Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

قراءة في كتاب أسس التقدم عند مفكري الإسلام

أ. طارق حجي

يُعد كتاب “أسس التقدم عند مفكري الإسلام” لفهمي جدعان من أهم الكتب التي تؤرخ للفكر العربيّ المعاصر منذ دخول العرب “للأزمنة الحديثة” لو شئنا استخدمنا مصطلح جدعان نفسه، بل إنَّنا لا نبالغ إذا قلنا: إنَّ هذا الكتاب يُعد مدخل أساس لدراسة هذا الفكر، فهو لا يتميَّز فحسب بدقة المسح التاريخيّ والتنبه العميق للفروقات بين المفكرين والأفكار والمواقف، لكنَّه كذلك يتميَّز بقدرة على تحديد الإشكالات الرئيسة لهذا الفكر، مما يجعل التنقل بين ثنايات هذا الفكر ومراحل تطوره هو تنقل شديد الوعي، ويحفظ المادة التاريخيَّة الكثيفة التي ينطوي عليها الكتاب من خطر التشتت والتكرار والفوضى.
يقسم جدعان كتابه لستة فصول هي:

  • “ميتافيزيقيا التقدم”.
  • “الحقيقة والتاريخ”.
  • “الدخول في الأزمنة الحديثة”.
  • “التوحيد المحرر”.
  • “دروب الفعل”.
  • “القيم”.

    ونستطيع أن نتابع في هذه الفصول مراقبة متعددة المداخل لأشكال التقدم، ولهذه التغييرات التي طرأت على الفكر العربيّ منذ بدايات انهيار الإمبراطوريَّة العثمانيَّة ونزول الفرنسيين بر مصر.

    في الفصل الأول يبحث جدعان في مفهوم التقدم، ويتساءل عن تواجد هذا المفهوم في الذهن الإسلاميّ قبل دخولهم في الأزمنة الحديثة، يرى جدعان أنَّ الفكر الإسلاميّ قد عاين ومنذ فترة طويلة ما وصل إليه حال المسلمين من تردي، بل يزيد على هذا، الوعي بكون هذا التردي تردي مستمر، مما يعطي صورة للتاريخ وكأنَّه يتحرك حتمًا إلى أسوأ، هذه الجبريَّة التاريخيَّة ربما تؤيدها في رأي جدعان بعض المذاهب التي تتبنى رؤية جبريَّة وتقلل بل تلغي الفعاليَّة الإنسانيَّة، لكن ظل الأشاعرة والمعتزلة والغزالي في رأي جدعان على محاولة استعادة هذا الدور.

ويرى جدعان أنَّ فكرة الغزالي عن المصلح القرني هي فكرة شديدة الجودة في محاولة الوقوف أمام أفكار الانحطاط المستمر هذه، لعلَّها أفضل كثيرًا من فكرة المهدي المنتظر والتي لا شك أثرت على ميلاد فكرة الغزالي، كذلك ابن خلدون ببلورته قوانين العمران، فرغم أنَّ البعض يعتبر آراء ابن خلدون آراء تتماشى وتؤيد تمامًا فكرة الانحدار المستمر والاتجاه الحتمي نحو الانهيار فإنَّ جدعان يصر على إنصاف ابن خلدون، فابن خلدون قد رصد أسباب الانهيار وحددها بالاستبداد مما يجعل الانهيار غير حتمي عنده، كذلك فإنَّ تحليل ابن خلدون ينحصر في إطار محدد وهو عمر الأمَّة الواحدة، ما يجعله بعيد عن القول بتقدم البشريَّة نحو الانهيار.
يبحث جدعان كذلك عن بعض الآراء التي قال بها فلاسفة مسلمون حول التقدم لا السياسي أو العمراني فحسب، بل كذلك التقدم الكوزمي والروحيّ، فيجد آراء للسجستاني تتحدث عن تطور كوني من طور لأكمل، كما لا يخفى حديث الفلاسفة المسلمين كالكندي والفارابي عن مراتب التطور الإنسانيّ الروحيّ وحديث المتصوفة عن الإنسان الكامل.

يعد هذا الفصل مقدمة جيدة جدًا يقوم بها جدعان من أجل التأكيد على مقاومة إسلاميَّة قبل الدخول في الأزمنة الحديثة لفكرة الانحدار المستمر والحتمي، إنَّ الإسلام نفسه تأكيد على أنَّ الانحدار ممكن معالجته، حيث يمثِّل الإسلام علاجًا لكل ما طرأ على  الإبراهيميَّة من تحريف.
لكنَّه كذلك تأكيد على أنَّ التاريخ حركة مستمرة، وأنَّه لا ينبغي الخوف من قوانينه وملماته، وأنَّ الاهتمام بأحواله متمم للاهتمام بالدين، وهذا هو موضوع الفصل الثاني الذي يعنونه جدعان: “الحقيقة والتاريخ”.

كثيرًا ما يلح جدعان على هذا التوزان بين العقل والوجدان والواقع كطريق ملكي لعيش سليم؛ لذا فهو في هذا الفصل يثمن تمامًا محاولات الماوردي وابن خلدون أكثر مما يعطي الاهتمام للغزالي، الذي في ظنَّه قد رجح كِفَّة الآخرة على الدنيا، والروح على البدن، والدين على الدنيا، فأخلَّ بهذا التوازن، ويستريح تمامًا لكون الماوردي وابن خلدون كانوا على رأس الاهتمامات في الفكر العربي المعاصر، فمقدمة ابن خلدون كانت أساس في ذهن مفكري النهضة مثل الطهطاوي وعلال الفاسي وعلي يوسف ومحمد عبده الذي درسها في الأزهر لأول مرة كما يذكر تلميذه مصطفى عبد الرازق.

هذان الفصلان وهما الأقل في عدد الصفحات هما مجرد مدخل لما يتناوله كتاب جدعان، حتى أنَّنا نستطيع أن نقول: إنَّ الكتاب يبدأ من فصله الثالث “الدخول في الأزمنة الحديثة”، وأنَّ هذين الفصلين كانا فحسب مدخلًا، لكَّنه مدخل ضروري حيث أكَّد فيه جدعان على نقطتين رئيسيتين هما:

  • وجود اهتمام إسلاميّ قبل الأزمنة الحديثة بالتقدم، ورغبة في تجاوز حتميَّة الانهيار التي برزت في الواقع ثم وضعت لها من الأحاديث والآثار ما يؤيدها مثل الحديث الحتمي عن افتراق الأمَّة.
  • والثانية أنَّ الفكر الإسلاميّ وقبل الدخول في الأزمنة الحديثة كان قد حاول تحديد عوامل واقعيَّة سياسيَّة وفكريَّة تسبب انهيار الدول مما يعني نفي أقوى لفكرة حتميَّة الانهيار.
    “الدخول إلى الأزمنة الحديثة” هو عنوان الفصل الثالث الذي يمثِّل أول دخول في لب الكتاب، وهي كذلك فكرة جدعان الشهيرة، فمنذ إطلاق جدعان لهذه الجملة وانبرى عدد من الباحثين يستخدمونها في وصفهم مرحلة ما بعد نابليون.

ولفظة الأزمنة الحديثة دقيقة جدًا حيث لا تشير إلى الحداثة لكن فحسب لمعاصرة الحداثة كما يقول المسكيني، فالأزمنة الحديثة تكشفت لذهن العرب والمسلمين مع أواخر الدولة العثمانيَّة زيادة التدخل الأوروبي وظهور الدائنين الأوربيين ثم حملة نابليون على مصر.
فقد استيقظ المسلمون على مدافع نابليون، ومن لحظتها تشكَّل الفكر العربي تشكُّل مختلف تمامًا، إذ نشأت حقول فكريَّة ومفاهيم جديدة لم تكن من معضلات الفكر العربي قبلها، مثل سؤال: “لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟” الذي صاغه الأمير شكيب أرسلان، ومثل سؤال الأصالة والمعاصرة، ومثل سؤال الدين وعلاقته بتقدم الأمم، وغيرها من إشكالات ظلت تتلاحق وتفرض نفسها مع انعطافات سياسيَّة كبرى على الذهن المسلم، مثلًا أفكار القوميَّة والعروبة والإسلام والتي نشأت مع صعود الاتحاد والترقي، وتركيا الفتاة، وتبلور نزعة شوفونيَّة تركيَّة، فضلًا عن تفسير قديم يرجع الانحطاط الذي لحق بالخلافة لصعود الأجناس التركيَّة والمغوليَّة على حساب العرب، وهي نظرة لها أصول استشراقيَّة تتعلق بالدعاية التي قدمتها الحملة الفرنسيَّة كمخلص من النير التركي ومتسامح مع العروبة والإسلام.

يبتدئ جدعان بوصف الحال في البلاد الإسلاميَّة تحت حكم العثمانيين، فيرى أنَّ هذه البلاد كانت مهملة بشدة من قبل الحكَّام الأتراك، ويذكر موقف للدلالة على هذا: وهو موقف والي مصر أحمد باشا وكان له معرفة واهتمام بالعلوم من شيوخ مصر لما قابلهم، فقد أنكر عليهم عدم معرفتهم بعلوم  الصنائع، كان جواب الشيخ عبد الله الشبراوي هو فقر شيوخ الأزهر وطلبتهم عن التفرُّغ لهذه العلوم، يرى جدعان أنَّ هذا الموقف مع دلالته على أزهر يعيش الجمود إلا إنَّه يدل كذلك على مدى إهمال الخلافة للأزهر ولعل هذا يتعلَّق باستعصاء الأزهر على التتريك، واستعصاء الخلافة على أن تصبح عربيَّة مما أدى لإهماله خوفًا من نفوذ عربي قد يهدد عنصر الخلافة التركي الفاقد لأول شرط فقهي وهو القرشيَّة.
في ظل هذه الأحوال جاءت الحملة الفرنسيَّة بعلومها إلى مصر، مما دعا بعض علماء الأزهر كالشيخ حسن العطار -والذي سيصبح رأس المشيخة مع مَقْدَم محمد علي واليًا على مصر- إلى الاهتمام الكبير بهذه العلوم التي لم يكن الأزهر يعهدها، وكان هذا أيضًا وراء إرسال الطهطاوي إلى فرنسا كي يلم بأسباب تقدم الفرنساويَّة.

من الأفكار شديدة الأهميَّة التي يرصدها جدعان في هذه الفترة هي فكرة التمدُّن وحتميَّة التطور، ويذكر جدعان كيف كان البعض مثل علي يوسف في “المؤيد” يحاول التأكيد على حتميَّة التطور هذه عن طريق الاستفادة من نظريَّات عربيَّة وغربيَّة، فبالدمج بين ابن خلدون وكونت، وحتى مع تكييف عمراني واجتماعي لنظريَّة التطور، حاول علي يوسف التأكيد على أهميَّة وحتميَّة التطور.

كان ثمة سؤال مسيطر في هذه الفترة حول مدى إمكان توافق الإسلام مع المدنيَّة، كان الطهطاوي واعيًا بالاختلاف مما جعله حذر في تقبل بسيط لتوافق الإسلام والمدنيَّة الغربيَّة، فبعض الأفكار مثل فكرة استقلال قوانين الطبيعة ظلت تمثل عائق أمام القبول البسيط وتدعوا للحذر، وتتطلب تكييفًا في نظر الطهطاوي.

مع الأفغاني الأمر أخذ ربما بُعد أعمق، فالأفغاني يدين بعض مظاهر المدنيَّة الغربيَّة، ويعتبر أنَّ هدف المدنيَّة هو ترقي البشريَّة لا دمارها المتمثِّل في الأسلحة والاهتمامات العسكريَّة، بلور الأفغاني تصور عن مسدس السعادة، والذي يرى أنَّ الإسلام وحده قادر على تحقيقة، في حين أنَّ الأفكار الدهريَّة لا تستطيع تحقيق قصر السعادة المسدس هذا، وهي أفكار سنجد صداها أيضًا مع محمد عبده ومع فريد وجدي بعد هذا.

كانت محاولة الوصول لتوليف من ناحية “الطهطاوي” أو استحضار لا يحتاج توليف “الشيخ قادو” أو إنشاء لمدنيَّة من داخل تصور إسلاميّ يملك القدرة على إدانة الحضارة الغربيَّة الماديَّة “الأفغاني” هو المسيطر على هذه الفترة، لكن يبقى الأبرز محاولة إعطاء فكرة التقدم أبعاد فلسفيَّة وعلميَّة كما تشير محاولة علي يوسف في “المؤيد”.

من الممكن اعتبار هذا الفصل الرابع والمعنون “الإسلام المحرر” بإنَّه أكثر فصول الكتاب دسامة.

هذا الفصل يتناول فكرة شديدة الأهميَّة كانت قد طرحتها عوامل كثيرة، الوضع السياسيّ والعمرانيّ والاجتماعيّ الذي وصلت له البلاد الإسلاميَّة وإدراكها تأخرها، كذلك الاتهامات التي صاغها عدد من السياسيّين الغرب والمفكرين والتي تربط تأخر المسلمين بالإسلام مباشرة، ما جدَّ على أذهان المسلمين من علوم غربيَّة حديثة.

كل هذا قد طرح فكرة هل الإسلام بما هو دين التوحيد داع للتقدم أم للتأخر؟ موافق للمدنيَّة أم معارض لها؟

ومن هنا يتحدث جدعان عن التوحيد المحرر، أي كون التوحيد طريق لتجاوز الاستبداد والخوف والقهر والوصاية، يتحدث جدعان عن علم الكلام وكيف كان مطلب شديد الإلحاح مع بداية عصر النهضة محاولة تجاوز جفاف علم الكلام وابتعاده عن حياة المسلمين، وتحوّل الله إلى محض فكرة يتم الجدل حولها بدلًا من أن يكون الإيمان به محفز للإنسان ومؤثر تمام التأثير في حياته الاجتماعيَّة، يذكر جدعان هنا محاولة محمد بن عبد الوهاب ومحاولة الحبابي وكذلك عثمان أمين.

يرى جدعان أنَّ الفكرة الوهابيَّة بالعودة لتوحيد بسيط بعيد عن البدع والخرافات والمماحكة الكلاميَّة هو فعل له قدرة كبيرة على التحرير، التحرر من الاستبداد السياسيّ عن طريق المساواة، أم الله والتحرر من الخوف من قوى الكون بعد الإيمان بمصرف واحد، وبعيدًا عن ما آلت إليه التجربة الوهابيَّة يقول جدعان: فإنَّها تظل جديرة بالاهتمام، بل يشببها في تشبيه لا يخلوا من مفارقة كما يقول هو نفسه بالاعتزال في قضيَّة الاهتمام الشديد بالتوحيد.
ونحن نستطيع أن نجد اهتمام مماثل عند الكواكبي في أم القرى ومدى احتفاءه بالفقيه الحنبلي ذاك الذي يمثِّل المبدأ الوهابي الذي طالما قورن بالبروتستانتيَّة، وهو اهتمام سنجده كذلك لاحقًا مع مالك بن نبي.

أمَّا محاولات الحبابي في الشخصانيَّة الإسلاميَّة وعثمان أمين في الجوانيَّة، والتي تهدف لإبراز مدى مقدرة مبدأ التوحيد على وعي الذات بنفسها ومدى باطنيَّتها وعمقها وحريَّتها وغناها، فقد كانت قد نهلت بصورة كبيرة وفي مركب فريد من فلسفات غربيَّة، مثل فلسفة برجسون، فأعطت للتوحيد المحرر بعد آخر، فلم يقتصر التحرير على الخارج “السياسة والكون” بل على الداخل كذلك.

مع الاتهامات الغربيَّة التي تربط الإسلام بالانحطاط ظهرت محاولات للرد قويَّة يمثِّلها عبده والأفغاني وحسين الجسر، وهي محاولات تهدف إلى إبراز مدى ما تحتويه مبادئ التوحيد من قدرة على السعي في طريق المدنيَّة، وإبراز السبق العلميّ للمسلمين في توازي مع العصور الوسطى الغربيَّة المظلمة، وكذلك فك أي علاقة بين المسيحيَّة والتقدم الغربيّ، فالتقدم الغربيّ لم يحدث إلا مع البروتستانتيَّة، وهي في الحقيقة أقرب للإسلام منها لمسيحيَّة العصور الوسطى الكاثوليكيَّة.

مضى الأمر أبعد من هذا حيث حاول بعض الكتَّاب بيان كيف أنَّ العلم الغربيّ لا يتناقض أصلًا والإسلام، من هنا تأتي محاولة حسين الجسر الرائدة في المزاوجة بين بعض النظريَّات الحديثة كالتطور والإسلام، بتكييف يقوم على إبراز القدرة والإلهيَّة وعدم إهدارها إلى جانب قوانين الكون، مع عدم إهدار هذه الأخيرة أيضًا، وكان قد تابع الجسر الطرابلسي كثيرون منهم طنطاوي جوهري وجمال الدين القاسمي والسيد أبو المعالي الألوسي في محاولات لاستيعاب العلم الحديث داخل المفاهيم الإسلاميَّة وتجديد طرق الاستدلال على وجود الله وإضافة أدلة جديدة تستلهم الفلسفات الحديثة والعلم الحديث، وتنضاف للبراهين الفلسفيَّة التي بلورها الفلاسفة المسلمين مثل البرهان الغائيّ وبرهان التمام..

في هذا الفصل الخامس والمعنون “دروب الفعل” يتناول جدعان بعض القضايا الفكريَّة الهامَّة التي تبلورت في عصر النهضة، مثل: قضيَّة العروبة، والجامعة الإسلاميَّة، وعلاقة العروبة بالإسلام، كما يتناول قضيَّة التغريب.

أيضًا من الأفكار الهامَّة التي يتناولها جدعان في هذا الفصل فكرة الإصلاح السياسيّ، وفكرة الإصلاح الدينيّ، فيتناول جهود عبده ورشيد رضا في سبيل إصلاح المجتمع والتربية، وربما يعود هذا لفشل محاولات الإصلاح السياسيّ، سواء محاولات الكواكبي والأفغاني والزهراوي مع الخلافة، أو محاولات عرابي في مصر، فتم الانتقال من إصلاح السياسة لمحاولة إصلاح المجتمع، وتبلورت فكرة التربية التي يرى علي أومليل أنَّها فكرة رئيسة في خطاب النهضة بشقيه الإسلاميّ والعلمانيّ.

بعد أن لم تعر الخلاف أذنًا لمعارضيها كان الشقاق قادمًا بين الخلافة من جهة وأصحاب فكرة العروبة، وكما يقول جدعان: خرج الاثنان خاسرين من المعركة، ولم يفز إلا الاستعمار.
وكانت فكرة العروبة أو القوميَّة في العموم أفكار أثارت نقاش طويل بسبب محاولة تحديد العلاقة بين القوميَّة والإسلام أو العروبة والإسلام، ويشير جدعان بالتحديد للبزاز باعتباره هو من حاول نفي أي شكل من أشكال التعارض بين الإسلام والعروبة، بل أرجع هذا الفصل بين الإسلام والعروبة للنزعات الشعوبيَّة تلك التي خلصت النبي تمامًا من عروبته، ودمغت العروبة بأوصاف النقص، في حين أنَّ الإسلام ورغم عالميَّته يظل دينًا عربيًا، وأنَّ العروبة تظل عمقًا للإسلام والإسلام عمق لها، كما أنَّ القوميَّة والعروبة لا تقوم على دعاوي عرقيَّة بل على روابط اللغة والدين، ولا شك فإنَّ الدين الإسلامي يشكِّل أساس ثقافي لكل الأمَّة حتى للمسيحين كما يرى جرجي زيدان.

أهم ما يثيره جدعان في هذا الفصل هو قضية التغريب، هذه الترسانة من الأفكار والتوجهات التي سادت في بلاد العرب مع بدايات عصر النهضة، وقد مثَّلها شبلي شميل وفرح أنطون وإسماعيل مظهر وطه حسين ولطفي السيد وهيكل.

هؤلاء جميعًا دعوا للأخذ بالفلسفات والعلوم الغربيَّة ونظم الحكم الغربيَّة، وفصل الدين عن الدولة، وتبني نظريَّات العلم الحديث، مثل: التطور، وطبق طه حسين منهج ديكارت على الشعر، وطبق علي عبد الرازق المنهج الوضعي على تاريخ الخلافة، وتبنى بعضهم نزعات عرقيَّة وقوميَّة فرعونيَّة وفينيقيَّة في محاولة لتجاهل كل التاريخ العربيّ والإسلاميّ.
لكن بعد مدة من الزمن لم يفلح هذا الانسلاخ في شيء، فوجدنا كل هؤلاء يعودون لتبني رؤى توفيقيَّة، يؤرخ لهذا غالبًا بالفترة التي تلت الحرب الثانية مثلما يقول زكي نجيب محمود، لكن الأنصاري يجعلها فيما قبل هذه الفترة، ويربطها بعودة كبيرة لاستلهام التاريخ الإسلاميّ ترتبط بتبلور أفكار الرومانسيَّة والبحث في بطولات العرب عن بطل، وكذلك باهتزاز صورة الديمقراطيَّة الغربيَّة في الأذهان كحل وحيد، مع صعود حركات غير ديمقراطيَّة حققت نجاح اقتصاديّ مثل الفاشية والنازية.

لذا فقد عاد كل هؤلاء لتبني رؤى توفيقيَّة وإن كانت لا تبرح الأساس العلماني لها، بل تحاول تبريره من داخل التراث الإسلاميّ نفسه، مما خلق رؤية نفعيَّة للتراث تقوم بتلوينه بما يتوافق ورؤية كل مفكر للحل الأمثل للنهوض.

في الفصل الأخير والمعنون “القيم” ينتقل جدعان من إشكال السياسة ورد المشكلة للسياسة والدين نحو تتبع لبعض المشكلات الاجتماعيَّة وكيفيَّة حل رواد النهضة لها.
تعد مشكلة المرأة أبرز مثال على هذه المشكلات الاجتماعيَّة، وقد ربطها البعض مثل قاسم أمين بمشكلة التقدم نفسها، وهو ما رفضته بعد ذلك باحثة البادية الأكثر هدوءًا وحذرًا وأقل راديكاليَّة في التعامل مع قضيَّة الحجاب، ربما اتفق الجميع على تعليم المرأة لكن ظلَّت المواقف تجاه السفور متباينة بين تأييد كامل مع قاسم إلى تأييد حذر مع باحثة البادية.
ويثمن فهمي جدعان هذا الفصل الذي قامت به ملك حفني ناصف بين التقدم وسفور المرأة.
وتعد من المحاولات البارزة في قضايا المرأة محاولة الطاهر الحداد الزيتوني العظيم، فقد حاول عن طريق تفسيره الغائي للقرآن أن ينزع عن المرأة هذه الأعراف التي صارت دينًا، والتي تخنقها وتجعلها عرضة لتحكم الرجل، فقام بإعادة تفسير عدد كبير من الآيات القرآنيَّة الخاصَّة بالمرأة ليبيِّن أنَّ للشرع مقصود فيها أبعد من المعنى الحرفي المتشبث به من أجل زيادة خنقها.

كما قلنا: يعد هذا الكتاب أساس متين لدراسة الفكر العربيّ المعاصر عبر تحديده الإشكالات الأكثر حيويَّة الطارئة مع دخول العرب والمسلمين للأزمنة الحديثة، وقراءة هذا الكتاب مع كتاب ألبرت حوراني “الفكر العربيّ المعاصر”، وكتاب محمد جابر الأنصاري “صراع الأضداد”، وكتاب علي أومليل “الإصلاحيَّة العربيَّة والدولة الوطنيَّة”، وكتاب غليون “دولة ضد الأمَّة” يعد زادًا شديد الغنى لمعرفة جيدة بهذا الفكر وتطوراته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *