Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

تجديد الخطاب الديني

أ.د/ طه جابر العلواني

خلق الله الإنسان بطبيعته كائنًا اجتماعيًّا، لا يستطيع العيش إلا في مجتمع منظم، يتقيَّد كل فرد فيه بما يتحدد به واجبه من حدود، ويبين له ما له وما عليه، وأين تنتهي حريَّته، وأين تبدأ، وما للآخرين وما عليهم، وقد زود الله (جل شأنه) هذا الكائن البشري بقدرات وطاقات متعددة، ليتمكن بها من تحقيق هذه المهمة مهمة الاستخلاف وبناء العمران.

وقد كان الناس أمَّة واحدة فاختلفوا ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (يونس:19)، ولما اختلفوا برزت حاجتهم الماسَّة إلى مرجعيَّة تعرفهم كيف يستطيعون أن يتعايشوا معًا، ويمارس كل منهم حريَّة إرادته، ويعرف كيف يوفق بينها وبين حريَّة إرادة الآخرين، وفق نظريَّة عامَّة للحريَّة، ونظريَّة أخرى للتكليف، ومجموعة من النظريَّات المتممة والمكملة التي لابد منها، وبدأ الإنسان يعرف طريقه لسن القوانين والتشريعات والقواعد التي من شأنها أن تساعده في تنظيم الحياة بالطريقة التي ذكرنا، وبدأ الإنسان يتعرف شيئًا فشيئًا على النظم القانونيَّة والاجتماعيَّة والقواعد السلوكيَّة، والأخلاقيَّة، ويتسع تفكيره ليؤسس لنظم ونظريَّات وما شاكل ذلك تنظم له ما يملك وما لا يملك، وما يحتاج إلى استخدم العقد لحيازته، وإلى نظم تتعلق بنكاحه وطلاقه، وأنواع النفقات التي له وعليه بين الأقارب وغيرهم، والمواريث والوصايا، والأخلاق، وما يحول بينه وبين الاعتداء على الآخرين، أو اعتدائهم عليه.

 والله (تبارك وتعالى) لم يدع الإنسان وحده في هذا الميدان، بل أنعم عليه بقواعد الدين، يحملها الأنبياء والمرسلون، وينزل بها الوحي إليهم لمساعدته في تنظيم حياته، وعلاقاته، وسلوكيَّاته، فجاءت بالحلال والحرام: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (الأنعام:151-153).

وبذلك أصبح لدى الإنسان طريقان للوصول إلى قواعد تنظيم حياته، ومعرفة ما له وما عليه، والوصول إلى العدالة، وكيفيَّة التعايش مع الآخرين بشكل سليم، يجمع بين هداية الله المستخلف للإنسان وقدراته على الاستجابة، وعلى الابتكار والتوليد، وقد عرفت البشريَّة منذ تاريخ بعيد ما يعرف بدين الله، وبدين الملك، وفي قصة يوسف: ﴿.. مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (يوسف:76)، ويقول (جل شأنه) في أول سورة النور: ﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ .. (النور:1-2).

والقواعد التنظيميَّة سواء أطلقنا عليها قواعد تشريعيَّة، أو قانونيَّة أو دينيَّة تستهدف الحيلولة دون المجتمعات الإنسانيَّة والوقوع في الفوضى والاضطراب، والخروج عن دوائر العدل، لكن القواعد التي تنبثق عن الإنسان تكون قد بلغت مداها بناء على تطور إنساني بطيء، أمَّا القواعد الدينيَّة “دين الله، أو دين الملك” فإنَّها كما قلنا تأتي وحيًا من الله (جل شأنه) إلى أنبيائه ورسله، ومعها جملة من الضوابط والشروط تهيئ هذا الإنسان لقبولها والانفعال بها، فعلاقته أي الإنسان بتلك القواعد التي تنشأ وتنمو وتتطور على يديه تختلف عن تلك القواعد التي تنزل إليه على النبيين والمرسلين فيقوم بتعلمها منهم، ويكون التزامه بها قائمًا على مجموعة من القناعات التي لابد منها؛ لكي يتقبل تلك القواعد وينفعل بها.

ومن هنا يأتي الفرق بين التشريعات الدينيَّة والقوانين الزمنيَّة، وهي فروق كثيرة لا يستهان بها. ونحن في تتبع التشريعات الدينيَّة لا نحتاج كثيرًا إلى المنهج التاريخي، وإن كان الإلمام به مطلوبًا لمزيد من الفهم، والإدراك، لكنَّنا نحتاج أكثر إلى المنهج التأصيلي الذي نؤصل به لكل مبدأ أو تشريع أو قاعدة تأتي إلينا بطريق الدين، ولعل هذا ملمح يقتضي الملاحظة عندما نقوم بدراسة الفروق بين الديني والزمني من تلك القواعد، والمنهج التأصيلي يفترض أن يكون لكل فرع أصلًا، ولكل قاعدة منطلق، ومن ذلك الأصل والمنطلق تكون البداية، فأيَّة قاعدة أو تشريع ينسب إلى الدين لابد لنا من معرفة أصله، والتأصيل له، ومعرفة الأساس الذي بني عليه، وما إذا كان أساسًا مقبولًا يمكن أن يبنى عليه أو أنَّه لا يمكن أن يبنى عليه أو يؤسس لغيره.

ومن هنا نجد أنفسنا ونحن نقوم بمراجعة علوم الشريعة المنقولة إلينا أن نبحث عن أصولها ونراجع علاقتها بتلك الأصول، وأين كانت تلك العلاقة سليمة متينة؟ وأين ضعفت تلك العلاقة؟ وما آثار ذلك على تلك القواعد وتديننا بها، والتزامنا بما جاءت به؟

وهناك علم أصول الدين أو التوحيد، ثم علم أصول الفقه، والتفسير، والحديث، والفقه، هذه علوم ومعارف تكونت حول النص أو الخطاب الذي أنزل الله على رسله، لتعين على حسن فهمه، ومعرفة مراده.

وفي مراجعاتنا هذه نتلمس الطريق لمعرفة العلاقة بين الأصول التي بنيت بها وعليها هذه المعارف، وعلاقتها بها، وإذا كانت مسيرتها وسيرورتها قد اختلفت أو تغيَّرت عبر السنين عما كانت عليه، وما بلغته في عصرنا هذا، إنَّ شكاوى الناس قد كثرت من قصور هذه المعارف عن تلبية احتياجاتها من أصولها، فالأفكار الموجودة في محتواها أو المقدمات الواقعيَّة التي افترضتها أو صياغاتها وتعاريفها كل ذلك موضع شكوى بأنَّه صار قاصرًا عن أن يعبر عن المبادئ والأفكار العامَّة التي قامت عليها تلك الأصول، ولم تعد هذه المعارف قادرة على الجمع المناسب بينها وبين قضايا الناس بنوع من كيان أو تسلسل منطقي يحتويها بسلك واحد في تركيب نتائج تلك الأفكار والمبادئ المنظمة لها، وبالتالي فإنَّها لم تعد قادرة على إيجاد مبادئ مشتركة قادرة على تكوين نظم عامَّة تساعد على الارتفاع إلى الأفكار والمبادئ المتزايدة سعة وشمولًا، فصارت كثيرًا ما تصطدم بوحدة الإنسان، وتبرز تناقضًا بينه وبين ذاته في مختلف جوانب الحياة، فيقع فريسة لذلك التناقض بين إيمانه ومعتقده ومواقف تلك القواعد من كثير من تفاصيل حياته، فيعلن تنكره لها، أو تناقضه معها، أو خروجه عليها، أو رغبته في استبدالها فتحدث الأزمة التي قد تستفحل، وتبلغ حدًا من التصادم ألف الناس أن يفسروه أو يواجهوه بمواقف شتى.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *