أ. كريم محمد
أولًا: مفهوم الدولة[1] (the state)
تقوم الدَّولة بقيام جهاز سياسيّ للحُكم، مثل البرلمان ومجلس الشعب، بالإضافة إلى أجهزة الخدمة المدنيَّة المسؤولة بفرض السيطرة على إقليم معين ومجموعة من الناس. وتتعزِّز السّلطة في هذا النِّظام بنسقٍ قانونيّ وقدرة على استعمال القوّة العسكريَّة وتنفيذ السياسات. وتُمثِّل جميع المجتمعات المعاصرة دولًا – قوميَّة. ويعني ذلك أنَّها دول تكون فيها الأغلبيَّة الساحقة من الناس مواطنين يعتبرون أنفسهم جزءًا من هذه الأمَّة/ الشعب/ الدولة.
وقد ظهرت الدِّول – القوميَّات إلى حيِّز الوجود في أزمانٍ متفاوتةٍ في مختلَف بقاع العالَم (مثلًا: الولايات المتَّحدة عام ١٧٧٦، الجمهوريَّة التشيكيَّة عام ١٩٩٣). وتختلفُ خصائصُ الدِّول الحديثة اختلافًا بيِّنًا عن نظائرها في الحضارات التقليديَّة وغير الصِّناعيَّة.
ومن هذه الخصائص:
-السيادة: فالأراضي التي حكمتها الدِّول القديمة كانت غامضة الحدود، إلى حدٍّ بعيد، مثلما كانت درجة السيطرة التي تفرضها الحكومةُ المركزيَّة ضعيفة جدًّا.
-المواطنة: ففي الدولة التقليديَّة، لم تكن أغلبيَّة السكَّان الخاضعين لحُكم المَلك أو الإمبراطور يدركون أو يعرفون تمامًا أو يولون اهتمامًا كبيرًا بمن يحكمونهم. كما لم تكن لهم أيَّة حقوق سياسيَّة أو صلاحيَّات تنفيذيَّة. واقتصرَ الانتماءُ إلى الجماعة السياسيَّة العامَّة على الطبقات المهيمنة أو الفئات المرفَّهة في العادة. وعلى العكس من ذلك، فإنَّ أكثر النَّاس الذين يعيشون داخل حدود أنظمةٍ سياسيَّة في المجتمعات الحديثة هم من المواطنين الذين يتمتعون بحقوق وواجباتٍ عامَّة، ويعتبرون أنفسهم جزءًا من الدَّولة. ورغم وجود مجموعاتٍ من النَّاس يدخلون في عِداد اللاجئين السياسيِّين أو مَن لا وطن لهم في كلّ مكان، فإنَّ جميع الناس في عالم اليوم هم أعضاء في نظام سياسيّ وطنيّ موحّد.
-القوميَّة: ترتبطُ الأمم – القوميَّة بظهور القوميَّات التي يُمكن تعريفها باعتبارها منظومة من الرموز والمبادئ التي تُضفي على الفرد الإحساس بأنَّه جزءٌ من جماعةٍ سياسيَّةٍ موحّدة. وتتضح القوميَّة في أجلى مظاهرها عند بناء الدولة الحديثة.
***
ثانيًا: بين العلمانيَّة الجزئيَّة والعلمانيَّة الشاملة[2]:
ما هي العلمانيَّة؟ هذا السؤال قد يبدو بسيطًا، والإجابة عليه أكثر بساطة، فالعلمانيَّة هي فصل الدين عن الدولة، أليس كذلك؟ قد يندهش القارئ إن أخبرته أنَّ إجابتي على هذا السؤال بالنفي وليس بالإيجاب. ولتوضيح وجهة نظري أري أنَّه من الضروري أن أطرح قضيَّة منهجيَّة خاصَّة بالتعريف. إذ أرى أنَّ هناك نوعان من التعريفات تداخلا واختلطا وأديتا إلى نوع من الفوضى الفكريَّة. فهناك التعريفات “الورديَّة” التي تعبر عن الأمل والتوقعات من ناحية، ومن ناحية أخرى هناك ما تحقق بالفعل في الواقع. وكثيرًا ما يكون البون بينهما شائع، ومع هذا يستمر كثير من الباحثين في استخدام التعريفات الورديَّة التي وردت في المعاجم حتى بعد أن اتضح أنَّ ما تحقق على أرض الواقع جد مختلف.
تم تعريف العلمانيَّة في أواخر القرن التاسع عشر باعتبارها “فصل الدين عن الدولة”، وكان التصور أنَّ عمليَّة الفصل هذه ستؤدي لا محالة إلى الحريَّة والديمقراطيَّة وحل مشكلات المجتمع، فيَحل السلام في الأرض وتنتشر المحبة والأخوة والتسامح. ولكن كلمة “دولة” كما وردت في التعريف آنف الذكر لها مضمون تاريخي وحضاري محدد، فهي تعني بالدرجة الأولى المؤسَّسات والإجراءات السياسيَّة والاقتصاديَّة المباشرة. كما أنَّ الدولة في القرن التاسع عشر حين وُضِعَ التعريف، كانت دولة صغيرة وكيانًا ضعيفًا، لا يتبعها جهاز أمني وتربوي وإعلامي ضخم (كما هو الحال الآن)، ولا يمكنها الوصول إلى المواطن في أي مكان وزمان. وكانت كثير من مجالات الحياة لا تزال خارج سيطرة الدولة، فكانت تديرها الجماعات المحليَّة المختلفة، منطلقة من منظوماتها الدينيَّة والأخلاقيَّة المختلفة. فالنظام التعليمي على سبيل المثال لم يكن بعد خاضعًا للدولة، كما أنَّ ما أسميه “قطاع اللذة” (السينما – وكالات السياحة – أشكال الترفيه المختلفة مثل التليفزيون) لمَ يكن قد ظهر بعد. والإعلام لم يكن يتمتع بالسطوة والهيمنة التي يتمتع بهما في الوقت الحاضر. والعمليَّات الاقتصاديَّة لم تكن قد وصلت إلى الضخامة والشمول التي هي عليه الآن. كل هذا يعني في واقع الأمر أنَّ رقعة الحياة الخاصَّة كانت واسعة للغاية، وظلت بمنأى عن عمليَّات العلمنة إلى حد كبير. ويلاحظ أنَّ تعريف العلمانيَّة باعتبارها فصل الدين عن الدولة يلزم الصمت بخصوص حياة الإنسان الخاصَّة والأسئلة الكونيَّة الكبرى مثل الهدف من الوجود والميلاد والموت، ولا يتوجه لمشكلة المرجعيَّة ومنظومة القيم التي يمكن أن يحتكم إليها أعضاء مجتمع واحد.
ولكن حدثت تطورات همشت التعريف الوردي القديم منها تعملُق الدولة وتغوُّلها وتطويرها مؤسَّسات “أمنيَّة وتربويَّة” مختلفة ذاتَ طابع أخطبوطي يمكنها أن تصل إلى كل الأفراد وكل مجالات الحياة. ثم تغوَّل الإعلام وتعملق هو الآخر وأصبح قادرًا على الوصول إلى الفرد في أي مكان وزمان، والتدخل في تعريفه لنفسه وفي تشكيل صورته لنفسه، وفي التدخل في أخص خصوصيَّات حياته وحياة أطفاله، وفي صياغة أحلامهم ولا وعيهم. والإعلام بالمناسبة مؤسَّسة غير منتخبة ولا توجد أي مؤسَّسة لمراقبتها ومساءلتها. والسوق هي الأخرى لم تعد سوقًا، وإنَّما أصبحت كيانًا أخطبوطيًّا يسيطر على الإعلام وعلى كل مجالات الحياة، وهو يوجه رؤى البشر ويعيد صياغة أحلامهم وتوقعاتهم. كل هذا نجم عنه تضييق وضمور – وأحيانًا اختفاء – الحياة الخاصَّة. في هذا الإطار، كيف يمكن أن نتحدث عن فصل الدين عن الدولة؟! أليس من الأجدر أن نتحدث عن هيمنة الدولة والسوق والإعلام، لا على الدين وحسب بل علي حياة الإنسان العامَّة والخاصَّة.
إنَّ ما يتشكل على أرض الواقع أبعد ما يكون عن فصل الدين عن الدولة، وإنَّما هو أمر أكثر شمولًا من ذلك. فآليَّات العلمنة لم تعد الدولة وحسب وإنَّما آليات أخرى كثيرة لم يضعها من وضعوا تعريف العلمانيَّة في الحسبان، من أهمها الإعلام والسوق والدولة المركزيَّة القويَّة. ومع هذا كلِّه ظل التعريف القديم قائمًا، ولذا حينما نستخدم لفظ “علماني” فهو لا يشير إلى الواقع وإنَّما للتعريف الوردي الذي تخطاه الواقع، ويدور الحوار بشأن العلمانيَّة في ضوء التعريف الوردي القديم وليس في ضوء معطيات الواقع الذي تحقق.
لكل هذا وجدت أنَّه لا مناص من إعادة تعريف العلمانيَّة انطلاقًا من دراسة ما تحقق في الواقع بالفعل وليس من التعريف المعجمي، على أن يحيط التعريف الجديد بمعظم جوانب الواقع الذي تمت علمنته. فحاولت أن أقوم بتطوير نموذج تحليلي من خلال ما أطلق عليه “التعريف من خلال دراسة مجموعة من المصطلحات المتقاربة ذات الحقل الدلالي المشترك أو المتداخل”. فجمعت معظم المصطلحات التي تُستخدم في وصف أو نقد المجتمعات العلمانيَّة الحديثة مثل التسلُّع والتنميط والاغتراب وإزاحة الإنسان عن المركز، ثم جردت النموذج الكامن وراءها جميعًا. فلاحظت أنَّ معظمها يشير إلى حالة إنسانيَّة (مثاليَّة) تتسم بالتكامل والتركيب والكليَّة والحريَّة والمقدرة على الاختيار والتجاوز، وهي حالة يكون فيها الإنسان مستقلًا عن الطبيعة/ المادة، متميزًا عنها، متجاوز لقوانينها لأنَّه يتحرك في حيزه الإنساني الذي له قوانينه الإنسانيَّة (الاجتماعيَّة والحضاريَّة) الخاصَّة، ومن ثمَّ فهذه الحالة هي ما يشكل إنسانيَّة الإنسان وجوهره. ولكن هذه المصطلحات تشير أيضًا إلى أنَّ ثمَّة انتقال من هذه الحالة الإنسانيَّة الجوهريَّة المتجاوزة الافتراضيَّة إلى حالة واقعيَّة ومتحققة في المجتمعات العلمانيَّة الحديثة تتسم بذوبان الإنساني في المادي. من كل هذا استخلصت نموذجًا يمكن تلخيص ملامحه في صياغة بسيطة جدًا: العلمانيَّة التي تحققت في الواقع تعني أنَّ ثمَّة انتقال من الإنساني إلى الطبيعي/ المادي، أي من التمركز حول الإنسان إلى التمركز حول الطبيعة، أي الانتقال من تأليه الإنسان وخضوع الطبيعة إلى تأليه الطبيعة وإذعان الإنسان لها ولقوانينها ولحتميَّاتها، أي أنَّ هذه العلمانيَّة تشكل سقوطًا في الفلسفة الماديَّة.
وانطلاقًا من هذا قمت بالتفريق بين ما أسميه “العلمانيَّة الجزئيَّة” التي يمكن أن أطلق عليها “العلمانيَّة الأخلاقيَّة” أو “العلمانيَّة الإنسانيَّة”، وهي “فصل الدين عن الدولة” من ناحية، ومن ناحية أخرى ما أسميه “العلمانيَّة الشاملة”، وهي رؤية شاملة للكون بكل مستوياته ومجالاته، لا تفصل الدين عن الدولة وعن بعض جوانب الحياة العامَّة وحسب، وإنَّما تفصل كل القيم الإنسانيَّة والأخلاقيَّة والدينيَّة عن كل جوانب الحياة العامَّة في بادئ الأمر، ثم عن كل جوانب الحياة الخاصَّة في نهايته، إلى أن يتم نزع القداسة تمامًا عن العالم، بحيث يتحول العالم (الإنسان والطبيعة) إلى مادة استعماليَّة. وهي رؤية شاملة، لأنَّها تشمل كلًا من الحياة العامَّة والخاصَّة، بحيث تتساوى كل الظواهر الإنسانيَّة والطبيعيَّة وتصبح كل الأمور ماديَّة. إنَّ العالم، من منظور العلمانيَّة الشاملة (شأنها في هذا شأن الفلسفة المادية)، خاضع لقوانين ماديَّة كامنة فيه لا تفرق بين الإنسان وغيره من الكائنات. كل هذا يعني نزع القداسة عن الطبيعة والإنسان وتحويلهما إلى مادة استعماليَّة، يوظفها القوي لحسابه. والعلمانيَّة الشاملة بطبيعة الحال لا تؤمن بأيَّة معايير أو مطلقات أو كليَّات، فهي لا تؤمن إلا بالنسبيَّة المطلقة. بل إنَّني أذهب إلى أنَّ ثمة ترادف بين العلمانيَّة الشاملة والرؤية الداروينيَّة الصراعيَّة، ولذا أسميها العلمانيَّة الماديَّة أو العلمانيَّة المنفصلة عن القيمة أو العلمانيَّة الداروينيَّة، إذ إنَّه في غياب المعايير التي تتجاوز الذات الإنسانيَّة تظهر آليَّة واحدة لحسم الصراع وهي القوة، ولذا نجد أنَّ البقاء هو للأقوى، ولعل المنظومة الداروينيَّة الصراعيَّة هي أقرب المنظومات اقترابًا من نموذج العلمانيَّة الشاملة.
والعلمانيَّة ليست ظاهرة اجتماعيَّة أو سياسيَّة محددة واضحة المعالم تتم من خلال آليات واضحة (مثل إشاعة الإباحيَّة)، يمكن تحديدها بدقة وبساطة. كما أنَّها ليست -كما يتصور البعض- أيديولوجيَّة أو حتى مجموعة من الأفكار التي صاغها بعض المفكرين العلمانيّين الغربيّين، وأنَّ هذه الأفكار نشأت في أوروبا بسبب طبيعة المسيحيَّة، باعتبارها عقيدة تفصل الدين عن الدولة وتعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وأنَّه للتحقق من معدلات العلمنة في مجتمع ما، فإنَّ على الباحث أن يتناول عمليَّات العلمنة الواضحة وآليَّاتها المباشرة ومؤشراتها الظاهرة، فإن وجدها، صُنِّف المجتمع باعتباره مجتمعًا علمانيًا، وإن لم يجدها فهو، بكل بساطة، مجتمع إيماني! وانطلاقًا من هذا التصور الاختزالي تصبح مهمة من يود التصدي للعلمانيَّة هي البحث عن هذه الأفكار العلمانيَّة والممارسات العلمانيَّة (الواضحة) وعن القنوات التي يتم من خلالها نقلها. ومهمة من يبغى الإصلاح هي ببساطة استئصال شأفة هذه الأفكار والممارسات، عن طريق إصدار تشريعات سياسيَّة معينة وفرض رقابة صارمة على الصور والأفكار الواردة من الخارج.
إنَّ مَن يدرس ظاهرة العلمانيَّة باعتبارها مجموعة من الأفكار المحددة والممارسات الواضحة، يتجاهل الكثير من جوانبها وبالتالي يفشل في رصدها. إنَّ مصطلح «علمانيَّة» كما هو متداول لا يشير إلا إلى هذه الجوانب الواضحة والظاهرة التي أشرنا إليها، فهو دال قاصر عن الإحاطة بمدلوله. فالعلمانيَّة ثمرة عمليَّات كثيرة متداخلة بعضها ظاهر واضح والآخر بنيوي كامن، وتشمل كل جوانب الحياة، العامَّة والخاصَّة، الظاهرة والباطنة، وقد تتم هذه العمليَّات من خلال الدولة المركزيَّة، بمؤسَّساتها الرسميَّة، أو من خلال قطاع اللذة من خلال مؤسَّساته الخاصَّة، أو من خلال عشرات المؤسَّسات الأخرى (ومنها المؤسَّسات الدينيَّة)، أو من خلال أهم المنتجات الحضاريَّة أو أتفهها.
ولذا فدائمًا ما أشير إلى ما أسميه “العلمنة البنيويَّة الكامنة” لوصف ما أتصور أنَّه أهم أشكال العلمنة وأكثرها ظهورًا وشيوعًا. والتي تتسرب لنا، وتتغلغل في وجداننا، دون أي شعور من جانبنا، من خلال منتجات حضاريَّة يوميَّة وأفكار شائعة وتحولات اجتماعيَّة تبدو كلها بريئة أو لا علاقة لها بالعلمانيَّة أو الإيمانيَّة. خذ على سبيل المثال سلعة من أكثر السلع شيوعًا وأبسطها، التِّيشيرت T-Shirt الذي يرتديه أي طفل أو رجل وقد كتب عليه مثلًا «اشـرب كوكا كولا». إنَّ الرداء الذي كان يُوظَّف في الماضـي لسـتر عورة الإنسـان ولوقايته من الحر والبرد، وربما للتعبير عن الهُويَّة، قد وُظِّف في حالة التِّيشيرت بحيث أصبح الإنسان مساحة لا خصوصيَّة لها غير متجاوزة لعالم الحواس والطبيعة/المادة. ثم تُوظف هذه المساحة في خدمة شركة الكوكاكولا (على سبيل المثال) وهي عمليَّة توظيف تُفقد المرء هُويَّته وتحيِّده بحيث يصبح منتجًا بائعًا (الصدر كمساحة) ومستهلكًا للكوكاكولا (هذا مع العلم بأنَّ الكوكاكولا ليست محرَّمة فهي حلال)، أي أنَّ التِّيشيرت أصبح آليَّة كامنة من آليَّات العلمنة إذا حولت الإنسان إلى مادة استعماليَّة، ومع هذا لا يمكن القول بأنَّ الكثيرين يدركون ذلك.
وما قولكم في هذه النجمة السينمائيَّة المغمورة (أو الساطعة) التي تحدثنا عن ذكريات طفولتها وفلسفتها في الحياة وعدد المرات التي تزوجت فيها وخبراتها المتنوعة مع أزواجها، ثم تتناقل الصحف هذه الأخبار وكأنَّها الحكمة كل الحكمة! وقد تحدثت إحداهن مؤخرًا عما سمته “الإغراء الراقي”، مما يدل على عمقها الفكري الذي لا يمكن أن تسبر أغواره. أليس هذا أيضًا علمنة للوجدان والأحلام إذ تحوَّلت النجمة إلى مصدر للقيمة وأصبح أسلوب حياتها هو القدوة التي تُحتذى، وأصبحت أقوالها المرجعيَّة النهائيَّة؟ وقد يكون وصف أقوال هذه النجمة بأنَّها منافية للأخلاق أو للذوق العام وصفًا دقيقًا، ولكنَّه مع هذا لا يُبيِّن الدور الذي تلعبه النجمة وأفكارها في إعادة صياغة رؤية الإنسان لنفسه وتَصوُّره لذاته وللكون بشكل غير واع- ربما من جانبها ومن جانب المتلقي معًا.
إنَّ بعض المنتجات الحضاريَّة التي قد تبدو بريئة تمامًا ومجرد تسلية مؤقتة تؤثر في وجداننا وتُعيد صياغة رؤيتنا لأنفسنا وللعالم. إذ إنَّ أولئك الذين يرتدون التِّيشيرت، ويشاهدون الأفلام الأمريكيَّة (إباحيَّة كانت أم غير إباحيَّة)، ويسمعون أخبار وفضائح النجوم ويتلقفونها، ويشاهدون كمًا هائلًا من الإعلانات التي تغويهم بمزيد من الاستهلاك، ويهرعون بسياراتهم من عملهم لمحلات الطعام الجاهز وأماكن الشراء الشاسعة يجدون أنفسهم يسلكون سلوكًا ذا توجُّه علماني شامل ويستبطنون عن غير وعي مجموعة من الأحلام والأوهام والرغبات هي في جوهرها علمانيَّة شاملة دون أيَّة دعاية صريحة أو واضحة. وربما كان بعضهم لا يزال يقيم الصلاة في مواقيتها ويؤدي الزكاة.
ونظرًا لعدم إدراك البعض لأشكال العلمنة البنيويَّة الكامنة هذه، فإنَّه لا يرصدها. ولذا، يُخفق هذا البعض في تحديد مسـتويات العلمنة الحقيقيَّة. وعلى هذا، فقد يُصنَّف بلد باعتباره إسلاميًا (مثلًا) لأنَّ دستور هذا البلد هو الشريعة الإسلاميَّة مع أنَّ معدلات العلمنة فيه قد تكون أعلى من بلد دستوره ليس بالضرورة إسلاميًا ولكن معظم سكانه لا يزالون بمنأى عن آليَّات العلمنة البنيويَّة الكامنة التي أشرنا إليها.
[1] (من كتاب أنطوني جيدنز: “علم الاجتماع”، المنظمة العربيَّة للترجمة، ص ٤٦٨).
[2] (عبد الوهاب المسيري، موقع الجزيرة نت، ٢٠٠٨).