Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

مفهوم تقويم التراث

أ. عبد الرحمن ناصر

يمكنُنا تجاوزًا أن نعرِّف التراث تعريفًا لغويًا واصطلاحيًا لأنَّ هذا الأمر معروفٌ وشائع. يمكننا فقط أن نُشِيرَ إشارةً صغيرة إلى أنّ تعريفه اللغويّ: هو ما ورثناهُ عن الأجداد. قال ابن منظور في لسان العرب: ورَّثَهُ ماله ومجده. وقال تعالى إخبارًا عن زكريا عليه السلام (يرثني ويرثُ من آل يعقوب). وفي هذا السياق يجب أن نشير أنّ «مفهوم التراث» غير مفهوم «الفلكلور» الإنجليزيّ. حيث يشير الفلكلور إلى التراث الشعبيّ. إذن فالتراث هو الموروث الثقافي والحضاري الذي ورَّثهُ لنا أجدادنا. ينفعلُ فينا ونتفاعلُ معهُ وبه. وهو يتحركُ فينا شئنا أم أبينا.

وقد بدأ التراث يحتلّ هذه المكانة الكبيرة والجدل المحتدم الذي دار حوله، حين بدأ ما يسمِّيهِ المؤرِّخون العرب (عصر النَّهضة الحديثة). المؤرِّخ اللبنانيّ ألبرت حوراني يعتبر أن بداية هذا العصر مع الحملة البونابرتيَّة على مصر 1798، البعض الآخر يعتبر أنّ هذا العصر بدأ مع دخول إبراهيم باشا إلى سوريا عام 1832. وأيًّا كان من التأريخ، الهامّ في هذا الأمر أنّ سؤال التُّراث احتلّ هذهِ المكانة حين بدأ الاحتكاك بالغرب. ما جعل السؤال يُطرح على العقل العربي حينها؛ سؤال التراث والحداثة. أو لماذا “تقدَّمَ” الغَرب ولم يتقدَّم العَرَب؟ وظلّ هذا السؤال مؤرِّقًا للمفكرين والمثقفين العرب طيلة القرنين الماضيين. وحتى الآن لم يُحسم هذا الجدل حول تراثنا الإسلاميّ العربيّ والحداثة. ماذا نأخذ من هذا التُّراث وماذا نترك؟ هل للتراث جدوى بالفعل؟ وهل يمكنه أن يُساهم في إخراج المجتمع والدولة من أزمته الحالية التي طرحتها عليه حداثة الغرب؟

إن يميز بين لسان القرآن واللّسان العربيّ الذي قد يوصف بعضه “بالإبانة” والحكمة وسائر ما وصف به القرآن ولسانه وقد لا يوصف بذلك أمَّا “لسان القرآن” فكلّه حكيم وكلّه مبين وكلّه متحدى به، وكلّه قدسيّ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

و “التراث” في القرآن المجيد: ما يورث من أمور ماديّة أو معنويَّة عن آخرين ماتوا: فهو انتقال ما يعتني من ميت إلى من يرثه”

و “التراث” أصله “وراث” وقلبت الواو ألفًا وتاءً لتيسير النطق بها. قال تعالى: ﴿ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ ..﴾ (الفجر:19) وقال تعالى: ﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ.. (النمل:16) وقال: ﴿ .. وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ .. (النساء:11) و ﴿  .. وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً .. (النساء:12)

يمكننا أن نقول أنّ المفكرين والمُثقَّفين والحركات السياسية العربية انقسموا ثلاثة أقسام في تعاطيهم مع التُّراث والوافد الجديد من كلّ سياقٍ أو تراثِ غيرنا (في الأغلب الأعم سياق الموروث الثقافي والحضاري للغرب):

القسم الأوَّل

الذين رفضوا رفضًا شاملًا وكليًّا كلّ ما هو وافد على الثقافة الإسلامية. بالتالي تمّ رفضه، بعيدًا حتَّى عن انتقاده العقلانيّ الواعي، وبعيدًا عن الانتفاع به. ويعتبر أهمّ من قام بذلك بعض الحركات الإسلامية السلفية منهم تحديدًا.

القسم الثاني

من تلقَّفوا ما جاء من الموروث الغربي تلقُّفًا غير عقلانيّ وتبنَّوه كإيديولوجيا. وكأنَّهم يحتقرون التراث الإسلاميّ احتقارًا واسعًا، أو ربما هم موهومون بما حقَّقَ الغرب من “حضارة” حالية. وحداثة واسعة. بعض هؤلاء المنقطعين يبررون انقاطعهم عن التراث بأنَّهُ ليس انفصالًا نهائيًّا عن الماضي والتراث، وليست دعوة لإهماله تمامًا وإنَّما القطيعة هنا والانفصال هو نتيجة حتميَّة للتَّطوُّر التاريخي العام!

القسم الثالث

وهم الذين حاولوا أن يوفِّقوا بين هذا وذاك. فلا هم رفضوا الوافد رفضًا لا عقلانيًّا ولا هم أخذوا الماضي دونَ نقدٍ وبشكلٍ غير عقلانيّ. وأبرز هؤلاء هو المفكر المغربيّ محمد عابد الجابري. الذي يعتبر أشهر هؤلاء الذين اشتغلوا على التراث ويعتبر مشروعه هو أبرز هذه المشاريع نيلًا للنقد والنقض.

ماذا يعني الاشتغال بالنظر في التراث وتقويمه؟

يعني أنّ المفكر أو المثقَّف يقوم بالنظر في آليَّات إنتاج هذا التراث أولًا، ثمَّ؛ وكخطوة لاحقة يقوم بالنظر في المضامين المُنتجة من هذه الآليَّات. يلزم لكلّ هذا منهج يحدِّدهُ الباحث ويسيرُ عليه في جميع الجزئيَّات والكلِّيَّات. ليخرج بنتائج هذا النظر:

 كيف ننظر للتراث وكيف نتعامل معه؟

ماذا ناخذ من التراث وماذا نترك؟

كيف نتعامل مع الحداثة؟

أن يقوم ببناء معقوليَّة إسلاميَّة عربيَّة تستطيع أن تنهض بالعقل الجمعي لهذه المنطقة الجغرافية الزمكانية

 

أبرز مشاريع النظر في التراث وتقويمه:

هناك الكثير من المفكرين العرب الذين نظروا للتراث وحاولوا تقويمه، نذكر هنا بعض الأمثلة:

محمد عابد الجابريّ والمشروع التوفيقي

يعتبر الجابري امتدادًا فكريًّا وفلسفيَّا لابن رشد، الفقيه والفيلسوف الأندلسيّ. باعتبارهما يتخذان موقفًا توفيقيًّا بين التراث العربي – الإسلامي وبين غيره من أنواع التراث التي جاءت من سياقات أخرى مختلفة. يعتمد مشروع الجابري وفقًا لتقسيمته على النظرة المعاصرة للتراث. بدلًا من النظرة التراثية للعصر أو النظرة التراثية للتراث. وفقًا للجابري لا يأخذ موقفًا متحفِّظًا في مشروعه من التراث، ولا يأخذ كذلك موقفًا مدافعًا عن الغرب وحداثته. لذلك يرفض مفهوم العلمانية لأنَّه مصطلح لا يمكن “تبيئته” داخل المجال الإسلامي – العربي. واستخدم بدلًا منه مصطلحي الديموقراطية والعقلانيَّة.

لكنّ الانتقاد الأوضح الذي يُنقد به مشروع الجابريّ كونُه استخدم آليَّات العقلانية الغربية في النظر لمضمون التراث الإسلامي – العربيّ. بينما كان من الأولى به أن يستخدم آليات تقع داخل المجال التداوليّ للتراث الإسلامي – العربيّ. كما أنَّهُ وقع في مُشكل النظر الإيديولوجي للأحداث، خصوصًا السياسيّ منها.

جورج طرابيشي ونقد نقد العقل العربي

مفكر ومترجم سوري؛ اشتغل في عدَّة مسارات ثقافية أولها الترجمة (ترجم ما يقارب الـ 200 كتابًا) ثمّ النقد الأدبيّ ثم مشروعه في النظر للتراث. يقوم مشروع طرابيشي على نقد مشروع الجابري (نقد العقل العربي). ويسمَّى مشروع جورج (نقد نقد العقل العربي) وقد استغرق فيه عشرون عامًا من العمل والبحث واكتشاف التراث. يقوم مشروعه الذي يدافع عنه على رؤية أنّ الإسلام وتراثه بكافَّة جوانبه هو تراث الذَّات العربية، ورؤيته لعلمانية الإسلام التي تتجلى في عدم تقديس الإسلام سوى للقرآن الكريم، متسشهدًا في علمانيَّــة الإسلام بالقرآن الكريم ونصوص من السنة النبوية والممارسات المجتمعية الإسلامية الأولى للجيل الأوَّل من الصَّحَابة.

مُحمَّد أركون

هذه المرة من الجزائر ودكتوراه بالفلسفة من جامعة السوربون. ويمثل أركون في مشروعه القطيعة مع التراث في أبرز صورها، هذه القطيعة التي يعتبرها حتمية لصيرورة التاريخ العام. خلال أربعين عامًا كرَّس أركون نفسهُ لنقد العقل الإسلاميّ. يعتمد محمد أركون في مشروعه على المناهج العلمية الحديثة الخاصة بعلوم الإنسان. ودراسة الأديان والنُّصُوص الدينيَّــة. بدايةً من الانثروبولوجيا والفيلولوجيا واللسانيات وعلم اجتماع المعرفة ونهايةً بعلم النفس الاجتماعي وأركيولوجيا المعرفة والسيميائيات والهرمنيوطيقا وكل هذه العلوم العصرية.

طه عبد الرحمن: الرجل الذي نَقَدَ الجميع

يعتمد مشروع طه عبدالرحمن (فيلسوف الاخلاق كما يسمَّى) التراثي على نقد هذه المشاريع التي نظرت للتراث أولًا بالقطيعة، ثمّ على نقد الرفض التام للغرب وتراثه وإنتاجه، ثمّ على نقد الموقف التوفيقي الذي يسعى إليه مشروع مُواطِنِهُ المفكر المغربي مُحمَّد عابد الجابري.

في كتابه – المُقرَّر – تجديد المنهج في تقويم التراث، يقوم طه عبدالرحمن بشيئين اثنين:

  • أوَّلًا نقد مشروع الجابري باعتباره أبرز هذه المشاريع في النظر للتراث.
  • ثانيًا: وضعه منهجه في النظر لهذا التراث.

ينتقد عبدالرحمن التَّعامُل مع التُّراث بآليَّات منهاجيَّة غربيَّة أنتجت في سياقِ تراثٍ آخر، وفي مجالٍ تداوليٍّ مباين للمجال التداوليّ الإسلاميّ العربيّ. هذا أولًا، كما ينتقدُ ثانيًا النظر في مضامين التراث الإسلامي العربي ومحاولة محاكمتها بهذا الآليات المنتجة من مجالٍ تداوليٍّ آخر، وينتقد كذلك عدم النظر في الآليات المنتِجة لهذا التراث الواسع المتفرِّد بتعبيره. ينتقد كذلك ما أسماهُ بالنَّظرة التجزيئيَّة للتراث بإبراز بعض المظاهر (الإيديولوجية) وإخفاء بعضها أو التغافل عنها، كإبراز العامل السياسي على غيره من العوامل باعتباره العامل الأكثر بروزًا في أيَّة عمليَّة نهضويَّة.

في بقية الثلثين الباقيين من الكتاب يشرح المؤلِّف نظرتهُ التكامليَّة في النظر للتراث، التي انتهجها هو ووضع منهجها بنفسِه بالنظر في آليات إنتاج التراث العربيّ الإسلاميّ، وبالنظر إلى المجال التداوليّ الإسلاميّ- العربيّ نظرةً تكامليَّة تضعُ في أفق رؤيتها أنّ هذا التراث موصولًا بالشرع الإسلاميّ وأيَّة محاولة لفصله عن هذا الشرع (المكون الرئيسي له) فهي محاولة فاشلة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *