أ. كريم محمد
لعلّ من الجائز أن نقول: إنَّ المسألة السياسيَّة وعلاقتها بالإسلام هي المسألة الأساس التي تسيطر على الإنتاج العربيّ الحديث، بشقَّيه الإسلاميّ والعلمانيّ. فمنذ ما يسمّى النهضة العربيَّة، والمفكِّرون المسلمون، بشتَّى توجّهاتهم الفكريَّة، يبحثون عن حلّ لإشكال السياسة الحديث. اتخذَ هذا البحث عدَّة صور، منها: التوفيق بين الدولة الحديثة والإسلام، أو القول بأنَّ الإسلام لم يدعُ إلى دولةٍ وهي أمر من أمور التدبير الإنسانيّ، أو عبر محاولة أخذ منتج الحداثة السياسيَّة (الذي تمثِّل الدولة أحد تجلِّياته الأساس) وتفعيله في سياقٍ إسلاميّ – قيميّ. وعلى الرّغم من شتَّى هذه المقاربات العربيَّة، فإنَّ البحث العربيّ لم يتعمَّق في بحث سُبل تشكُّلات هذه الدولة الحديثة من جهةٍ، وأيضًا لم يتعمَّق باستكشاف إمكانات التراث الإسلاميّ وما يحمله من تجربةٍ لنظام الحكم فيه على المستوى النظريّ والعمليّ، بل كان البحثُ متَّجهًا -أو لنَقُل مُوجَّهًا- نحو نتيجةٍ مسبقةٍ غير منطوقة في البحث نفسه.
ومن هنا تأتي الأهميَّة الكبيرة لكتاب الدكتور وائل حلَّاق الأخير: “الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقيّ” (صدر بالإنجليزيَّة عام ٢٠١٢، وتُرجم إلى العربيَّة أواخر عام ٢٠١٤، بترجمة د. عمرو عثمان، وسوف أعتمد عليها في هذه المراجعة). ورغم الوقت الذي ظهر فيه الكتاب بعد ما يسمّى بالربيع العربيّ، فالكتاب، على خلاف ما يبدو، غير معنيّ حصرًا بالأوضاع الإسلاميَّة الراهنة في علاقتها بالدولة الحديثة، إنَّما بالأحرى معنيّ بكشْف الأصول المشكّلة لكلٍّ من الدولة الحديثة، كدولة مركزيَّة تستولي على الأخلاقيّ والسياسيّ-الاقتصاديّ من جهةٍ، وباستكشاف الأصول المكوِّنة للشريعة الإسلاميَّة كنطاقٍ أخلاقيّ شكّل بنية التراث الإسلاميّ في التعاطي مع مسائل كنظام الحكم والتشريع والفتوى، إلى غيرها من هذه المسائل.
يجدرُ بنا الانتباه عند قراءة هذا الكتاب أنَّ حلَّاق، أستاذ الدراسات الإسلاميَّة سابقًا بجامعة ماجديل، لا يتعلَّق نقاشه بموضوعٍ سياسيّ، بقدر ما هو يبحثُ، تاريخيًّا وفكريًّا، في الأسس التي شكَّلت الدولة الحديثة وبنيتها الميتافيزيقيَّة الحديثة، وما هو مختلفٌ، بنيويًّا، مع نموذج “الحكم الإسلاميّ” كما يراه حلَّاق. وبالتالي، فلا علاقة مباشرة بأطروحة الكتاب باهتمامٍ سياسيّ معيَّن، إنَّما هو بالأساس اهتمام وتوجّه معرفيّ تجاه موضوعٍ إشكاليّ يهم الباحثين والعلماء في مجال ما يُدعى “الدراسات الإسلاميَّة” غربًا وشرقًا. وهذا الاهتمام الذي أولاهُ حلَّاق لموضوعه الدولة (كتابه يقع في ثلاثمئة صفحةٍ ونيف) نابع من اشتغاله على مدى عقدين ونيف بالشريعة والفقه الإسلاميّ، وكان لا بدّ له من اختبار علاقة الدولة الحديثة بما هي كذلك، والدولة العربيَّة الحديثة ما بعد الكولونياليَّة أيضًا، بالشريعة وإعادة التشكيل التي أحدثتها الدولة على الشريعة.
يُقيم حلَّاق كتابه على فرضيَّة أساسيَّة في مقدِّمة الكتاب لينطلق منها كفرضيَّة كليَّة مدّللًا عليها -عن طريق حقليْ الفلسفة الأخلاقيَّة والسياسيَّة بشكلٍ أساسيّ- في كتابه ذي الفصول السبعة التي تستكشفُ نطاقات الدولة الحديثة ونطاقات الشريعة. والصورة الكليَّة لهذه الفرضيَّة كما كتب بالمقدّمة هي أنَّ: “أطروحة هذا الكتاب بالغة البساطة: مفهوم “الدولة الإسلاميَّة” مستحيل التحقُّق وينطوي على تناقضٍ داخليّ، وذلك بحسب أيّ تعريفٍ سائدٍ لما تمثِّله الدولة الحديثة” (حلَّاق، الدولة المستحيلة، ص ١٩). لكنّ الإشكاليّ في مفهوم “الدولة الإسلاميَّة” ليس كونها إسلاميَّة، وإنَّما لأنَّها دولة حديثة بالذّات. بمعنى أنَّ التناقض الذي ينطوي عليه هذا المفهوم -مفهوم “الدولة الإسلاميَّة” أعني- هو تناقض لكونه يتصوّر الدولة كيانًا مفرَغًا يمكن أن يُملأ بأيّ توجّه فكريّ من خارجه. بل الأمر، وكما يجادل حلَّاق، هو أنَّ للدولة الحديثة صفاتٍ أساسيَّة ومن دونها لا تكون دولة، وهذه الصفات هي صفات مختلفة جذريَّة عن نموذج “الحكم الإسلاميّ” -وسوف نعود لهذا المصطلح كما يستخدمه حلَّاق عمّا قليل- الذي عرفته التجربة الإسلاميَّة السياسيَّة حتى مطلع القرن التاسع عشر، أي قبل الكولونياليَّة الغربيَّة وهيمنتها على الشعوب والحكم الإسلاميّ حينها، مما جعلها تقوم بجلْب نموذج حكم مختلفٍ على هذه البلاد -نموذج الدولة الحديثة-، وأيضًا بتغييرها ومكافحتها الدائمة لما تعنيه “الشريعة” مما أدَّى لتبديل دورها القيميّ الاجتماعيّ الذي يتَّخذ من مفهوم “الأمَّة” نطاقًا أساسيًّا لعمله، ويستندُ، ميتافيزيقيًّا، على الأخلاق بمرتكزها الإلهيّ.
يُجادل وائل حلَّاق، أستاذ الإنسانيَّات والدراسات الإسلاميَّة حاليًا بجامعة كولومبيا بنيويورك، أنَّ للدولة الحديثة “نطاقٌ مركزيّ” (central domain) -وهو مفهوم أخذه من كارل شيميت- يرتكز على ميتافيزيقا حديثة مختلفة عن “النطاق المركزيّ” للشريعة، حيث إنَّ عصر التنوير وفلسفة الأخلاق الذاتيَّة الحديثة بما وفّرته من نزعةٍ فرديَّة وقطيعةٍ (breaking) مع الميتافيزيقا القديمة التي تستندُ على مفاهيم الخير والفضيلة، أسّس لفصلٍ ما بين “ما ينبغي أن يكون” و”بين ما هو كائن”، وهذا، حسب حلَّاق، فصل بين القيمة وبُعدها المتعالي، مما سيفصل الأخلاق عن الدين، وينشئ، من ثمَّ، ذاتًا نرجسيَّة متشظّية، ويسيطر عليها نزوع الهيمنة على الطبيعة والإنسان. وهكذا، فالقانونيّ سيغدو مفصولًا عن الأخلاقيّ، لأنَّه، بصورةٍ أساسيَّة، يعملُ على ما هو كائن لا على ما ينبغي أن يكون، وهذا على عكس ما كان في التراث الإسلاميّ حيث: “في التراث الإسلاميّ قبل الحديث وخطاباته، بما في ذلك القرآن (وهو النصّ المؤسِّس بالطبع) لم يُنظر إلى القانونيّ والأخلاقيّ باعتبارهما مقولتين منقسمتين، فقد كان “ما هو كائن” و”ما ينبغي أن يكون” والحقيقةُ والقيم الشيء الواحد ذاته. ولم يكن التمييز قائمًا بأيّ طريقةٍ من الطرق التي اتخذناها في العالم الحديث. كما إنَّ هذا التمييز لم يُوجد في أوروبا قبل عصر التنوير” (حلَّاق، الدولة المستحيلة، ص ١٦٢).
إذن، إنَّ المدخل الذي يعتمدُ عليه صاحب “الدولة المستحيلة” هو مدخل أخلاقيّ بامتيازٍ، ومقاربته لنموذج الدولة الحديثة الذي يُراد أسلمته بوصفه نموذجًا ممكن الأسلمة، هي مقاربة تقول إنَّ: “النطاق المركزيّ” للشريعة نتاج أخلاقيّ بالأساس، وأنَّ “النطاق المركزيّ” للشرط الحديث هو نطاق يعاني من أزمات بنيويَّة لأنَّه مفتقد للأساس الأخلاقيّ الذي يوفِّر الحياة الخيِّرة للذات الإنسانيِّة.
وبما أنَّ النِّقاش حول الدولة، فلا عجب أن يخصِّص حلَّاق الفصل الثاني برمَّته للدولة الحديثة (ص ٥٧-٨٥). وفي هذا الفصل، يُجادل وائل حلَّاق بأنَّ المنظورات التي أبدعها المفكِّرون والمنظِّرون الغربيُّون عن الدولة الحديثة، والتي “تعادل عدد المفكِّرين المرموقين الذين يكتبون عنها” (حلَّاق، الدولة المستحيلة، ص ٥٩)، هي تنوّعات في المنظور. ومن ثمَّ، يشتغل حلَّاق على ثنائيَّة طريفة هي ثنائيَّة الشكل والمضمون، بحيث يقول: “أعتبرُ المضمون متغيّرًا أو مجموعة من المتغيّرات، والشّكل مكوّنًا من بنى أو خصائص أساسيَّة امتلكتها الدولة في الواقع لمئة عامٍ على الأقلّ ولا يمكن من دونها تصوِّرها كدولةٍ قطّ، كونها أساسيَّة” (حلَّاق، الدولة المستحيلة، ص ٦٠). وبالتالي، يطرح حلَّاق خمس صفاتٍ شكليَّة للدولة الحديثة، يجد أنَّها تعنيها حصرًا بما هي دولة. وهذه الخمسُ صفاتٍ هي: أولًا، الطبيعة التاريخيَّة للدولة؛ ثانيًا، امتلاك السيادة وميتافيزيقا السيادة؛ ثالثًا، القيام بعمليَّة التشريع والقانون والعنف؛ رابعًا، امتلاكها لجهازٍ بيروقراطيّ عقلانيّ؛ خامسًا، هيمنتها الثقافيَّة أو تسييسها للثقافيّ. وتتميَّز صفات حلَّاق الخمس بأنَّها تجمع خلاصة ما أنتجه المفكِّرون والفلاسفة السياسيُّون غربيًّا، بحيث يمكننا القول: إنَّ الصفات الخمس هذه مُستخلَصة من غرامشي وفوكو (الهيمنة مثلًا) وكلسن (القانون) وماكس فيبر (العنف).
ومن ثمَّ، فالدَّولة الحديثة، بما هي دولة، لها خصائص شكليَّة -ليست “شكليَّة” ههنا بمعنى عَرضِيَّة، إنَّما بمعنى منفصلة عن مضمونها الأيديولوجيّ، وهذه ملاحظة شديدة الأهميَّة- أشبه بخصائصٍ متعالية، وهي بمثابة الشرط (condition) لها، وما المحتوى الأيديولوجيّ -سواء أكان ليبراليًّا أو ماركسيًّا أو إسلاميًّا، إلخ- سوى شيءٍ لاحقٍ لتشكّلها كدولة. وإن فقدتْ الدولة الحديثة هذه الخصائص الشكليَّة، تفقدُ ذاتها، وتتحوَّل إلى فوضى، دون سيِّد، ودون آمرٍ متعالٍ، ودون بيروقراطيَّة تحكم نسق العلاقات الإجرائيَّة بداخلها. صحيح أنَّ هذه الخصائص التي تحكمها ليست متعالية بمعنى أنَّها متجاوزة، ومن ثمَّ فهي خصائص لا تاريخيَّة. لا، فـ”تاريخ الدولة هو الدولة؛ إذ إنَّه لا يوجد في الدولة ما يمكن أن يهرب من الزمنيَّة”، كما يقول وائل حلَّاق (حلَّاق، الدولة المستحيلة، ص ٦٦).
وبناءً على هذه الصفات الشكليَّة/ الجوهريَّة للدولة الحديثة، يرى حلَّاق أنَّ هذه الصفات صفات مختلفة جوهريًّا عن نموذج الحكم الذي عايشه المسلمون لمدَّة اثني عشر قرنًا قبل الاستعمار. ومن ثمَّ، يقول حلَّاق إنَّ مفهوم “الدولة” (state) لم يعرفه التراث الإسلاميّ، ويفضّل، صاحب كتاب “الشريعة” والأعمال المبرّزة عن الفقه الإسلاميّ، استعمال مصطلح “الحكم الإسلاميّ”. ويبرّر حلَّاق هذا بقوله في الفصل الثالث: “لم يكن ثمَّة دولة إسلاميَّة قط. فالدولة شيءٌ حديثٌ، وعندما أقول “حديث” فأنا لا أشيرُ إلى فترة زمنيَّة معيّنة في موضعٍ معيّن من مسار التاريخ الإنسانيّ. فالحديث [the modern] هو بنيةٌ معيّنة من العلاقات التي تتميَّز كظاهرةٍ فريدة. إنَّه [أي الحديث] خاصيَّة معيَّنة. ولذلك، فإنَّ اللجوء إلى استعمالاتٍ مثل “الدولة الإسلاميَّة -ككيانٍ وُجدَ في التاريخ- ليس انخراطًا في تفكيرٍ ينطوي على مفارقة تاريخيَّة فحسب، بل ينطوي كذلك على سوء فهم للاختلافات البنيويَّة والنوعيَّة بين الدولة الحديثة و”أسلافها”، خصوصًا ما سمَّيته “الحكم الإسلاميّ” (حلَّاق، الدولة المستحيلة، ص ١٠٥).
لكن، ما هي “الاختلافات البنيويَّة والنوعيَّة بين الدولة الحديثة و”أسلافها”؟ وإذا كان نموذج “الحكم الإسلاميّ” مختلفًا، جذريًّا كما يجادل حلَّاق، عن “الدولة الحديثة”، فما هي طبيعة هذه الاختلافات؟ هل هي طبيعة تاريخيَّة؟ أم هي طبيعة أخلاقيَّة-ميتافيزيقيَّة؟
لقد خصَّص حلَّاق بالفعل جزءًا كبيرًا، أو لنقُل الجزء الأكبر، من الكتاب للردّ على هذا السؤال في كتابه. حيث يرى حلَّاق أنَّ الشريعة -بمعناها الأعمّ والواسع- هي التي كانت تشكِّل نطاقات الاجتماع البشريّ بين المسلمين، وأنَّ السيادة لم تكن للدولة، أو للمشرّع القانونيّ، إنَّما كانت لله، ولله وحده. ذلك أنَّ التراث الإسلاميّ لم يكن يعرف المعنى بمعناها السياديّ الحديث، إنَّما الدولة في واقع هذا التراث ليست سوى منظِّم شكلي لحاجيَّات المسلمين، وكان الأمر موكولًا إلى المجتمع الذي تحكمه الشريعة بقانونها الأخلاقيّ. ومن ثمَّ، فكي تُفعِّل الشريعةٍ في سياقٍ ما، لا بدّ وأن يكون هذا السياقُ أخلاقيًّا بشكلٍ أساس، وإلّا فقدت الشريعة معناها كما يقول حلَّاق. صحيح أنَّ هناك انحرافًا سياسيًّا حصلَ في التراث الإسلاميّ على مستوى نموذج الحكم، لكنَّه عُدّ انحرافًا وليس “ما ينبغى أن يكون” من ناحيةٍ، ومن ناحيةٍ أخرى فإنَّ هذا كان على مستوى الحكم السياسيّ ولم يكن على مستوى المجتمع الذي لم تكن الدولة تشكِّل له معنى كبيرًا بالنسبة إلى وضعنا الحالي. وأيضًا، وكما يوصّف حلَّاق، كان الاجتماع البشريّ في التراث الإسلاميّ لا يعتمد على هيمنة الدولة على المجتمع -كما هو حال الدولة الحديثة-، بل كان المجتمعُ مستقلًّا بعلمائه وعلومه ومدارسه ومصارفه عن الدولة. بل إنَّ الشريعة كانت حماية للمقهورين إذا ما وقعَ جورٌ من الدولة على أحدٍ ما.
وبصورةٍ مختصرة، يحاجج حلَّاق في الفصلين الثالث والرّابع بأنَّ الشريعة أسَّست لنموذجٍ أخلاقيّ، وكلّ الممارسات والأفعال والتصوّرات انطلقت من هذا النموذج. وينطوي النموذج الأخلاقيّ للشريعة على مرتكزٍ ميتافيزيقيّ بإفراد الله بالسيادة الكاملة، وأنَّ معنى وجودنا في العالم هو أخلاقيّ وليس نفعيًّا بالأساس. ومن ثمَّ، لم يكن لأحدٍ مهما كان أن يتحكّم في الشريعة بهذا المعنى الكلّي، حيث إنَّ الشريعة: “باعتبارها ممثِّلةً لإرادةِ الله السياديَّة، تنظِّم الشريعة مجال النظام الإنسانيّ بأكمله، إمَّا بصورةٍ مباشرةٍ أو من خلال تفويض محدَّد جيِّدًا ومحدود. وفي حين تتحكَّم الدولة الحديثة بمؤسَّساتها الدينيَّة وتنظّمها، مخضعةً إيَّاها لإرادتها القانونيَّة، فإنَّ الشريعة تتحكَّم بالمنظومة الكاملة من المؤسَّسات العلمانيَّة وتنظّمها. وإذا كانت هذه المؤسَّسات علمانيَّة أو تتعامل مع ما هو علمانيّ، فهي تقوم بذلك في إطار الإرادة الأخلاقيَّة الرقابيَّة الشاملة التي هي الشريعة. ولذلك فإنَّ أي شكلٍ سياسيّ أو مؤسَّسة سياسيَّة (أو اجتماعيَّة أو اقتصاديَّة)، بما فيها السلطاتُ التنفيذيَّة والقضائيَّة، هي في النهاية خاضعةٌ للشريعة. ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ الشريعة نفسها هي “السلطة التشريعيَّة” بامتياز. [….] ولا توجد مراجعة قضائيَّة في الإسلام، ولذلك لا يستطيع القضاء المشاركة في التشريع بصورةٍ مباشرة” (حلَّاق، الدولة المستحيلة، ص ١١١).
ولا ينبغي للقارئ أن يفهم من هذا الكلام لحلَّاق أنَّه مع دعواتٍ مثل “تقنين الشريعة”، فهذا القانون الذي يُراد أن تقنِّن الشريعة داخله هو قانون حديث يتنافى والأصل الأخلاقيّ في الشريعة الذي يريد حلَّاق أن يبرزه ويؤكّد عليه، بل ويوضِّح كيف أنَّه هو من صاغ الإنتاج والذات والمجال الإسلاميّ. فغاية ما يريدُ حلَّاق أن يوضِّحه هو سؤاله الذي طرحه: “كيف حكمَ المسلمون أنفسهم لمدّة اثني عشر قرنًا؟”.
أمَّا الفصل الخامس، فيركِّز فيه حلَّاق على نقطة طريفةٍ، وهي نقطةٌ طالما ناقشها فلاسفةٌ ومفكِّرون سياسيُّون من قبل، ألا وهي إنتاج الدولة الحديثة لرعاياها. مرتكزًا على ميشيل فوكو، يُبدع حلَّاق مفهوم “تقنيات الذات” (technologies of the self)، وهي جملة الأمور التي توجِّه الذات أخلاقيًّا في هذا العالم. حيث يرى حلَّاق أنَّ لا أرضيَّة للتلاقي بين نموذج إنتاج الرعايا للدولة الحديثة ونموذج الحكم الإسلاميّ لذلك؛ فالحكم الإسلاميّ لم يعرف كميَّة الرقابة التي تقوم بها الأخيرة، كما إنَّ الذوات لم يكونوا أبناء الدولة، أو تنتجهم الدولة، إنَّما الدولة هي من جاءت لهم، على خلاف الدولة الحديثة التي يكون الفردُ نتاجها. ومن ثمَّ، فالدولة الحديثة، على عكس ما يُشاع هي دولة فدائيَّة، تجنِّد الأفراد -وفقًا لمبدئها السياديّ الكليّ- في سبيل الزود عنها. كما إنَّه تنتج ذاتًا متشظّية غير أخلاقيَّة محكومة بميتافيزيقا دنيويَّة لا موجِّه خارجيّ لها، بل كلّها موجِّهات داخليَّة.
إنَّ الفصلين الأخيرين من الكتاب يمكن اعتبارهما بمثابةِ برهنة تدليل أكبر على أطروحة الكتاب المركزيَّة. فالعالَم الحديث -الذي يُنشد فيه بعضهم أن يكوِّن دولة إسلاميَّة أخلاقيَّة- عالم محكوم بحصار عولميّ مهيمن، والعولمة إن اتخذناها على أنَّها نمطٌ اقتصاديّ، إلّا أنَّها، كما يقول حلَّاق: نمط سياسيّ للهيمنة جديد، كما إنَّ العولمة تسعى لإنشاء عالم على شاكلتها بالأساس. ولا يمكن أن ينشأ نموذج اقتصاديّ إسلاميّ متوهَّم من داخل هذه الأسس التي تهيمن على النظام العالميّ، فلا بدّ من إيجاد تبيئة جديدة لإنتاج ذلك. ومن ثمَّ، ما يُدعى “مصارف إسلاميَّة” لها لبوس الاسم فقط، ولا مضمون سوى المضمون النيو-ليبراليّ الحديث.
ما العملُ الآن؟ إذا كان ما من تلاقٍ بين الأرضيَّة الأخلاقيَّة للإسلام أخلاق الدولة الحديثة، إذا صحّ التعبير، وإذا كان هناك تحوُّل جذريّ في مفهوم السيادة (sovereignty) بحيث يرتكز على بعد ميتافيزيقيّ غير أخلاقيّ، وهو مفهوم ضبْطيّ بالأساس للدولة الحديثة على القانون والذوات والاجتماع والسياسة، ما هو الحل للمسلمين اليوم؟ في الفصل الأخير، يناشد حلَّاق علماء المسلمين ومفكّري الإسلام الذين يريدون نظامًا يحمل رؤيتهم للعالَم أن يتضامنوا مع العلماء والفلاسفة الغربيين الذين يهتمُّون بموضوعة الأخلاق لتصويب نقدٍ جذريّ للدولة الحديثة، ليس فقط، بل وللشرط الحديث بأكمله. ولا بدّ من هيمنة للنطاق المركزيّ للأخلاقيّ على النطاق المركزيّ للسياسيّ بمعناه الحديث والذي نعاصره. فـ”كلّ هذه الأصوات -الإسلاميَّة والمسيحيَّة، الشرقيَّة والغربيَّة- تتفاعل مع الظرف الأخلاقيّ نفسه مهما اختلفت مفرداتها ومصطلحاتها. هكذا، يبقى السؤال الأهمّ هو: هل يمكن لتلك القوى من جميع الجهات أن تتسامى على تمحورها الإثنيّ حول نفسها، وتوحِّد جهدها في مساءلة المشروع الحديث ودولته؟ […] وهل يمكن لهم جميعًا، غربيّين وغير غربيّين، تفكيك أسطورة صراع الحضارات المؤذية؟ وهل يمكن لهم مضاعفة قوّتهم الأخلاقيَّة لتحقيقٍ نصرٍ يؤسِّس الأخلاقيّ كنطاقٍ مركزيّ لثقافات العالَم، بصرف النظر عن التنوعات “الحضاريَّة”؟ فكما أنَّه لا يمكن أن يكون هناك حكمٌ إسلاميّ من دون هذا النصر، لا يمكن أن يكون هناك أيّ نصرٍ أصلًا من دون أن تستفيقَ الحداثة أخلاقيًّا، وهذا ما لم يحدث”، هكذا يدعو حلَّاق في نهاية الكتاب.