أ.د/ طه جابر العلواني
حين بدأنا ندعو في كل موقف لضرورة التدرب على تفسير القرآن بالقرآن؛ لتجنب مشكلات التفاسير الكثيرة باتجاهاتها المختلفة كنا نريد أن نصل إلى كسر حالة الهجر بين القرآن والأمَّة، وجعل الأمَّة قادرة على توثيق صلتها بكتاب ربها توثيقًا يحميها من آفات التفاسير المختلفة من آثاري مليئ بالموضوعات والمرسلات والمعلقات، وما لا يصح أن يفسر الكتاب به، من قصص وإسرائيليَّات وما إليها، وتفسير إشاري طافح بما يسميه أصحابه بالإشارات، وجلها إشارات غامضات لا يعرفها إلا أصحابها، وإذا أراد أحد أن يبينها أو يشرحها فإنَّه لا يزيدها إلا غموضًا بحيث لا تزيد متعاطيها إلا خبالًا أو ضلالًا، وآخر عقلي يحكِّم العقل في معاني آيات الله (تعالى)، وآخر لغوي يحكِّم لغة البدو وأفكارهم بمعاني الكتاب الكريم، وآخر انتقائي ينتقي الأحكام، أو القصص أو الأمثال أو المبهمات أو الاستعارات، أو ما إليها. وكل ذلك قد ينفع شرائح صغيرة من فصائل الأمَّة، لكنَّه أبعد ما يكون عن توثيق صلة الأمَّة بكتاب ربها، وجمع كلمتها عليه، وإنارة بصائرها وأبصارها به، والتعرض لنفحات الله ورحماته به.
ولذلك فبعد تجارب طويلة مليئة بالحيرة والحسرة والجهد الباذل والتضرع إلى الله (جل شأنه) أن يعلمنا أفضل السبل لإعادة الاتصال بين الكتاب الكريم وأمَّة الكتاب، توصلنا إلى أنَّ الحل الوحيد والدواء الناجع إنَّما هو الاعتماد على القرآن نفسه وأساليبه، ونظمه وعاداته، ومعاني مفاهيمه وكلماته، واستمداد ذلك كله منه، لما لا، وقد وصف الله (جل شأنه) هذا الكتاب بالبياني، والإبانة، فهو كتاب مبين، وآياته بينات، وأنزل ليبين للبشريَّة كلها الهدى والنور، كما يبين للمؤمنين به وللآخرين أكثر الذي هم فيه يختلفون، وأمَّا الأقل من المختلف فيه، فهو ذلك الذي سوف يبينه منزل القرآن (جل شأنه) للناس يوم القيامة، حيث ينبئهم بما كانوا فيه يختلفون، وبما لم يستطيعوا أن يزيلوا الاختلاف فيه بالآيات البينات المبينات، لأسباب عديدة.
الأعراض الجانبيَّة:
إنَّنا نعلم أنَّ ضعف الإنسان: ﴿.. وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ (النساء:28)، وقلة علمه: ﴿.. وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ (الإسراء:85)؛ يجعل لديه استعدادًا دائمًا لاختلاف الفهم وللاضطراب فيه، ولعل كثيرًا من الظواهر التي نشهدها ونستنكر كثيرًا منها ناجمة عن أنَّ الإنسان بطبيعته وبضعفه وقصور علمه ونسبيّته، لا يأخذ الدين كما هو، بل إنَّه في كثير من الأحيان يسيئ فهمه، فيأتي تدينه شائها، لا يرقى إلى مستوى صفاء دينه، فإذا جئت لنصوص الدين وخطابه تجد الطهر والصفاء والنقاء ماثلة في كل جانب من جوانبه، فإذا نقلت ناظريك إلى تدين الناس به وجدت العجب العجاب من سوء الفهم واختلافهم في التدين، واضطرابهم فيه، فلو أنَّ الناس استقاموا على الطريقة التي جاء الدين بها ولم يغيروها أثناء تدينهم بالدين، ولم يضفوا عليها من ضعفهم وقلة خبراتهم واضطراب تجاربهم واختلافها؛ لما احتاج الإنسان إلى تتابع النبوات والرسالات، والتجديد المستمر، لتمكين الإنسان من حسن التدين والاستقامة على الطريقة التي جاء الدين بها.
ومبدأ تفسير القرآن بالقرآن، مبدأ سامي وفكرة متميزة، بل عبقريَّة، تمثل أدق وأسلم طرق اتباع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في قراءة القرآن الكريم، وتلاوته حق التلاوة، لكننا بدأنا نفاجأ بتهجم الكثيرين على القرآن الكريم بمنطق عقلي لاستخلاص معان لم يأتي القرآن بها، لكنَّهم نسبوها إلى القرآن المجيد؛ لأنَّهم لم يدخلوا إلى رحابه بنور آياته، فلم يفسروا القرآن بالقرآن، بل فسروا القرآن بالمنطق العقلي، كما يقول الشاطبي (المتوفى يوم الأحد بعد صلاة العصر، الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة تسعين وخمسمائة) وغيره.
وكنا قد نبهنا منذ البداية بأنَّ تفسير القرآن بالقرآن يتوقف على تجرد الإنسان من أيَّة أفكار مسبقة أو مؤثرات تؤثر عليه وهو يتناول آية أو سورة ليفسرها بآيات أو سور أخرى، المفروض أن يدخل الراغب بممارسة هذا الاتجاه في التفسير مجردًا من كل الأحكام المسبقة، والمؤثرات الخارجيَّة أيًا كانت، سواء أكانت من المجتمع، أو البيئة، أو اللغة، أو المعارف، والعلوم السائدة، أو الثقافات المنتشرة؛ لأنَّ القرآن في هذه الحالة سوف ينكمش ولا يعطي من نفسه ولا من كرمه ما يريده أو يتوقعه طالب التفسير، فالمفروض أن يأتي إليه خِلوًا من أي شيء، لينال من كرمه، وليطمع في عطائه ومدده: ﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ (الإسراء:20).
معوقات التدبر:
وقد ذكرنا أكثر من مرة وفي أكثر من دراسة ومقالة أنَّ التهجم على القرآن بدون ضوابط إلا بمنطق الإنسان العقلي -سواء أكان صاحب عقل فطري أو علمي أو فعَّال أو خامل أو أي نوع من أنواع العقل- لو تدخل خارج إطار التدبر بمفهومه القرآني ومعناه فإنَّه في هذه الحالة سوف يفسد الأمر كله، ولن ينال من كرم القرآن الكريم ما يناله المتجرد المفتقر القادم إليه بكل تواضع وإيمان ويقين، وحب طامع في نواله، حريصًا على عطائه، وطلبنا ممن يريد ممارسة هذه التجربة أن يتحلى بضوابط عديدة في مقدمتها ذلك التجرد الذي ذكرناه، ثم تطهير قوى وعيه تطهيرًا تامًا بالقرآن نفسه.
وقوى الوعي هي المذكورة في قوله تعالى: ﴿.. إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ (الإسراء:36)، فآفة السمع (الوقر) ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾ (فصلت:5)، والوقر هو مرض معنوي ومادي، أمَّا المادي فلسنا بصدد معالجته، فذلك شأن أطباء الأذن والأنف والحنجرة، أمَّا ما نريد معالجته بالقرآن المجيد فهو الوقر المعنوي، والوقر المعنوي آفة تحول بين الأذان مهما كانت درجة صحتها وقوتها والاستماع الحسن لآيات الكتاب، وفهم وتدبر معانيه؛ ولذلك فلابد من إزالة هذا النوع من الوقر، قبل الاستماع لآيات الكتاب الكريم، والوقر المعنوي يصيب حاسة السمع إذا أكثر الإنسان من الاستماع إلى الكذب، وقالة السوء، والغيبة، والنميمة، والكلام الفاحش السيئ، والغناء المغري بالمعصية، وكلمات التحريض على الرذائل، والدعوات والشائعات الصادرة عن أولئك الذين يريدون أن تشيع الفاحشة في مجتمعات أهل الإيمان.
كل هذه الممارسات تؤثر وتوجد وقرًا معنويًّا في الأذان يحول بينها بعد ذلك وبين الاستماع إلى القول الحسن، فبدلًا من أن تفيض عيونهم بالدمع وهم يستمعون إلى آيات الله تتلى عليهم يستمعون إليها وهم لاهون ساهون، غافلون أو معرضون، فهم لا يستمعون القول إلا وهم يلعبون، لاهية قلوبهم، وفي هذه الحالة لا يكون في مقدورهم أن يتبعوا أحسنه، لأنَّ الوقر المعنوي يدمر القدرة على التمييز بين ما هو سيئ وما هو حسن، فتختلط عندهم الأمور وتلتبس السبل، وقد يتساوى عند هؤلاء الصدق والكذب، والحق والباطل، والصلاح والفساد، وذلك يعني أنَّ عقل الإنسان ودماغه وقلبه يصيبه مثل ذلك، وهنا يتحول الإنسان إلى مخلوق آخر، وقد يقال له: اسمع وأطع. فيقول: سمعنا وعصينا.
فإذًا لابد من مقاومة هذا الوقر، وأخذ النفس بالشدة، ومنعها من الاستماع إلى اللغو، ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ (القصص:55)، ومنه الذنوب المسموعة كالاستماع إلى الغيبة وإن لم يشارك فيها، والنميمة، والكذب، والحسد، والدعاوى إلى الفحشاء، والتحريض عليها، فكيف بكلمات الكفر والفسق والاتهامات الكاذبة لهذا وذاك، إنَّها تدمر السمع، وتجعله مهيئًا لأن يسلك في عداد الذين لا يسمعون، والإنسان الذي يفقد السمع فقد نصف ذاته -والعياذ بالله.
والحاسة الثانية التي تحتاج إلى تطهير وتنقية ووقاية وحفظ هي البصر، فالبصر تصيبه الأمراض العضويَّة من عمى وعور وعشى وضعف وبعد النظر وقصر النظر ويقابل هذه الأمراض كلها أمراض معنويَّة موازية، فهناك أمراض معنويَّة تساوي العمى، وأخرى تساوي الرمد والعور والعشى وغيرها من أمراض، يعرفها أطباء العيون، أمَّا ما نتكلم عنه فهو النظر المؤدي إلى الاعتبار. فالنظر السليم الذي لم يصب بالأمراض المعنويَّة يستمتع بالحياة، فيرى في مخلوقات الله فوائد حسيَّة وزينة، ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (النحل:8)، ويرى في الشجر والنبات والحدائق والجنات البهجة، ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ (النمل:60)، حدائق ذات بهجة تبعث في النفس سرورًا ناجمًا عن الاعتبار بها، وكونها تعرف بمن خلقها، وتدل على وجوده (سبحانه)، وسابغ نعمه، وكمال فضله، فهو يقرأ في الكتب أفضل القراءات وأحسنها، يقرأ في كتاب الله، ويقرأ فيما خلق الله، إنَّه قارئ مستمر، والقراءة في هذه الحالة في الخلق والكون أو في الوحي ثم الكتب وما سطرته الأقلام عبر تاريخ البشريَّة يكتسب منها دروسًا وعبر، ومواعظ وبصائر تنمي خبراته، وتزيد تجاربه، ويستعين بها على اكتشاف الأرض وما فيها، ﴿وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ (الشمس:5-8)؛ فيصل بذلك إلى الثلج، وبرد اليقين، والإيمان برب العالمين، فإذا رأى خيرًا قال ما شاء الله لا قوة إلا بالله، وحاول إنماءه وزيادته، وإذا رأى غير ذلك أنكره وحاول إبعاده عن نفسه وعن غيره، لتستقيم الحياة، فهو يميط الأذى عن الطريق ويمهد للناس السبل، ويمشي في الأرض هونا، لا يريد علوًا في الأرض ولا فسادًا، وهو يتحرى التقوى، ويبحث عنها، فإذا أصيب البصر بالعمى فلم يهده ذلك إلى الله ولم يعرف به ربه وإلهه وخالقه ولم يدرك به صفاته (جل شأنه) فهو الأعمى: ﴿وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً﴾ (الإسراء:72)، ولذلك يقول (جل شأنه): ﴿وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا﴾ (الفرقان:40).
آنذاك يصبح هذا البصر عبارة عن حدقة تدور في محجر العين لا ترى إلا مثل ما ترى البهيمة من المرعى أو المكان القاحل الذي لا مرعى فيها، ﴿.. فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحج:46)، فالعمى سوف ينتقل من الأبصار إلى القلوب؛ لأنَّ القلوب تفقد مع بصر كهذا مصدرًا من مصادر معرفتها، فتعمى هي الأخرى، وتتعطل عن العمل، فأنى لها –آنذاك- أن تدرك آيات الله، وتعلم عظمتها، وما تحمله من نور وهداية؛ ولذلك قال (جل شأنه): ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ (الزخرف:36)، فمجرد العشو وهو ضعف البصر وعجزه عن تمام الإبصار ليلًا يجعل من ذلك الإنسان فريسة سهلة من فرائس الشيطان، فإذا تعطلت الأبصار عن التعامل مع كتاب الله ورؤية آياته بعيون طاهرة لم تصب بأي مرض من الأمراض التي تجعلها كليلة عن إبصار بصائر القرآن والاتصال بأنوار آياته، وأسرارها، فإنَّها والحالة هذه ستكون عاجزة عن نقل شحنات التأثير القرآني إلى القلب والدماغ، لأنَّ هذا القرآن المجيد حين نزل على المتلقي الأول (صلى الله عليه وآله وسلم) نزل على قلبه، ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾ (الشعراء:192-194).
وأمَّا الفؤاد فإنَّ أخطر أمراضه الأكنَّة، أي الأغلفة التي قد تغطيه وتكنه، وتجعله كأنَّه في كن أي صندوق أو حاجز يسيطر عليه، ويحول بينه وبين الاتصال بأشعة القرآن المجيد وأنوار آياته. وأمراض القلوب التي تفعل فيها هذا الفعل كثيرة جدًا، وأهمها الذنوب، فالله (تبارك وتعالى) يقول عن الكافرين: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (المطففين:14)، والرين يتكون من نقط حاجبة مانعة، بحيث كلما أذنب العبد ذنبًا ولم يتب نكت على قلبه بنكتة حاجزة مانعة هي نكتة معنويَّة، لا ترى بالمجاهر والأعين الماديَّة، فإذا تكاثرت هذه النقاط التي هي آثار الذنوب غلفت القلب، وحالت بينه وبين تسلم إشارات القرآن وإشعاعاته، وذلك قوله (جل شأنه): ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (المطففين:14).
فإذا تاب الإنسان توبة نصوح جلى الله قلبه وفؤاده، وصار آنذاك مبصرًا، قادرًا على استقبال إشعاعات القرآن المجيد، وأنواره؛ ولذلك قال المشركون لسيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾ (فصلت:5)، وهذه الأكنَّة أمراض قلب خطيرة، عبَّر عنها المشركون أنفسهم بأنَّها حجاب ﴿.. وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾ (فصلت:5).
وأمراض القلوب كثيرة جدًا، ذكر القرآن أهمها، وكان سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتفقدها في الناس، وينبه إلى خطرها، والنفاق ما هو إلا مرض من أمراض القلوب الشائعة المعروفة، وهو خطر جدًا، والذي يغذي أمراض القلوب أفكار منحرفة، وتصورات خاطئة، ومعتقدات زائفة باطلة، فما لم يتخلص الإنسان من هذه الأمراض فليس من السهل أن يعقد صلة وثيقة بينه وبين القرآن المجيد، أو يفهمه أو يقتبس من أنواره.
هذه أمور لابد للمقبل على القرآن المجيد، الراغب في تدبره، الصادق في العودة إليه، وتجاوز حالة الهجر، من معالجة نفسه حتى يشفى شفاءً تامًا من سائر تلك الأمراض، ويطَّهر منها، فإنَّ هذا القرآن ﴿لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ (الواقعة:79)، أمَّا من لم يفعل ذلك ولم يوفق في التطهر من هذه الأمراض، وسائر ما يتصل بها، فإنَّه لا أمل له في أن يعرج إلى علياء القرآن المجيد.
أمَّا كيفيَّة التطهر من ذلك فتفاصيلها في كتاب الله، وفي هدي سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومنهجه في تعليم الناس القرآن، وشفاء أمراض قلوبهم به، فقد جاهد الناس به جهادًا كبيرًا، حتى خشعت جوارحهم، وطهرت قلوبهم، ولانت عرائكهم، وصاروا من أولئك الذين إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا، وعلى ربهم يتوكلون، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ (الأنفال:2)، وصاروا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واستطاعوا الخروج من كل تلك الحجب التي كانت تحجبهم عن آيات الله، وتعلموا منه (صلى الله عليه وآله وسلم) حكم القرآن وأحكامه، وبحكم القرآن كانوا يستردون عافيتهم، فمن فعل فاحشة أو ظلم نفسه؛ أقبل على الله يستغفره، ويتوب إليه: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (آل عمران:135)، وفي عهده (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا يذهبون إليه وكلهم ندم وتوبة ورجوع إلى الله وفيهم نزل قوله (جل شأنه): ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾ (النساء:64).
بعد التطهر من هذه الأمراض بشكل كامل لابد من اتقان لسان القرآن المجيد، ومعرفة نظمه، وأسلوبه، وعاداته في التعبير، وتحديه للخلق كافَّة أن يأتوا بمثل سورة من سوره، فذلك كله إضافة إلى سائر أسماء القرآن وصفاته يشكل مقدمة أخرى لابد لمن يريد الولوج إلى رحاب القرآن المجيد أن يمهر فيه، ويكون على قدرة تامَّة في معرفة القرآن الكريم معرفة شاملة من هذه الزاوية، وإلا فإنَّه قد يخطئ في الوصول إلى إدراك معانيه من داخله، أو معرفة أساليبه في التعبير عن سائر القضايا التي تناولها، وأنَّه إنَّما نزل على قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليفهم ويعرف، ولفهمه ومعرفته مداخل ومنطلقات وأساسيَّات لابد من استيفائها.
