أ.د/ طه جابر العلواني
ورد اسم الله (تعالى) القدوس في القرآن الكريم كله مرتين فقط في قوله (تعالى): ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (الحشر:23).
وقوله (تعالى): ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ (الجمعة:1).
وقدس: التقديس التطهير الإلهي المذكور في قوله (تعالى): ﴿وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ (الأحزاب:33)، دون التطهير الذي هو إزالة النجاسة المحسوسة، وقوله (تعالى): ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ (البقرة:30)، أي نطهر الأشياء ارتسامًا ، وقيل نقدسك أي نصفك بالتقديس، وقوله: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل:102) يعني به جبريل من حيث إنه ينزل بالقدس من الله أي بما يطهر به نفوسنا من القرآن والحكمة والفيض الإلهي[1].
وذكر ابن زروق في مختصر المقصد الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى في معنى القدوس: فتح العبادة والسلامة من الآفات.
القدوس: فعول من القدس وهو الطهارة، ومنه قيل الأرض المقدسة يراد المطهرة بالتبرك، ومنه قوله عزل وجل حكاية عن الملائكة: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ (البقرة:30)، أي ننسبك إلى الطهارة، ونقدسك ونقدس لك، ونسبحك ونسبح لك بمعنى واحد[2].
القدوس:
هو المنزه عن كل وصف يدركه حس أو يتصوره خيال أو يسبق إليه وهم أو يختلج به ضمير أو يقضي به تفكير ولست أقول منزه عن العيوب والنقائص فإن ذكر ذلك يكاد يقرب من ترك الأدب فليس من الأدب أن يقول القائل ملك البلد ليس بحائك ولا حجَّام، فإن نفي الوجود يكاد يوهم إمكان الوجود وفي ذلك الإيهام نقص.
بل أقول القدوس هو المنزه عن كل وصف من أوصاف الكمال الذي يظنه أكثر الخلق كمالا في حقه لأن الخلق أولا نظروا إلى أنفسهم وعرفوا صفاتهم وأدركوا انقسامها إلى ما هو كمال ولكنه في حقهم مثل علمهم وقدرتهم وسمعهم وبصرهم وكلامهم وإرادتهم واختيارهم ووضعوا هذه الألفاظ بإزاء هذه المعاني وقالوا إن هذه هي أسماء الكمال وإلى ما هو نقص في حقهم مثل جهلهم وعجزهم وعماهم وصممهم وخرسهم فوضعوا بإزاء هذه المعاني هذه الألفاظ.
ثم كان غايتهم في الثناء على الله (تعالى) ووصفه أن وصفوه بما هو أوصاف كمالهم من علم وقدرة وسمع وبصر وكلام وأن نفوا عنه ما هو أوصاف نقصهم والله (سبحانه وتعالى) منزه عن أوصاف كمالهم كما أنه منزه عن أوصاف نقصهم بل كل صفة تتصور للخلق فهو منزه ومقدس عنها وعما يشبهها ويماثلها ولولا ورود الرخصة والإذن بإطلاقها لم يجز إطلاق أكثرها.
تنبيه:
قدس العبد في أن ينزه إرادته وعلمه، أما علمه فينزهه عن المتخيلات والمحسوسات والموهومات وكل ما يشاركه فيه البهائم من الإدراكات بل يكون تردد نظره وتطواف علمه حول الأمور الأزلية الإلهية المنزهة عن أن تقرب فتدرك بالحس أو تبعد فتغيب عن الحس بل يصير متجردا في نفسه عن المحسوسات والمتخيلات كلها ويقتني من العلوم ما لو سلب آلة حسه وتخيله بقي ريانا بالعلوم الشريفة الكلية الإلهية المتعلقة بالمعلومات الأزلية الأبدية دون الشخصيات المتغيرة المستحيلة.
وأما إرادته فينزهها عن أن تدور حول الحظوظ البشرية التي ترجع إلى لذة الشهوة والغضب ومتعة المطعم والمشرب والمنكح والملبس والملمس والمنظر وما لا يصل إليه من اللذات إلا بواسطة الحس والقلب بل لا يريد إلا الله (عز و جل) ولا يبقى له حظ إلا فيه ولا يكون له شوق إلا إلى لقائه ولا فرح إلا بالقرب منه ولو عرضت عليه الجنة وما فيها من النعيم لم تلتفت همته إليها ولم يقنع من الدار إلا برب الدار.
وعلى الجملة الإدراكات الحسية والخيالية تشارك البهائم فيها فينبغي أن يترقى عنها إلى ما هو من خواص الإنسانية والحظوظ البشرية الشهوانية يزاحم البهائم أيضا فيها فينبغي أن يتنزه عنها فجلالة المريد على قدر جلالة مراده.
ومن همته ما يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج منه ومن لم يكن له همة سوى الله (عز و جل) فدرجته على قدر همته ومن رقى علمه عن درجة المتخيلات والمحسوسات وقدس إرادته عن مقتضى الشهوات فقد نزل بحبوحة حظيرة القدس[3].
[1] مفردات الراغب الأصفهاني.
[2] اشتقاق اسماء الله، لأبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي، تحقيق عبد الحسين المبارك، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1406ھ/1986م، ط2، ص 214.
[3] المقصد الأسنى، الغزالي.