Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

الرحمن الرحيم

أ.د/ طه جابر العواني

مفهوم الرحمة:

الرحمن والرحيم مشتقان من الرحمة.

يشكّل مفهوم الرحمة، وما يرتبط به من مفاهيم، حلقة هامّة جدًا في القرآن الكريم فقد افتتحت به جميع السور إلا واحدة، وهي سورة التوبة، فصفة الرحمة صفة من صفات الله (تبارك وتعالى) وهي مأخوذة من اسمه الرحمن، والرحيم، وهناك فرق بين الرحمن والرحيم؛ فالرحمن تطلق على الله فقط، وهى من الرحمة، ومعناها الرقة. والرحيم تطلق على الله، وعلى البشر، لقوله تعالى عن محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (التوبة:128)، ومعنى الرحيم الرفيق من الرفق  فهو أرحم الراحمين من عباده، قال (تعالى): ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾ (المؤمنون:109)، كما أنّه (جل شأنه) كتب هذا الخلق، وهذه الصفة (الرحمة) على نفسه وقال (تعالى) ﴿قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأنعام:12).

وقال (تعالى) : ﴿وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (الأنعام:54)، وقال (تعالى) ﴿ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ* إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ﴾ (الأنعام:133-134)

كما أنّ رحمة الله (تبارك وتعالى) وسعت كل شيء، قال (تعالى)﴿ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾( الأنعام:147)، وقال (تعالى) أيضًا: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾ (الأنعام:156)

إن رحمة الله (تبارك وتعالى) تسع عالم الدنيا والآخرة، فالعالمين التي الله ربها تشملها رحمته (جل شأنه) وربما هذه هِيَ الحكمة في ورود جملة (الرحمن الرحيم) بعد جملة (رب العالين) فكل مَا خلقه الله (تبارك وتعالى) في هذا الكون، وكل سكون أو حركة أثر من آثار رحمة الله (تبارك وتعالى) فالرحمة، وخلق الرحمة غاية الوجود كله. وقال -صلى الله عليه وآله وسلم- في حديثه الشريف حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ الْبَهْرَانِيُّ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ”

قال (تعالى) ﴿وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (النمل:63)، وقال (جل شأنه) ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾ (الشورى:28)، وقال أيضًا ﴿وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ (البقرة:105).

 والذي يقابل مفهوم الرحمة في القرآن المجيد هُوَ مفهوم الهلاك والعذاب والضر، قال (تعالى): ﴿يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (﴾ (الإنسان:31)

قال (تعالى)﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (الملك:28)، وقال  وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ (المؤمنون:75)، وقال (جل شأنه) ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾( الأنبياء:83)، أمّا سبيل الرحمة، وطريقها في الدنيا أولًا، والآخرة ثانيًا، فهو القرآن الكريم، قال (جل شأنه)﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾(الأعراف:204)، فالله (تبارك وتعالى) أنزل القرآن المجيد على مُحَمَّد -صلى الله عليه وآله وسلم- تبيانًا، وهدى، وبشرى للمسلمين، وفيه مَا هُوَ شفاء، ورحمة للمؤمنين، كما هُوَ الشأن بالنسبة للتوراة، وغيرها من قبله، والرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- بعث رحمة للعالمين، فيقول (سبحانه وتعالى) في كتابه الكريم ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء:107)، وقال (تعالى) ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل:89)، وقال (تعالى)﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا﴾) الإسراء:82)، وقال  ﴿هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ﴾) لقمان:3)، وقال )تعالى: (﴿هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ﴾) الجاثية:20)، وقال (تعالى)﴿ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ﴾ (الأحقاف:12)، وقال أيضًا: ﴿وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾( الأنعام:155)

إنّ اتّباع كل مَا جاء في القرآن الكريم. والإيمان، والتقوى، والعمل بالصالحات، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة وغير ذلك، كل ذلك فيه رحمة للناس، وكل هذه الصفات تؤدي إلى البر، فيقول (عزَّ وجلَّ) ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ ﴿البقرة:177﴾ إنّ الرحمة خلق نبيل وعظيم، مأخوذ من اسم الله الأعظم، لا حدّ لأثرها وفعلها في خلق الله، فهي أساس كل خلق نبيل ولولاها لما كان الوجود والكون على مَا هُوَ عليه.

ولو آخذ الله (تبارك وتعالى) عباده بذنوبهم، بدل رحمته لهلك الناس أجمعين، لكن رحمته اقتضت المغفرة والتوبة للتائبين، ورحمة منه (سبحانه وتعالى) بعث أنبياءه ورسله ميسّرين سبل وطريق الهداية للناس أجمعين بما أوحى لهم من الآيات، كما أنّ الرسول الخاتم مُحَمَّد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة منه (جل شأنه) وكما أنَّ القرآن المجيد رحمة للإنسان، قال تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الْإِنسَانَ* عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ ﴿الرحمن:1-4)، فكلما اتّسع بيان الإنسان، وخُلق وعيه وإدراكه في إطار القرآن الكريم إلّا واتّسع له مفهوم الرحمة قولًا، وفعلًا، وتجلّى له في كسبه في كل مجالات الحياة. وخلق الرحمة يترتب عليه إعمار الأرض بالخير والصلاح، والإصلاح بدل الفساد والإفساد، قال (تعالى) ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾) الروم:41)، والمنكرون أو الغافلون عن الرحمن الرحيم فوتوا على أنفسهم وعلى غيرهم فضلًا عظيمًا من الله (تبارك وتعالى) في الدنيا والآخرة .

وذكر ابن زروق في مختصر المقصد الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى في معنى اسم لله )تعالى( الرحمن: صرف المكروه عن ذاكره وحامله.

والرحيم: رقة القلب والرحمة للخلق.

الرحمن والرحيم صفتان لله )عز وجل( مشتقان من الرحمة فالرحمن فَعْلان، والرحيم فَعِيل.

قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: قد يبنون الكلمتين من أصل واحد لمعنى واحد للمبالغة.

وروي عن ابن عباس: أنه قال: الرحمن ذو الرحمة، والرحيم: الراحم. وقيل إنه قال: رحمن الدنيا ورحيم الآخرة، والرحمن اسم خاص، والرحيم اسم عام؛ فلذلك قدم الرحمن على الرحيم، فقيل: بسم الله الرحمن الرحيم؛ ولذلك أيضا قيل رجل رحيم ولم يقل رحمن.

وذكر بعضهم أنه لا يجوز الجمع بين الرحمن والرحيم إلا لله (عزل وجل)، وذهب البعض أنه يجوز أن يقال رجل رحمن كما يقال رجل رحيم، وخالف ذلك أكثر العلماء.

والرحمن ذو النهاية في الرحمة، الذي وسعت رحمته كل شيء، وكل اسم كان عن طريقة الفعل أشد انعدالا كان في المدح أبلغ، فرحمن أشد انعدالا عن طريقة الفعل من رحيم، فلذلك كان أبلغ في المدح.

وقال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد: الرحمة من العباد تحنن ورقة على المرحوم، وهي من الله (عز وجل) إنعام وإفضال على العباد، والرحمة منه جل اسمه بغير ضعف ولا رقة، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

وكان بعض النحويين يذهب إلى أن الرحمن معرب وليس بعربي محض، ولم ينعم الذاهب إلى هذا المذهب النظر؛ لأن الرحمن معروف الاشتقاق والتصريف في كلام العرب، والأعجمي لا معنى له في كلام العرب، ولا تصريف .

 

الرحمن الرحيم:

اسمان مشتقان من الرحمة والرحمة تستدعي مرحوما ولا مرحوم إلا وهو محتاج والذي ينقضي بسببه حاجة المحتاج من غير قصد وإرادة وعناية بالمحتاج لا يسمى رحيما والذي يريد قضاء حاجة المحتاج ولا يقضيها فإن كان قادرا على قضائها لم يسم رحيما إذ لو تمت الإرادة لوفى بها وإن كان عاجزا فقد يسمى رحيما باعتبار ما اعتوره من الرقة ولكنه ناقص وإنما الرحمة التامة إفاضة الخير على المحتاجين وإرادته لهم عناية بهم والرحمة العامة هي التي تتناول المستحق وغير المستحق ورحمة الله (عز و جل) تامة وعامة أما تمامها فمن حيث أنه أراد قضاء حاجات المحتاجين وقضاها وأما عمومها فمن حيث شمولها المستحق وغير المستحق وعم الدنيا والآخرة وتناول الضرورات والحاجات والمزايا الخارجة عنهما فهو الرحيم المطلق حقا.

 دقيقة:

الرحمة لا تخلو عن رقة مؤلمة تعتري الرحيم فتحركه إلى قضاء حاجة المرحوم والرب (سبحانه وتعالى) منزه عنها فلعلك تظن أن ذلك نقصان في معنى الرحمة فاعلم أن ذلك كمال وليس بنقصان في معنى الرحمة.

أما أنه ليس بنقصان فمن حيث أن كمال الرحمة بكمال ثمرتها ومهما قضيت حاجة المحتاج بكمالها لم يكن للمرحوم حظ في تألم الراحم وتفجعه وإنما تألم الراحم لضعف نفسه ونقصانها ولا يزيد ضعفها في غرض المحتاج شيئا بعد أن قضيت كمال حاجته.

وأما أنه كمال في معنى الرحمة فهو أن الرحيم عن رقة وتألم يكاد يقصد بفعله دفع ألم الرقة عن نفسه فيكون قد نظر لنفسه وسعى في غرض نفسه وذلك ينقص عن كمال معنى الرحمة بل كمال الرحمة أن يكون نظره إلى المرحوم لأجل المرحوم لا لأجل الاستراحة من ألم الرقة.

 فائدة:

الرحمن أخص من الرحيم ولذلك لا يسمى به غير الله (عز و جل).

والرحيم قد يطلق على غيره فهو من هذا الوجه قريب من اسم الله (تعالى) الجاري مجرى العلم وإن كان هذا مشتقا من الرحمة قطعا؛ ولذلك جمع الله (عز و جل) بينهما فقال ﴿ قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى ..﴾ (الإسراء: 110) فيلزم من هذا الوجه ومن حيث منعنا الترادف في الأسماء المحصاة أن يفرق بين معنى الاسمين فبالحري أن يكون المفهوم من الرحمن نوعا من الرحمة هي أبعد من مقدورات العباد وهي ما يتعلق بالسعادة الأخروية، فالرحمن هو العطوف على العباد بالإيجاد أولا، وبالهداية إلى الإيمان وأسباب السعادة ثانيا، وبالإسعاد في الآخرة ثالثا، والإنعام بالنظر إلى وجهه الكريم رابعا.

تنبيه:

حظ العبد من اسم الرحمن أن يرحم عباد الله الغافلين فيصرفهم عن طريق الغفلة إلى الله (عز و جل) بالوعظ والنصح بطريق اللطف دون العنف وأن ينظر إلى العصاة بعين الرحمة لا بعين الإزدراء وأن يكون كل معصية تجري في العالم كمصيبة له في نفسه فلا يألو جهدًا في إزالتها بقدر وسعه رحمته لذلك العاصي أن يتعرض لسخط الله ويستحق البعد من جواره.

وحظه من اسم الرحيم أن لا يدع فاقة لمحتاج إلا يسدها بقدر طاقته ولا يترك فقيرا في جواره وبلده إلا ويقوم بتعهده ودفع فقره إما بماله أو جاهه أو السعي في حقه بالشفاعة إلى غيره فإن عجز عن جميع ذلك فيعينه بالدعاء وإظهار الحزن بسبب حاجته رقة عليه وعطفا حتى كأنه مساهم له في ضره وحاجته.

 سؤال وجوابه:

لعلك تقول ما معنى كونه (تعالى) رحيما وكونه أرحم الراحمين والرحيم لا يرى مبتلى ومضرورا ومعذبا ومريضا وهو يقدر على إماطة ما بهم إلا ويبادر إلى إماطته والرب (سبحانه وتعالى) قادر على كفاية كل بلية ودفع كل فقر وغمة وإماطة كل مرض وإزالة كل ضرر والدنيا طافحة بالأمراض والمحن والبلايا وهو قادر على إزالة جميعها وتارك عباده ممتحنين بالرزايا والمحن؟

فجوابك: إن الطفل الصغير قد ترق له أمه فتمنعه عن الحجامة والأب العاقل يحمله عليها قهرا والجاهل يظن أن الرحيم هي الأم دون الأب والعاقل يعلم أن إيلام الأب إياه بالحجامة من كمال رحمته وعطفه وتمام شفقته وأن الأم له عدو في صورة صديق فإن الألم القليل إذا كان سببا للذة لم يكن شرا بل كان خيرا.

والرحيم يريد الخير للمرحوم لا محالة وليس في الوجود شر إلا وفي ضمنه خير لو رفع ذلك الشر لبطل الخير الذي في ضمنه وحصل ببطلانه شرا أعظم من الشر الذي يتضمنه فاليد المتآكلة قطعها شر في الظاهر، وفي ضمنه الخير الجزيل وهو سلامة البدن ولو ترك قطع اليد لحصل هلاك البدن ولكان الشر أعظم وقطع اليد لأجل سلامة البدن شر في ضمنه خير ولكن المراد الأول السابق إلى نظر القاطع السلامة التي هي خير محض ثم لما كان السبيل إليه قطع اليد قصد قطع اليد لأجله فكانت السلامة مطلوبة لذاتها أولا والقطع مطلوبا لغيره ثانيا لا لذاته فهما داخلان تحت الإرادة ولكن أحدهما مراد لذاته والآخر مراد لغيره والمراد لذاته قبل المراد لغيره ولأجله قال الله (عز و جل) سبقت رحمتي غضبي فغضبه إرادته للشر والشر بإرادته ورحمته إرادته للخير والخير بإرادته ولكن إذا أراد الخير للخير نفسه وأراد الشر لا لذاته ولكن لما في ضمنه من الخير فالخير مقضي بالذات والشر مقضي بالعرض وكل بقدر وليس في ذلك ما ينافي الرحمة أصلا.

فالآن إن خطر لك نوع من الشر لا ترى تحته خيرا أو خطر لك أنه كان تحصيل ذلك الخير ممكنا لا في ضمن الشر فاتهم عقلك القاصر في أحد الخاطرين.

أما في قولك إن هذا الشر لا خير تحته فإن هذا مما تقصر العقول عن معرفته ولعلك فيه مثل الصبي الذي يرى الحجامة شرا محضا أو مثل الغبي الذي يرى القتل قصاصا شرا محضا؛ لأنه ينظر إلى خصوص شخص المقتول لأنه في حقه شر محض ويذهل عن الخير العام الحاصل للناس كافة ولا يدري أن التوصل بالشر الخاص إلى الخير العام خير محض لا ينبغي للغير أن يهمل.

أو اتهم عقلك في الخاطر الثاني وهو قولك إن تحصيل ذلك لا في ضمن ذلك الشر ممكن فإن هذا أيضا دقيق غامض فليس كل محال وممكن مما يدرك إمكانه واستحالته بالبديهة ولا بالنظر القريب بل ربما عرف ذلك بنظر غامض دقيق يقصر عنه الأكثرون.

فاتهم عقلك في هذين الطرفين ولا تشكن أصلا في أنه أرحم الراحمين وفي أنه سبقت رحمته غضبه ولا تستربن في أن مريد الشر للشر لا للخير غير مستحق لاسم الرحمة وتحت هذا الغطاء سر منع الشرع عن إفشائه فاقنع بالإيماء ولا تطمع في الإفشاء ولقد نبهت بالرمز والإيماء إن كنت من أهله فتأمل.

لقد أسمعت لو ناديت حيا … ولكن لا حياة لمن تنادي

هذا حكم الأكثرين وأما أنت أيها الأخ المقصود بالشرح فلا أظنك إلا مستبصرا بسر الله (عز و جل) في القدر مستغنيا عن هذه التحويمات والتنبيهات[1].

 

[1] المقصد الأسنى الغزالي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *