكليّ لن ينجز شيئًا، لأنّ هناك خطابات دعويّة ملبرلة تقول إنها تجدد الخطاب الدينيّ، في حين أنّها تنطوي على إشكالات جمّة، ومشاكل عديدة. ومن ثمّ، فإن الذي ينبغي تجديده هو مجمل القضايا المترسّبة في عقلنا وتصوّراتنا عن الدين وأحكامه ومنظومته القيميّة التي يوفّرها لنا، إلى غير ذلك من أمور. ومن ثمّ، فإن التجديد، برأينا، ينبغي عليه أن ينتصر للوحي على التاريخ، وللقرآن على المذهب، وللكتاب على الطوائف الضيّقة.
3- سؤال “العليّة”:
كما إنّ “تجديد الخطاب الدينيّ” غير متعلّق عندنا بموقفٍ سياسيّ نتخذه، أو لقولٍ حزبيّ ضد أحزاب أخرى، فالخطاب الدينيّ هو مهمّة إصلاحيّة، اضطلعنا بالتفكير فيها ومحاولة فهمها منذ ما يقرب من ثلاثة عقود. ولهذه الدعوات اليوم المسيّسة لإصلاح الخطاب الدينيّ نحن لا نندرج في أفقها، إنّما علمنا واشتغالنا هو معرفيّ – تربويّ، يبتغي العروج بالأمّة إلى سدّة الوسطيّة التي شهدَ لها بها القرآن، والخروج بها من أنفاق التكفير والطائفيّة وكلّ مخلّفات الرواسب القديمة والحديثة لأنفسنا المتشظيّة إلى سَعة الدّين والرحمة والعصمة من الاختلاف المّمزق للحمتها.
لماذا التجديد؟ لأنّ التجديد مرتبط بموقفنا من روح القرآن ومقاصد العليا الحاكمة؛ توحيدًا وتزكيةً وعمرانًا ودعوة، لإرشاد الأمّة إلى سموّ القرآن ورحمته وعدله ووسطيّته، وأنّه كاتب يجمعهم وليس كتابٌ يفرّقهم. ومن ثمّ، فإنّ التجديد هو تجديدٌ معرفيّ وروحيّ للأمّة.
تاريخ سؤال “تجديد الخطاب الدينيّ”:
كان سؤال التجديد بالنسبة إلى المسلمين إلى ما قبل الصدمة الحداثيّة، سؤالًا داخليًّا، يتعلّق بالداخل الإسلاميّ، وليس بخارجه بشكل رئيس. فكان أمر التجديد ينهض به أهل العلم والدين أصحاب الرأسمال الرمزي الذين نطلق عليهم مسمّى العلماء، بل إنّ هناك خيطًا ناظمًا يشدّ التفكير الإسلامي بأنّ أمر الدين يُجدّده عالِم معيّن على رأس كل مائة عام، كما في الحديث المنسوب إلى الرسول-صلى الله عليه وسلم-. فالتجديد كامن في حركة التاريخ الإسلامي على مستوى العلوم الشرعيّة، والتجديد لا يعني الإبداع بحال؛ لأنّه قد يكون إظهارًا وتبيانًا للعلم الذي غفل عنه الناس، ويمكن كذلك أن يكون إبداعًا كما نرى مع علماء كبار واجهوا محنة التجديد، كالغزالي والرازي وابن تيمية وغيرهم.
أمَّا حديثًا، فقد انتقل مشكل التجديد من كونه مشكلًا إسلاميًّا -إسلاميًّا، إلى كونه مشكلًا إسلاميًّا غربيًّا، وخارجيًّا بالأحرى. فالتحدّي الذي وُضع فيه المسلمون كان يلزمهم –من وجهة نظرهم هذه الفترة-أن يعيدوا قراءة موروثهم الديني، مشذّبين منه ما يتنافى مع العصر الليبرالي غالبًا، وإظهار جوانبه العقلانية كي يُثبت الخطاب الإسلامي للآخر الغربي (الكولونيالي) أنّه عقلاني، وأن لديه إرثًا من تاريخ العقل، وكأنّه إعلان لدخول المسلمين في التاريخ المناسب للغرب.
فدومًا ما نبتدئُ التأريخ للإصلاح الدينيّ من أواخر القرن التاسع عشر، لنجعل خطاب محمد عبده عنوانًا لهذا الإصلاح، مشكلة البدء من هذه النقطة بالذات، أنها تبدأ متأخرة كثيرًا عن مراحل ثبت أنها شهدت محاولات للإصلاح الدينيّ. فنحن لو رجعنا للوراء قليًلا سنجد في محاولات العطار شيخ الأزهر وشيخ رفاعة الطهطاوي محاولات عدة للإصلاح الفقهي بل والكلامي ومحاولة لفتح الطريق لتقبل العلوم الحديثة. وهذا يخرج بمحاولة الإصلاح الديني مما توصف به دومًا حين تحصر بمحمد عبده بأنّها مجرد انزواء للمجتمع بعد فشل الحل السياسي، حيث إصلاح عبده جاء في أعقاب فشل ثورة عرابي وبعد تغير موقفه منها ورجوعه من منفاه يحمل كثيرًا من شبهات تدخل المندوب السامي. فلو افترضنا في هذا ما يجعل إصلاح عبده تراجعًا عن حل ثبت عدم جدواه، فهذا لا ينطبق على محاولة العطار.
غير أن محاولة العطار نفسها تعتبر نقطة متأخرة للبدء أيضًا، حيث إنّ إصلاح العطار ينطبق عليه ملاحظة محمد عابد الجابري عن كون أفكار الدفاع عن التقليد والدفاع عن المعاصرة أو التوفيق بينهم لم تكن أفكارًا طرحها الواقع الفكري الداخلي للإسلام بقدر ما كان استجابة لتغييرات واقعية تمت بعد إدخال التنظيمات في الخلافة الإسلامية، أو ما شابها من إجراءات قام بها محمد علي. فبعد واقعة الازدواجية التي خلقها زرع تنظيمات حديثة في قلب المجتمع التقليدي، قام العلماء المسلمون بمحاولة تجاوز هذا الازدواج، وتأتي هنا محاولة العطار أن يرسل رفاعة لنيل حظه من علوم الغرب، فيستطيع بهذا أن يحوز شيخ أزهري مقاليد التقليد والحداثة، المكون الذاتيّ ومعاصرة الواقع.
فكل هذه المحاولات تعطي طابعًا بأن الإصلاح في الإسلام دوما ما يكون خارجيًّا، تحفزه وقائع السياسة أو صدمات الغزو، مما يجعل هذا الإصلاح إمكانية في الإسلام وليس قانونًا ذاتيًّا له القدرة على الحركة من تلقاء ذاته. وهذا أيضًا ما جعل مفكّرًا عربيًّا كفهمي جدعان، أن ينبّه على كون الإصلاح في الإسلام لم يكن جديدًا كما يتصور، بل إن الإصلاح والتجديد في الإسلام هو فعل دائم يدلّ على رسوخ قبولُ المخيال الإسلامي لحديث المجدد على رأس مائة، مما يعني قبولًا ضمنيًّا لضرورة التجديد.
وبعيدًا حتى عن وقائع تاريخية كثيرة ترينا محاولات للتجديد على مستوى الفقه والمقاصد والكلام، إّلا أن فهمًا داخليًّا لبنية الإسلام كافٍ لاكتشاف أن الإصلاح سمة رئيسة في هذا الدين تمثل عنصرًا أصيلًا، يعطي له القدرة على التجديد الدائم؛ فالإسلام باعتباره آخر رسالة من الرسالات الإبراهيمية يصر على كونه عودة إلى إبراهيم الحنيف، عودة تصلح وتحكم وتهيمن على الانحرافات التي أصابت هذا الأصل عبر الابتعاد عن مشكاته بالنسيان وتراكم الأوقار والأغشية. فليس الإسلام بهذا سوى نزع الأغشية، النزع الدائم لأغشية ترين فتحجب صفاء الرسالة الأولى التي هي ذاتها ليست سوى محاولة التذكير بالعهد المنسيّ من قبل أبناء آدم.
من هنا يكون الإصلاح خصيصة رئيسة لا يمكن التنكر لها دون أن يكون في هذا تنكر لما يشكل جوهر هذا الدين. أهمية هذه الرؤية تأتي من أنها تعيد صياغة ما يمكن أن نعتبره مجمل استراتيجية الإصلاح، أي منطلقاته وأهدافه وآلياته، تعيد صياغتها بحيث تخلصها من ضرورة الانبناء داخل أهداف أجندة الواقع السياسيّ أو الخلافات الاستشراقية حول الإسلام.
فحين نعتبر أن الإصلاح يتم في الإسلام كأحد خصائصه، تصبح منطلقات هذا الإصلاح كامنة دوما فيه، في الإيمان بأن الأصل عصيّ على أي استنفاز لممكناته، وتصبح أهدافه هي العودة للأصل من أجل اكتشاف ما لم يكتشف بعد فيه، إيمانًا بصلاحيته لكل زمان.