أ.د/ طه جابر العلواني
لدينا مع أي نص مكتوب أو شفاهي أسلوبان للتعامل معه:
الأول: أن نتعامل معه بأن ننظر فيه على أنَّه ظاهرة أو جزءًا من الظاهرة، وفي هذه الحالة لابد لنا من تحديد الظروف المختلفة التي سبقت ذلك النص، وأعقبته، وكذلك نحاول الحفر في داخله لمعرفة كيف وجدت هذه الظاهرة، وأسباب ظهورها ونشأتها، ولِمَ ظهرت، ونشأت في هذا المكان وفي هذا الزمان؟! وبذلك نحدد قبليَّاته أو مقدماته وبؤرته وما وراءه.
والأسلوب الثاني: ينظر إلى النص –الظاهرة-على أنَّه شيء مطلوب فهمه، ويلجأ آنذاك إلى التفسير بقواعده وآليّاته وضوابطه. والتفسير لأي نص يعد من أبرز وسائل فهمه، فهو الذي يوضح النص، ويبيّن المراد منه، ويكشف عن معانيه المختلفة. وتفسير النص يدل على أنَّ هناك قناعة لدى المتعاطي مع النصّ أنَّ ذلك النصّ لكي يفهم ويكشف عن مكنوناته وما يشتمل عليه لابد من الاستعانة بالتفسير والتأويل، فبالتفسير والتأويل يكشف القارئ عن خفايا النصوص، ومكنوناتها، وإذا كانت الكلمة علامة فالتفسير والتأويل يكشف كل منهما بطريقته ووسائله عما في النص من دلالة أو ارتباط مع ما جعلت علامة له.
فقضيَّة “الفهم” مطلب إنسانيّ أو جزء من فطرته، فهو لا يستطيع أن يتخلى عن محاولات “الفهم” لكل ما حوله، ولسائر ما يتعامل معه. ويعد “الفهم” في أعلى مراتب ضروب المعرفة، وأنواعها، التي يبحث الإنسان عنها. وللفهم نظريَّاته، ومناهجه. ولقد راكمت البشريَّة تراثًا واسعًا في هذه الأمور صار علومًا وفنونًا وبرامج تدريبيَّة في القرن التاسع عشر الميلادي، حيث بدأت تتحول الأفكار الموروثة في تفسير النصوص إلى علوم لها مناهجها ومبادئها ونظرياتها، استخدمت أكثر ما استخدمت في دراسة النصوص الدينيَّة والفلسفيَّة والفنيَّة والقانونيَّة، واستوعبت وتجاوزت تلك الخطوط العامَّة الموروثة في هذا الصدد، ولم يعد كافيًا أن نعرف لغة النص وقواعده، ولا أسلوب الكاتب والمؤلف في طرق استعمال المؤلف للمفردات والتراكيب اللغويَّة، والتطور في استخدام الأساليب الكتابيَّة في مختلف النصوص، ولا معرفة الظروف التي أحاطت بمؤلف النصّ شعرًا أو نثرًا وهو ينشئ النصّ. ولم تظهر بحوث كاملة تعلم الباحثين القواعد التي لابد منها للوصول إلى “الفهم” باعتباره معرفة مستقلة مقابل المعرفة التوضيحيَّة للنصّ، ونستطيع أن ندرج ما ذكره الأصوليُّون في أحوال ألفاظ الشارع ضمن تلك الأمور الابتدائيَّة؛ ولذلك فإنَّنا لا نجدها كافية في تفسير النصوص، وفهمها.
واللُّغة عرفت بأنَّها ظاهرة تاريخيَّة وشروط وإمكانات البيان هي ظواهر تاريخيَّة متحولة عبر الزمن كذلك، “فعمليَّة الفهم” إذًا لها خصوصيَّة تاريخيَّة، ولها أبعاد أخرى، وحين نضع النص في إطار تاريخيّ معين مثل رسالة الإمام الشافعي أو غيرها؛ فإنَّ ذلك يمثِّل تجارب هذا الفريق –ومنهم الإمام الشافعي وغيره- من أهل العلم في عصر معيّن، وطرائقهم في فهم أنفسهم، والنظر إلى مجتمعاتهم، وإلى العالم من حولهم، فيكون نقل تلك الأمور إلى مثل عصرنا نقلًا من إطار تاريخيّ معين إلى إطار تاريخيّ مغاير، فيتحول إلى نوع من الترجمة، أو التفسير الجديد لتلك النصوص، وآنذاك لا تكون تلك القواعد التي وضعها الأصوليّون القدامى كافية للإحاطة بفهم النصوص، ونقل الإنسان إلى حالة فهمها، فدراسة الفهم تعني أنَّها معرفة تقع في القمة من درجات المعرفة.
وهنا تشتد الحاجة، حاجة المفسّر للنصوص أو من يحاول فهمها إلى الاهتمام بجميع المقدمات التي تعتبر “مقدمات ما قبل النص”، فحين نأتي إلى الرسالة مثلًا نجد أنَّ من الضروري جدًا لفهمها دراسة جميع القبليَّات والمقدمات والمبادئ والأطروحات التي كانت سائدة قبل أن يطلب عبد الرحمن بن مهدي من الإمام الشافعي جمع أصول الفقه في كتاب، في حين أنَّ الرسالة مع أنَّها سيطرت على الساحة الفكريَّة والعربيَّة والإسلاميَّة مدة لا تقل عن ثلاثة قرون بعد تأليفها لكن الماضين بمن فيهم شراح الرسالة الثمانية لم يهتموا كثيرًا بقبليَّات فهمها، وبحقيقة ما حدث أثناء كتابتها وجمع موضوعاتها، وربما لم يجد هؤلاء حاجة للالتفات إلى ذلك؛ لأنَّ الأطر التاريخيَّة لم تكن شديدة الاختلاف. والتغيرات التي كانت تحدث بين قرن وآخر أو أيَّة حقبة زمنيَّة وأخرى كانت تجري بتؤدة وبطء شديدين لا تجعل المفسّر أو الشارح يشعر بضرورة دراسة تلك القبليَّات، فالشعور بالفارق التاريخيّ بين كاتب النص أي الإمام الشافعي، وقارئه ومفسّره المتأخر عنه. ليس بذلك الذي يجعل التالي يبحث بجديَّة وعمق في تلك القبليَّات. أمَّا بالنسبة لعصورنا هذه فقد أصبحت تلك النصوص في حاجة إلى دراسة تلك القبليَّات، وإلا لن يتحقق فهم دقيق؛ ولذلك نستطيع أن نقول: بأنَّ الحضارة المعاصرة الغربيَّة وجدت نفسها مضطرة إلى إعداد كثير من الدراسات والبحوث والأدلة للاهتداء بها في فهم تلك النصوص التي أصبحت غامضة؛ ولذلك ظهرت معارف أو علم الهرمينوطيقا (Herméneutique)، فمعنى النص أمر خفي يمكن الكشف عنه بالتفسير والتأويل، والتفسير والتأويل هو الذي يجعل النص يظهر ما كان يخفيه، ويفصح عما كان في باطنه، ويبدي للعيان ما كان يضمره.
في حين أنَّ المتقدمين عنوا بقواعد الدلالات، وقواعد الدلالات شأن من شئون اللغة والكلام، أمَّا التفسير والتأويل فهما شأن من شئون الفهم، فالدلالة جزء من الفهم وليست الفهم كله، فقواعد الدلالة (semantic) لتوضيح شأن من شئون اللغة والكلام على أنَّ قواعد الدلالة إنَّما يحفزها إلى العمل هو التفسير كذلك، فلولا التفسير لما أفصح نصٌ عن نفسه بنفسه، ولما ظهرت دلالته.
والقرآن المجيد تحدى ذلك وعمل على أن يكشف عن تفسير نصوصه وآياته بنفسه، وذلك ما سميناه “تفسير القرآن بالقرآن”، وليس مثلَه في ذلك أيّ نص آخر من النصوص التي لا تفصح عن نفسها إلا بالتفسير، والتأويل.
والاختلافات الكلاميَّة والفقهيَّة التي حفل بها تاريخنا الفكريّ والمعرفي إنَّما نجمت من اعتماد الناس على التفسير والتأويل الإنسانيّ وما شاب ذلك من التفاوت في “درجات الفهم” ومستوياته؛ ولذلك فالقرآن وحده الذي يمكن أن يسلم فهمه من عيوب فهم النصوص الأخرى، بمساعدة “النصّ” ذاته.
تقوم عمليَّة التفسير الساعية إلى فهم النص على مجموعة من المؤشرات منها:
- إدراك الحاجة إلى التفسير وتحديد نوع التفسير المطلوب لذلك النص.
- إدراك أنَّ النص يمكن تفسيره بأشكال عدة، ولكل نص وجوه متعددة تجعل مبدأ فهم النص بالبداهة غير وارد في أي نص إلا في بعض النصوص القرآنيَّة.
- حين تكون هناك معاني عديدة للنص وتفسيرات متعددة كذلك فلابد من العمل على تحديد أو تشخيص المعنى الصحيح للنص واختياره، أو على الأقل لابد من غلبة الظن أنَّ ذلك هو أصح المعاني، واستبعاد المعاني الخاطئة والتفاسير الخاطئة.
- لابد من إدراك أنَّ النص غير معناه، وأنَّ المعنى غير منفصل عن النص انفصالًا تامًا، فبين النص والمعنى اتصال وانفصال، ويبقى النص هو الأساس الذي يقوم المعنى عليه ويدور حوله، ولا ينبغي أن يخرج عن مداره، وبالتالي فتزول النظرة السطحيَّة أو الساذجة إلى النص، وتزول فكرة إمكانيَّة فهم المعنى من النص دون محاولة فهم وتفسير سليم، ومن هنا يؤكد القرآن الكريم في أربع من آياته على ضرورة “التدبُّر”، ويؤكد على تلاوته حق التلاوة، ودعوة كل قوى الوعي والفهم والتفكر والتذكر إلى الوقوف صفًا واحدًا في محاولة فهم النص وتجاوز السذاجة في التفكير بأنَّ بالإمكان فهم النصوص واستنباط المعاني دون تفسير ويكفي التعامل السطحي، ولابد من إنقاذ المفسر نفسه من التأثّر “بمقدمات النصّ أو قبليَّاته”، وذلك أيضًا يفيد المفسر بالتخلُّص من أفكار الشك والنسبيَّة وتحويل فهم النص القرآني إلى شيء يتبع ما يشتهيه المفسر لا ما يريده النص القرآني؛ لذلك فإنَّ المتعامل مع النصوص وخاصَّة نصوص القرآن لابد أن يكون على وعي بمسلّماته وقبليَّاته نفسه بوصفه مفسرًا، ومعرفة ميوله وتطلعاته، وكيفيَّة نظرته للتاريخ واستنطاقه له، ومنهجه في تحديد ما يسمى ببؤرة النص أو مركزه الذي يدور النص حوله.
- لابد للمفسر أيضًا أن يكون على وعي بالأفكار الفاصلة بين الإطار التاريخيّ للنص والإطار التاريخي للمفسّر أو القارئ أو التالي نفسه.
ملابسات النص:
وراء النص/ في النص/ أمام النص = (قبليات النص، بؤرة النص، ما وراء النص).
ونعني بالقبليَّات: جميع الملابسات التي سماها أصحاب علوم القرآن بأسباب النزول والمناسبات وما إليها، وهي في الوقت نفسه ذات علاقة بالتأريخ للقرآن الكريم، وبيان السيرة، وما إليها.
بؤرة النص: هو ما يدور حول عموده، ويمكنني من الكشف عن العمود، فهذه البؤرة هي المدار الذي دار النص حوله.
ما وراء النص: فأريد به النتائج التي تترتب على التعامل مع النص وتطبيقه.