أ. طارق حجي
لم يكن احتكاكنا بالغرب أمرًا عاديًّا طرأ وزال أو يزول؛ لأنَّ الآثار التي تركها جعلت منه احتكاكًا يتحوَّل من وضع الأعراض الذاتيَّة إلى مكانة مؤثرات أساسيَّة، لأسباب مختلفة يطول شرحها؛ ولذلك فإنَّ دراستنا لهذه الأثار تحتاج إلى مزيد من العناية والبحث، والتعمق، لرصد آثارها ومعرفة جذورها وطرائق تفاعلها مع أفكارنا وثقافتنا ومنظومتنا المعرفيَّة كلها، خاصَّة حينما يطرح هذا الأمر في إطار مواجهة التحديات وتجديد الخطاب الدينيّ، الذي يرى الكثيرون أنَّه خطاب تجاوزه العصر، ولم يعد قادرًا على مواجهة تحدياته.
الفكر العربيّ الحديث
لم يكن الصدام مع الحداثة التي أتت فوق مدافع نابليون مجرد صدام عادي، فلم يترك هذا الصدام أثره على بنية السياسة والعمران فحسب بل كذلك ترك أثرًا كبيرًا جدًا على بنية الفكر العربيّ نفسه من لحظتها وإلى الآن، فقد شكَّلت هذه اللحظة بداية لصياغة أسئلة وإشكاليَّات وتصورات لا زلنا للحظة نحاول الإجابة عليها وحسمها، هذه الأسئلة والإشكاليَّات هي الحقل الذي يمكن لنا تسميته بالفكر العربيّ الحديث.
من الممكن أن نجمل هذه الأسئلة والإشكاليَّات في سؤال النهوض نفسه، والذي أخذ الصياغة الأشهر له وهي صياغة الأمير شكيب أرسلان حين صاغه: “لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟”، كذلك إشكال العلاقة بالغرب، كيف نتعامل مع حضارتهم؟ هل هي مثال وأنموذج للإتباع أم على العكس نموذج نحقق أنفسنا بقدر ما نبعتد عنه، كذلك إشكال العلاقة بالذات، كيف ننظر إلى موقعنا في التاريخ؟ كيف نقرأ تراثنا؟ كيف نتعامل معه؟ هل نستلهمه أم ننقطع عنه؟ والإشكاليَّة التي ربما تجمل كل هذا وهي وصفة النهوض التي لا تؤدي لانقطاع تام عن حضارتنا أو ما يسمى بالأصالة والمعاصرة.
الأديب المصري بهاء طاهر يصف المثقفين العرب بأنَّهم أبناء رفاعة، وربما هذا الوصف دقيق حيث إنَّ هذه الطبقة من المثقفين لم تنشأ إلا نتيجة الإشكالات التي واجهتها بلادنا إثر الاحتكاك بأوروبا، والتي عبر عنها الطهطاوي أفضل تعبير، وأظهر بكل جلاء تلك التي ستصبح فيما بعد إشكالات كل أبناءه.
لو عدنا إلي تشكُّل رفاعة فإنَّنا سنستطيع بالفعل أن نضع أيدينا على أهم إشكالات الفكر المعاصر، كان رفاعة هو التلميذ النجيب للشيخ حسن العطار رأس مشيخة الأزهر في عهد الباشا محمد علي صاحب أول تجربة تحديث سياسيَّة وإداريَّة عربيَّة، هذا التحديث الذي حاول الباشا القيام به كان يستند على محاولة تحييد الفقهاء تمامًا فقهاء الأزهر ونخبه والأشراف والممالك، أي كل تلك الفئات التي تستطيع أن تنازع الباشا السيادة، في ظل تصرف كهذا زوى الأزهر أكثر وأكثر بعيدًا عن ركاب التجديد، لقد قام الباشا بفتح مدارس موازية وأرسل بعثات لتدريب عناصر ستُكون بعد هذا بيروقراطيَّته الضخمة، كان الحل الذي يرتأيه العطار لتجاوز كل هذا، تجاوز أن يقتصر التحديث على العلوم الغربيَّة دون أساس حضاريّ إسلاميّ يسندها، تجاوز هذه الإهمال لدور الأزهر وأهميَّته، تجاوز هذا المصير المرتقب لأزهر يزداد تكلسه، هو إرسال أحد شيوخ الأزهر مع بعثات محمد علي، وتعيين مهمته بمعرفة سبب تقدم أوروبا وإحضار هذه العلوم والمعارف للأزهر حتى يستطيع أن يدمجها داخل علومه كي يقود مسيرة النهوض.
محاولة إيجاد صيغة ما تستطيع أن تؤلف الرافد الحضاريّ الإسلاميّ مع الوافد الغربيّ كانت هي المهمة الملقاة على عاتق الطهطاوي ثم من أتى بعده، ونستطيع بقليل من التجاوز أن نصنف هؤلاء لثلاث فئات:
الأولى: من يرون أنَّ النهوض متمثل في العودة إلى أصول ثقافتنا والابتعاد التام عن الحضارة الغربيَّة وما يأتي منها.
الثانية: من يرون اللحاق تمامًا بالركاب الغربيّ، والتخلُّص من أي عوائق، وأولها هذا الرافد الحضاريّ الإسلاميّ بالذات.
أمَّا الثالثة: فهي التي تحاول أن تجد صيغة ما للتوفيق بين هذه المكونات.
لكن علينا أولًا التنبه لأمر هام، وهو أنَّ التنكر التام للثقافة الغربيَّة هو دعوى متأخرة عن التبلورات الأولى لحل إشكال النهوض، فمحمد عبده وقبله الطهطاوي والعطار، والذين يشددون على ضرورة العودة لمنابع حضارتنا، هذا الأمر الأشد وضوحًا مع عبده الذي قام بخطوات واضحة في سبيل تبسيط علم التوحيد والعودة لبساطة ووضوح هذا الدين قبل الخلاف، لم يكن يفكر في التخلُّص من الحضارة الغربيَّة، بالعكس فكما يقول غليون: كان الإصلاح الدينيّ عند عبده في وجه منه محاولة لفتح الآفاق لتلقي العلم الغربيّ، كان عبده والأفغاني وفريد وجدي وغيرهم لا يعارضون المدنيَّة الغربيَّة بل بالعكس يعتبرونها منجز إسلاميّ بالأساس، فكما في رد عبده على هانوتو لم يكن للغرب التقدم إلا بنبذ الكاثوليكيَّة، الاتجاه لبروتستانتيَّة هي أقرب للإسلام كما سيقول الكواكبي وبعده مالك بن نبي، فضلاً عن التركيز على ما لابن رشد وعلماء المسلمين من أثر كبير على التقدم الأوروبي، كان هذا التقدم في عيون هؤلاء هو بضاعتنا وقد ردت إلينا، ولم يتم النظر بصورة حادة للتقدم الغربيّ إلا في مواضع قليلة مثل موقف الأفغاني وحسين الجسر من نظريَّة التطور وهو موقف لم يمنعهما من الاهتمام بالعلم الغربيّ خاصَّة مع الأخير الذي حاول طويلًا إيجاد نقاط اشتراك مع العلوم، لكن لم تصبح هذه المواقف القليلة موقفًا عام وواضح وصارم إلا مؤخرًا.
يرى الجابري الأمر طبيعي، فقد كانت محاولة التوفيق صياغة نظريَّة لواقع يفرض نفسه بتجاور مكونات واقع يجمع بين بنى قديمة وحديثة سياسيَّة اجتماعيَّة.
لذا فما كان يواجه النظرة الإصلاحيَّة التوفيقيَّة في البداية كان فحسب النظرة المغالية في اللحاق بالغرب، تلك التي قررت القطع التام مع أصول الحضارة الإسلاميَّة، بل وحاولت بلورت تصورات شديدة الغرابة عن قوميَّات فرعونيَّة وفينيقيَّة متأثرة بحركة الكشوفات الأثريَّة والاهتمام الغربي الكبير بحضارات الشرق القديم.
كانت هذه التصورات عن فرعونيَّة وفينيقيَّة واستخدام للغة العاميَّة وخلع رداء الدين والتحول لقطعة من أوروبا، هو التصور الذي يواجه الإصلاحيَّة، فكما يقول كمال عبد اللطيف في كتابه عن سلامة موسى: فإنَّ خطاب النهضة كان يعتمد العودة للأصل كأساس للتفكير، مثل هذا الأصل مع الإصلاحيين القرآن والسنَّة قبل الخلاف، ومثل مع التغريبين الفكر الغربي وعلومه وفلسفاته، نذكر هنا بالطبع جريدة السفور، وقصائد الشاعر الزهاوي، وترجمات إسماعيل مظهر، وفرح أنطون، هذا التصور لإمكان التخلُّص من الحضارة العربيَّة تمامًا ومن الدين الإسلاميّ سرعان ما ترك المساحة لما يعتبره جابر الأنصاري توفيقيَّة عربيَّة تشكِّل جوهر الفكر العربيّ الحديث، فقد أصبح العلمانيُّون شديدي التوفيقيَّة، وتخلوا عن دعاوى الفرعنة والعاميَّة، بل ونسبوا أنفسهم لا لعبده محب الغرب بل لعبده التوفيقي بالذات، هذا واضح جدًا مع العقاد، وطه حسين، الأخير ثم مع زكي نجيب محمود الذي يُعتبر في ظنِّنا أهم مفكر عربي حديث على الإطلاق، حيث إن خطابه هو الملتقى الحقيقي لكل هذه النزاعات والخلافات والتوترات بين الشرق والغرب، كما كان يُعبر هو دومًا ذاك العربي الحائر بين ثقافتين.
حاول البعض تفسير هذا التخلي عن الفكر التغريبي السافر تمامًا، يرجع البعض هذا لما نال الديمقراطيَّة الغربيَّة ومبادئ العدل والمساواة والتقدم المطَّرِد والمتفائل بمصير البشريَّة من اهتزاز شديد بحكم الحروب العالميَّة، كذلك يفسر البعض هنا بشيوع نزعات الرومانسيَّة مما دعا للعودة للتراث للبحث عن أبطال، أبطال يمثلون الأصالة، ويصلحون كمقدمة لحربة التقدم. في هذا السياق نذكر كتب العبقريَّات للعقاد، ومسرحيَّة محمد للحكيم، وكتابات الشرقاوي عن الحسين.
انقلبت الآية فأصبح الفكر الإسلاميّ هو الذي ينحى للبعد عن التوفيق، واستفاد هذا الفكر ممثلًا في الخطاب الإسلاميّ الجديد من مدارس نقد الحداثة الغربيَّة مثل مدرسة فرانكفورت كي يقدم نقد أقوى وأشمل وأكثر جذريَّة للحداثة.
هذا التوتر الواضح في العلاقة مع الغرب ومع الذات سواء في التيار التغريبيّ أو الإسلاميّ والذي ربما يجد مبرره في عدم رسوخ التوفيق وتحوله لتلفيق في الخطاب الإصلاحيّ، يدل دلالة كبيرة على مدى الحاجة لتعديل المسار.
نستطيع أن نعتبر أنَّ الاستشراق ونظرته للحضارة الإسلاميَّة كان له تأثير كبير على تصور كثير منَّا للذات، وربما لا زالنا إلى الآن نحيا وبصورة كبيرة هذه الصورة ما بين قبول أو رد فعل، دون محاولة جادَّة إلا قليلًا للتحرر من هذه الصورة من جذورها وإعادة صياغة الذات واستعادتها بعد محاولات دؤوبة لصياغتها بصورة انتقاصيَّة مشوهة.
كذلك فإنَّنا لم نقرأ الغرب موضوعيَّا بل كانت لنا صورنا عنه، كما يقول أفاية عنه كان غربًا متخيلًا؛ لذا فربما أول خطوة علينا إنجازها هي تحرير الذات والآخر من تلك الصور المفروضة والمقحمة ومحاولة بناء صورة جديدة للذات وفقًا لأهداف النهوض وانطلاقًا من قيم القرآن المجيد، كذلك بناء صورة للغرب تنطلق من قيم التعارف والدعوة وتحاول الإنصاف في قراءتها له.
من أهم الأفكار التي تبلورت مع النهضة نتيجة ارتباطها بتفكك الدولة العثمانيَّة هي أفكار القوميَّة والعروبة وعلاقتها بالإسلام، هذا الملف يعد شديد الأهميَّة وهو ملف لم يتوقف الحديث عنه منذ الدعوة إلى اللامركزيَّة التي كان رشيد رضا عضوًا فيها ومنذ دعوات العروبة مع الكواكبي وقبلها دعوات الجامعة الإسلاميَّة.
إنَّ سقوط الخلافة كان قد ترك أثرًا كبيرًا على الفكر العربيّ حيث ظلت مسألة الشرعيَّة معلَّقة، وظل البحث عن شرعيَّة سياسيَّة لا تتنكر للدين أو تقبل به كحلية فحسب هو طريق كثير من المفكرين، كما ظل كذلك شبح الثيوقراطيَّة مهمين على البعض الآخر، مما جعل الدعوة إلى فصل حاد بين الدين والدولة هو طريق البعض منذ مفكري لبنان وعلي عبد الرازق وحتى الآن.
كما سيطر على البعض محاولة تفسير طبيعة الخلافة والحكم في الإسلام وعلاقته بالمدنية كما حاول عبده.
إنَّنا ولا شك لا زلنا نعيش سؤال النهضة كما هو، ولا زالت إشكاليَّاته كما هي معلَّقة لم تحل بعد، وربما ما نحتاجه ليس محاولة إيجاد حلول جديدة، بل محاولة إعادة صياغة الأسئلة والإشكاليَّات، والسؤال مرة أخرى عن معنى النهوض ومعنى التقدم، وعن الموقع الذي ارتضاه الله لأمَّتنا وعن الطريقة التي سنَّها للتواصل والتعارف مع الآخرين، نحتاج كذلك لفرز المشكلات وبحث ما هو منها أصيل وما هو منها مقحم، فلا شك أنَّ خطاب الاستشراق وكتابات كرومر وهانوتو كانت كغيرهم أثرت على بنية خطاب النهضة فاضطر للدخول في مساحات ومشكلات حددت بعيدًا عن بحث أولويَّاتنا مما يحتاج منَّا قراءة دقيقة وفاحصة وناقدة لكل إشكالات الفكر العربي الحديث من لحظة دخول العرب في الأزمنة الحديثة بلغة فهمي جدعان.