أ.كريم محمّد
كان سؤال التجديد بالنسبة إلى المسلمين إلى ما قبل الصدمة الحداثية، سؤالًا داخليًّا، يتعلّق بالداخل الإسلامي، وليس بخارجه بشكل رئيس. فكان أمر التجديد ينهض به أهل العلم والدين أصحاب الرأسمال الرمزي الذين نطلق عليهم مسمّى العلماء، بل إنّ هناك خيطًا ناظمًا يشدّ التفكير الإسلامي بأنّ أمر الدين يُجدّده عالِم معيّن على رأس كل مائة عام، كما في الحديث المنسوب إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-. فالتجديد كامن في حركة التاريخ الإسلامي على مستوى العلوم الشرعيّة، والتجديد لا يعني الإبداع بحال؛ لأنّه قد يكون إظهارًا وتبيانًا للعلم الذي غفل عنه الناس، ويمكن كذلك أن يكون إبداعًا كما نرى مع علماء كبار واجهوا محنة التجديد، كالغزالي والرازي وابن تيمية وغيرهم.
أما حديثًا، فقد انتقل مشكل التجديد من كونه مشكلًا إسلاميًّا – إسلاميًّا، إلى كونه مشكلًا إسلاميًّا غربيًّا، وخارجيًّا بالأحرى. فالتحدّي الذي وُضع فيه المسلمون كان يلزمهم –من وجهة نظرهم هذه الفترة- أن يعيدوا قراءة موروثهم الديني، مشذّبين منه ما يتنافى مع العصر الليبرالي غالبًا، وإظهار جوانبه العقلانية كي يُثبت الخطاب الإسلامي للآخر الغربي (الكولونيالي) أنّه عقلاني، وأن لديه إرثًا من تاريخ العقل، وكأنّه إعلان لدخول المسلمين في التاريخ المناسب للغرب.
وفي القرون المتأخرة، حيث أصيب المسلمون بتخلّف عن ركب الحضارة بعد أن كانوا في الركب أسيادًا متقدمين، ظهرت تيارات شرّعية تنادي بالإصلاح الديني لمعرفة الخلل الذي نتج وجعل المسلمين يتأخرون عن ركب الحضارة، وظهر السؤال المـــُلِح والذي مازال قائمًا حتى اليوم، وهو السؤال الذي أعلنه وصاغه شكيب أرسلان (ت)1946: لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ ويمكن أن نعتبر ذلك هو السؤال المركزي التي كانت تحاول حركة النهضة العربية أن تجاوب عنه.
صحيح أن الإجمال في هذه النقطة خطأ. فظهرت تيارات تدعو للإصلاح الفقهي والتربوي، مثلًا مدرسة الشيخ محمد عبده (ت1905م)، وتيارات تدعو إلى إصلاح عقدي (السلفيّة نموذجًا)، وتيارات تدعو إلى إصلاح سياسي (الأفغاني ت1897، والكواكبي ت1902، ومحمد عبده ت1905)، وتيارات تدعو إلى إصلاح إبستمولوجي مثل (المعهد العالمي للفكر الإسلامي ومجموعته المؤسّسة)، وتيارات تدعو لردّ الاعتبار لعلم الكلام وتجديده (حسن الشافعي، وطه عبد الرحمن)، وتيارات تدعو إلى إعادة بناء الأمّة سياسيًّا والمناداة بالخلافة وإصلاحها كالعديد من الحركات الإسلامية المعاصرة، ومنها: الإخوان المسلمون وحزب التحرير وجهات أخرى، ومنهم من يدعو إلى إعادة إنتاج القرون الأولى والعمل على إيجاد جيلٍ مثل جيل الصحابة (جماعة التبليغ مثلًا).
لا تختلف الإصلاحيّة العربيّة بين إسلامي وليبرالي وقومي… إلخ إلّا في طبيعة الجواب، أما في ماهية المــُشكل نفسه فإنّه لا خلاف بينهم جميعًا أنّه: تردّي الوضع العربي والإسلامي، وتقدّم الحضارة الغالبة. لقد انكسر هؤلاء جميعًا بهذا السؤال، فبعد أن كانت الحضارة الإسلاميّة هي الحضارة العالِمة، فقد وجدت أنفسها عاجزةً أمام المد الاستشراقي المهيمن والمدّ الاستعماري العسكري للهيمنة على الغرب.
ولكن مرحلة النهضة التي تعرّض لها المسلمون لم يكن فيها المجدّدون على مستوى واحد. ولنأخذ مثلًا واحدًا من أهم الإصلاحيين الذين دعوا للتجديد ولتجديد الخطاب الديني، ألا وهو محمّد عبده. فرُغم أنّ عبده كان ذا نصّ متوتر، إلّا أن روافده كانت تسير في أكثر من اتجاه: من الليبرالي المتطرف والعلماني كأحمد لطفي السيد وطه حسين، إلى المصلح الأول ثم السلفي أخيرًا -عنيتُ رشيد رضا-.
انقسمت دعوات تجديد الخطاب الديني كلّ من حيث منظوره لذاته كهوية، وللآخر كغيره لهذه الهوية. فمن مجدّدي الخطاب الدين من رأى أن التجديد يكون بالرجوع إلى القرآن والسُنَّة منبعيّ الإسلام دون الوسائط التراثية. وحتى من يدعون لهذه الدعوة هو منقسمون، فمحمد عبده كان يدعو لذلك، وسيد قطب كذلك، وهم على شقيْ نقيض. فبينما كان عبده يجدّد الخطاب الإسلامي كي يتكلّم المسلمون لغة العصر، كان سيد قطب يكسّر لغة العصر كي يخترع مجتمعًا متخيّلًا يكون كالرعيل الأول من الصحابة -رضوان الله عليهم-، وهذا الرعيل الجديد لا ينخرط في سؤال الحضارة العلماني والمفروض على الأمَّة الإسلامية.
وكان من دعاة التجديد أيضًا التيار الإصلاحي السياسي ممثلًا في جماعة الإخوان المسلمين. فحسن البنّا -رحمه الله- كان يرى أن الهزيمة التي وقعت للأمة لا تكون إلا باستعادة وحدتها كأمّة في مواجهة الأخطار الخارجية؛ وذلك على نموذج الخلافة الذي كان قائمًا وهدّمه أتاتورك، مما أدى لإضعاف المسلمين وتشتتهم في دول حديثة لا تقوم بصون الدين وحفظ معاش الناس ودنياهم.
والحقيقة، أن الخطاب الإصلاحي للإخوان المسلمين أيضًا هو خطاب متغيّر مع الوقت؛ وذلك لأنّ بنية الجماعة بالأساس بنية سياسيّة، تطمح إلى دولة. وإذا كانت البنية لأي تنظيم بنية سياسيّة بالأساس، فمن الطبيعي أن يضطرّ هذا التنظيم أن يسير في إطار خطاب براغماتي، يتغيّر مع الوقت، حتى ولو كانت له قواعد متعالية يعمل عليها، إلّا أنه يجيد أن يخفيها أو يعيد تأويلها بما يخدم الراهن الذي يواجهه.
ومع توزّع سؤال تجديد الخطاب الديني، ظهرت مشاريع قراءة التراث وإعادة قراءة الموروث الديني، حيث عمل هؤلاء الباحثون على إعادة قراءة تراثهم من منطلق ماركسي أحيانًا (حسين مروة نموذجا)، ومن منطلق بنيوي أحيانًا أخري (عابد الجابري)، ومن منطلق تحريري (حسن حنفي)… إلخ. ورغم العِوار المنهجي الذي يمكن أن نجده في هذه المشاريع، إلّا أنها كانت تعاني من السؤال نفسه: لماذا تقدم الغرب ولم يتقدم المسلمون؟
ويمكن أن نذكر ملاحظة على هذه المشاريع. فهي مشاريع كانت تنطلق –مثل سابقاتها الإصلاحية- من حتمية التجديد، كأنّ التجديد همّ بذاته، دون وعي عميق بالبناء المركزي والأساس الذي يحرّك الثقافة الإسلامية: القرآن، فيُلاحظ على جميع تلك التيارات –التي تُشكر- أنها لم تتّخذ من القرآن الكريم وتدبره ومنهجه منطلقًا أساسًا للإصلاح، مع أن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد المُعجز الذي أنزله الله (سبحانه وتعالى) ليكون دليلَ استخلافٍ وعمرانٍ وقيامٍ بالأمانة ووفاءٍ بالعهد المُبرم بين الله (تعالى) وخلقه. فلو اتّخذ القرآن الكريم منطلقًا للإصلاح والتجديد لاكتشف الجميع أن القرآن كافٍ إذا أحسنت الأمَّة تدبره وفقهه والفهم عنه؛ لأنْ تهيمن به على مقاليد النهضة وأن تحقق به قواعد التقدم، فقد أودعه الله كلّ ما يحتاجه الإنسان في حياته الدّنيا؛ ليكون خليفة فالحًا ناجحًا وصادقًا مع ربه ومع نفسه ومع الكون.
ولذلك فإننا نرى أن الانطلاق من القرآن للتجديد في قراءة التراث وفي الخطاب الديني المعاصر منطلقًا حقيقيًّا. وذلك أننا نرى أن الثقافة الإسلامية قد حادت عن قيم القرآن ومقاصده العليا، ولم تتخذ الكتاب بمعناه الشامل منبعًا في اللغة والحكم على الأخبار والمدونات والأحكام الفقهية والأصول العقلية وعلم الكلام، إلى آخر العلوم التي ينتجها المسلمون. فالقرآن ليس عائقًا في التجديد كما يدّعي ممن يعيدون قراءة الإسلام على أسس فاسدة، إنما هو الثورة الحقيقية لإعادة إنتاج المسلمين من جديد، رمزيًّا (علوم الثقافة) وماديًّا (علوم الأرض).
وإذا نقدنا التيارات التحديثية، فنقدنا بالمثل للتيارات الإسلامية على مختلف تنوّعاتها؛ لأنّها قد اختزلت الدين في بُعد ما، وراحت تجدد خطابها الديني الممثّل للإسلام وفقًا لنظرتها حول هذا البعد من الإسلام: فتمّ تسييس الإسلام، وتمّت سلفنته، وتمّت دعشنته… إلى آخر النسخ الإسلامية العوراء.
فتجديد الخطاب الديني من منظورنا يكون بإبداع قراءة جديدة للقرآن تتخذ منه منطلقًا للتجديد، بحيث يكون قاعدتها المفهومية والروحية والفقهية. وذلك من الخلال التعامل مع كتاب الله كوحدة مفاهيمية وبنائية موازية للكون، باعتبارهما متناظرين. وأيضًا، من خلال نقد التراث بناء على القرآن، وإعادة تقييم الموروث الفقهي ليس على قيم ليبرالية حديثة، وإنما على قيم القرآن ذاته التي نرى أن النص الثاني، الذي هو التراث، قد حجب النص الأول، الذي هو القرآن.
إن ما تقوم به الجماعات الإسلامية وما تقوم به معاهد التعليم الشرعي التقليدي والمؤسسات الدينية من تجديد، يبقى محدودًا، وضعيف الأثر برأينا. ما دام أن القرآن بمقاصده القيمية والخُلقية والمعيارية ليس مناط التجديد وقاعدته الأساس.