ولقد نزل القرآن الكريم بلغة العرب لكنَّه استوعبها وتجاوزها وصدق على ما استعمله منها، وأعطاها معاني أرادها هو (جل شأنه)، فحينما تنظر في سائر المصطلحات القرآنيَّة أو المفاهيم تجد مفهوم الصلاة والزكاة والحج والإيمان والكفر والشرك والنفاق والربا والبيع والشراء وما إلى ذلك، كل تلك المفاهيم تجدها قد تم تفريغها من معانيها العربيَّة الخاصَّة، واستيعابها في المعاني التي أعطاها القرآن إياها، فالصلاة كانت عند العربي الانتصاف والقيام، كما قول الأعشى (ت:625م):
فصلى على دنها وارتسم.
أي وقف وارتسم على دن الخمر، وإذا تجاوزوا هذا المعنى فإنَّهم لا يريدون بها إلا الدعاء، ويعبرون عن هذا الدعاء بطرقهم المختلفة؛ ولذلك قال (جل شأنه): ﴿وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ (الأنفال:35)، فسموا الصفير والتصفيق صلاة لأصنامهم، ولكن الشارع الحكيم حين استعمل الصلاة باعتبارها مفهومًا قرآنيًّا أعطاها معاني جديدة جدًا، الدعاء ليس إلا واحدًا منها، فيقول القرآن: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (الحج:77)، ويقول: ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ﴾ (البقرة:238)، ويقول: ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ (الإسراء:78)، ويقول: ﴿.. فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ..﴾ (المزمل:20)، ﴿.. فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ..﴾ (المزمل:20)، ويقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (المائدة:6).
وبذلك أصبح هذا اللفظ –الصلاة- يشتمل على توفير شروط سابقة وهي طهارة الثوب والمكان والجسم ثم استقبال قبلة وتوفير شروط وتكبير وقراءة وركوع وسجود وتشهد وقنوت وخشوع ودعاء، كما يبين وظيفة الصلاة في حياة الإنسان فيقول: ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ (البقرة:45).
فلو أنَّنا تمسكنا بأنَّ القرآن عربي، والصلاة لا تعني في اللغة العربيَّة في عصر التنزيل إلا الوقوف والارتسام والدعاء؛ فإنَّنا في هذه الحالة نكون قد جهلنا الصلاة. والزكاة كانت في لسان العرب تعني النماء والكثرة، وحين يستخدمها القرآن الكريم تتحول إلى مفهوم واسع يتناول كل ما يتعلق بالمال وفقه الملكيَّة وفلسفتها: ﴿.. وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ (الحديد:7)، ويحولها إلى حق للسائل والمحروم، ويحددها بمقادير معينة، ﴿.. وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ..﴾ (الأنعام:141)، ويحدد الذين يستحقون الزكاة، والذين لا يستحقونها، إلى غير ذلك مما نجده في الكتاب الكريم.
ويقال مثل ذلك في الربا؛ ولذلك قالت يهود وغيرها: ﴿قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (البقرة:275)، ففرَّق القرآن وميَّز بينهما بقوله: ﴿.. وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ..﴾ (البقرة:275) ينبه إلى جهل هؤلاء بحقيقة الربا وحقيقة البيع في الوقت نفسه. ونستطيع أن نأتي بسائر مفاهيم القرآن كأمثلة وشواهد تؤيد دعوانا التي ذكرناها، ولا تدع أي مجال للشك، بأنَّ القرآن المجيد لا ينبغي أن يخضع إخضاعًا تامًا للسان العرب، بل لابد من إدراك الفرق بينه وبين لسان العرب المعروف.
وتعليم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس هذا قد اشتهر عنه بين الصحابة، فلذلك كان يسائلهم أحيانًا كما في حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): “أتدرون مَن المُفلِسُ؟ قالوا: المُفلِسُ فينا يا رسولَ اللهِ مَن لا درهمَ له ولا متاعَ له. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: المُفلِسُ مِن أمَّتي مَن يأتي يومَ القيامةِ بصلاتِه وصيامِه وزكاتِه وقد شتَم هذا وأكَل مالَ هذا وسفَك دمَ هذا وضرَب هذا فيقعُدُ فيُعطى هذا مِن حسناتِه وهذا مِن حسناتِه فإنْ فنِيَتْ حسناتُه قبْلَ أنْ يُعطيَ ما عليه أُخِذ مِن خطاياهم فطُرِحت عليه ثمَّ طُرِح في النَّارِ”[1] ويعطيهم معاني أخرى وفقًا لما وجه القرآن إليه، وآنذاك تكون لغة العرب بمثابة وسيط أو مترجم عن معاني القرآن الكريم لأهل عصر التنزيل، ولو أنَّ لسان القرآن المجيد كان منطلقًا من لسان العرب بشكل تام كامل باللفظ والمعنى لما كانت هذه المعاني قائمة.
علماء الأصول بين لسان القرآن ولسان العرب:
لذلك وجدنا الأصوليين الذين أخذوا بعموم ما ورد من آيات في عربيَّة القرآن المجيد: ﴿وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا﴾ (طه:113)، ﴿قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ (الزمر:28)، ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (فصلت:3)، ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ (الشورى:7)، ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (الزخرف:3)، ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾ (الشعراء:193-195)، وظنوا أنَّهم يستطيعون أن يجعلوا العربيَّة التي كانت يتحدث بها أهل عصر التنزيل مرجعًا أوحد لفهم القرآن المجيد، دون التفات إلى تميز لسانه عن لسان العرب، ومعرفة أين ينفصل وأين يتصل باللسان العربي، وأين ينفصل عنه ويمتاز؛ اضطروا إلى أن يقولوا بأنَّ هناك حقائق لغويَّة وحقائق شرعيَّة، وطردوا ذلك في مسائل كثيرة؛ لذلك كتبنا دراستنا عن لسان القرآن، وهي دراسة موجزة أردنا بها التنبيه إلى هذه القضيَّة الخطيرة، وهي قضيَّة التفريق بين لسان القرآن واللسان العربي المعتاد.
فلسان القرآن لسان مبين، تحمله آيات بينات ومبينات، ولا يمكن وصف كلام العرب كله بالإبانة، وهو تبيان لكل شيء، ولا يوصف كلام العرب بذلك، وإذا كان ما ذكرناه يتناول العربيَّة كما كانت في عصر التنزيل فما بالك بعربيَّة الناس اليوم، التي امتزجت بالعجمة، وطفحت بالكلمات المستعارة من مختلف اللغات، وسادتها التحريفات في المعاني وفي غيرها، وهي التي يتكلم بها وبلهجاتها الناس اليوم، فهي لهجات يستنكرها العربي ولا يفهمها الأعرابي والذي لا يملك إلا هذا النوع من العربيَّة القائمة على اللهجات العربيَّة، فأنَّى له أن يتفهم القرآن المجيد ويدرك لسانه ويقف على معانيه، بهذه اللهجات الكليلة العليلة؟!.
ولذلك فإنَّنا في حاجة إلى أن ندرك هذا الأمر إدراكًا سليمًا، والأصوليون كان عليهم بدلًا من اللجوء إلى أحكام بنيت انطلاقًا من عربيَّة القبائل العربيَّة في عصر التنزيل وما بعده، كان عليهم أن ينطلقوا من لسان القرآن في وضع القواعد والمنطلقات الأساسيَّة، وإدراك الفروق الدقيقة بين لسان عربي موصوف بالإبانة، والإبانة شرط فيه، ولسان عاطل عن الوصف، قد يكون مبينًا وقد يكون غير مبين، وقد يعتريه الإجمال وقد يطرأ عليه البيان، لو فعلوا ذلك لتغير حال الفقه وأصوله، ولوفروا على الأمَّة مشكلات عديدة جاءت من ربط لسان القرآن، فمثلَّا يقول الأصوليون بأنَّ الخطاب –دون أن يفرقوا بين خطاب القرآن وغيره-: هو اللفظ المتواضع عليه، المقصود به إفهام من هو متهيئ لفهمه.
وهم بذلك لا يبدوا أنَّ القرآن المجيد كان في أذهانهم؛ لأنَّهم استخدموا لفظ المتواضع عليه، أي الذي اتفق عليه المخاطِب والمخاطَب، وقد عمدوا بعد ذلك انطلاقًا من هذا التصور إلى الكلام عن فهم الخطاب من قبل المخاطَب وقدرته على ذلك الفهم، وأهليته للفهم، وعوارض الأهليَّة، ولما جاؤوا إلى مباحث أخرى في قضايا الأحكام اضطروا للكلام عن الرخص والعزائم، والتفريق بين الأحكام التي راعى فيها الخطاب الشرعي أحوال المكلفين والتي لم يراعها الخطاب، تأثرا في ذلك بتعاريف البلاغيين وغيرهم من المتصلين بقضايا اللغة.
والقرآن المجيد معروف بأنَّ خطابه أعلى أنواع الخطاب التي راعت مقتضى الحال، وأحوال المكلفين، فجاءت في سياقات وقرائن تنبه إلى ذلك، ولعل قوله (جل شأنه): ) ﴿يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (النساء:26)، ﴿يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ (النساء:28)، وقوله (تعالى): ﴿.. هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ..﴾ (الحج:78)، فكل الظروف والملابسات والمتغيرات الزمانيَّة والمكانيَّة لاحظها الخطاب القرآني، ولاحظ الظواهر المتكررة منها في سائر أحوال البشر، ومهما اختلفت أزمانهم وأماكنهم، والظواهر التي لا تتكرر؛ ولذلك كنا نجد خطابه ينبه إلى تلك الأمور، ويصدق ويهمن على ما مضى، ويستوعب ويتجاوز كل ما يأتي.
فخطاب القرآن المجيد كان أعلى مستوى من أي خطاب آخر في مراعاة مقتضى الحال، واستيعاب حال السامع؛ ولذلك ينبه الله (جل شأنه) بقوله: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأعراف:52)، فهو مفصل على علم الله (جل شأنه)، وإذا كان البلغاء قد قالوا في المتكلم البليغ: “ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين وبين أقدار الحالات، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلامًا، ولكل حالة من ذلك مقامًا، حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات”[2]. فإن الخطاب القرآني قد استوعب سائر المقامات، مقامات المخاطبين.
ويقول الإمام الغزالي (ت:505ﻫ): “إنَّ قصد الاستغراق يعلم بعلم ضروري، يحصل عن قرائن أحوال، ورموز، وإشارات، وحركات من المتكلم، وتغيرات في وجهه، وأمور معلومة من عادته ومقاصده، وقرائن مختلفة لا يمكن حصرها في جنس، ولا ضبطها بوصف، بل هي كالقرائن التي يعلم بها خجل الخجل، ووجل الوجل، وجبن الجبان، وكما يعلم قصد المتكلم إذا قال: السلام عليكم أنَّه يريد التحية، أو الاستهزاء، واللهو، ومن جملة القرائن فعل المتكلم، فإنَّه إذا قال على المائدة: هات الماء، فهم أنَّه يريد الماء العذب البارد –للشرب- دون الحار الملح”[3].
فالغزالي هنا وفي كتابه الأصولي هذا واضح أنَّه لا يتحدث عن خطاب الله (جل شأنه) في القرآن الكريم؛ لأنَّه يتحدث عن العوامل المؤثرة في فهم الخطاب، وعن حال المتكلم ومقاصده، والقرائن التي تحف بالخطاب نفسه.
وحين نتجاوز الغزالي إلى الفخر الرازي (ت:606ﻫ) وسواه لنصل إلى الشاطبي (ت:790ﻫ)، نجد الشاطبي يتحدث عن أسباب النزول في القرآن، وأثرها في الكشف عن معنى النص، فيقول: “معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن”، ويقول بعد ذلك مبينًا أثر علم المعاني والبيان في هذا المجال، فيقول: “أحدهما: أنَّ علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن فضلًا عن معرفة مقاصد كلام العرب إنَّما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال، حال الخطاب من جهة نفس الخطاب، أو المخاطِب أو المخاطَب أو الجميع؛ إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين، وبحسب مخاطبين، وبحسب غير ذلك، كالاستفهام لفظه واحد ويدخله معان أخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك، وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز، وأشباهها، ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة وعمدتها مقتضيات الأحول”[4].
فالدراسات الأصوليَّة للخطاب القرآني اتجهت نحو البحث عن إفادة المعنى الذي يؤخذ من آيات الكتاب وكيفيّتها، فكان سؤالهم الأساس هل يفيد المعنى الكامن في الخطاب القرآني استقلالًا؟ أو أنَّه لا يفيد إلا إذا اقترن بقرائن تبين دلالاته؟ وآنذاك يحتج به على المدلول، واستثنوا آيات قليلة من آيات الأحكام التي تفيد معانيها استقلالًا دون حاجة إلى قرائن، وسموا هذا النوع بالنص، والنصَّ –في اصطلاح علماء أصول الفقه-: “هو اللّفظ الذي لا يحتمل غير معنى واحد”[5]، فسموا هذا النوع بالنص، وألحقوا به ما أطلقوا عليه الظاهر، فالنص عندهم ما يدل على المعنى استقلالًا وبدون أي احتمال، وأما الظاهر فقد يوجد فيه احتمال ولكنَّه احتمال مرجوح، وآنذاك يبحث عما وضع له اللفظ في الأصل، ليكون مدلوله حقيقة، ودلالاته على غيره من قبل المجاز.
وهنا نستحضر ما ذكره الإمام الرازي في المحصول في مباحث اللغات والجدل[6] الذي أثاروه حول ما إذا كانت اللغات توقيفيَّة أو وضعيَّة، وهو جدل ما كان ينبغي أن يثيره أحد فيما يتعلق بالقرآن المجيد، فكل لفظ في القرآن المجيد مضاف إلى الله (جل شأنه): ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (الأنعام:115)، فهذا الجدل عقيم فيما يتعلق بالقرآن، وقد أوصل بعض الأصوليين ومنهم الرازي إلى موقف خطير، وهو القول: بأنَّ دلالات الألفاظ دون استثناء -فهم لم يستثنوا القرآن الكريم من قاعدتهم هذه- تعتبر ظنيَّة الدلالة؛ لأنَّ ناقلي لغات العرب مثل الأصمعي (ت: 216ﻫ) وابن سلام (ت:232ﻫ) ومن كانوا يستشهدون به من الأعراب وشعرهم ونثرهم كله ظني، وقد نقل إلينا بطرق ظنيَّة، وهذا كلام خطير نجم عن عدم التفريق بين لسان القرآن المجيد الموصوف مطلقًا بالإبانة فهو مبين وبين وآياته بينات ونزله الله تبيانًا لكل شيء، ولسان العرب والبادية وقبائلهم.
والقرآن المجيد ابتلي بعد ذلك نتيجة ذلك الجدل بتلك القواعد التي نراها في كتب الأصوليين، من ادعاء وجود المجملات، ويريدون به ما يحتاج إلى البيان ويتوقف عليه، والمؤلات، والمطلق والمقيد، وما إلى ذلك مما بنيت عليه أصول الفقه، وتفرعت عن تلك القواعد أقوال الفقهاء.
وزعم الأصوليون أنَّ القرائن التي يحتاجها الخطاب القرآني ليفهم إن لم يكن نصًا في مفهومهم للنص إلى قرائن سمعيَّة من داخل القرآن، أو تكون واردة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد تكون قرائن أحوال صدرت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من إشارات ورموز وحركات وسوابق ولواحق كثيرة، يخلص القارئ أو السامع بإدراكها إلى فهم الخطاب.
ولنا أن نتساءل: إنَّ كل ما ذكروه من هذه القرائن إنَّما يستفيد بها من شاهدوها، أمَّا من لم يشاهدها فلا يستفيد بها، وبالتالي قد تتعطل آيات كثيرة بناء على مثل هذه القواعد التي كانت تحتاج إلى عناية أكبر في التفريق بين الخطاب القرآني وغيره، وفهم أكبر لتحدي القرآن للخلق، ودلالاته وما يعطيه، وقد يناقض بعض الأصوليون أنفسهم حين يؤكدون على ضرورة فهم الخطاب القرآني ثم النبوي في ضوء معهود العرب للسانها في عصر النص ونزوله، وبعد ذلك حتى نهاية عصر الاستشهاد اللغوي.
وهنا لابد لنا من الرجوع إلى الإمام الشافعي (ت: 204ﻫ) جامع قواعد الأصول والكاتب فيها، فقد كان من أوائل من أكَّد على هذا المعنى، حيث قال: “فإنَّما خاطب الله في كتابه العرب بلسانها، على ما تعرف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها، وأنَّ فطرته أن يخاطب بالشيء منه عامًا ظاهرًا يراد به العام الظاهر ويستغنى بأول هذا منه عن آخره، وعامًا ظاهرًا يراد به العام، ويدخله الخاص، فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه، وعامًا ظاهرًا يراد به الخاص وظاهر يعرف في سياقه أنَّه يراد به غير ظاهره فكل هذا موجود علمه في أول الكلام أو وسطه أو آخره”[7].
قلت وجاء الرازي وابن تيمية (ت: 728ﻫ) بعد ذلك وأضافوا الكثير، وسبقهم الغزالي وإمام الحرمين (ت: 478ﻫ)، وأبواب اللغات في البرهان وفي المستصفى حافلة بأقوال مماثلة لهذا، لكن الشاطبي في الموافقات تجاوز الجميع عندما أكد على أنَّ من المسائل اللازمة لفهم الخطاب –أي القرآن- على الوجه الصحيح استحضارًا للسان العربي لدى كل تأويل وفهم للقرآن، فالقرآن نزل بلسان العرب، ووجب فهمه وفق سننها في القراءة والتأويل[8].
وحذر -وهذه نتفق معه تمامًا عليها- من أنَّ كثيرًا من الناس يأخذون أدلة القرآن بحسب ما يعطيه العقل فيها، لا بحسب ما يفهم من طريق الوضع، وفي ذلك فساد كبير، وخروج عن مقصود الشارع.
ويرى الأصمعي أنَّ العرب يعدلون أحيانًا عن استخدام ألفاظ، وقد يستعملون أضدادها لأغراض أخرى، فقد يطلقون على الصحراء المفازة، تفاؤلًا بأنَّهم سوف يقطعونها دون أن يصيبهم ضرر، ويطلقون على اللديغ السليم، وعلى الأعمى البصير، تفائلًا ودرءًا لألفاظ قد تثير تشاؤمًا أو إحباطًا، وقد يطلقون أسماء على أشخاص درءًا للحسد الذين كانوا يؤمنون بتأثيره، فنسمعهم يسمون الصبي الذي يخافون عليه من الحسد بأسماء رديئة مثل جدالة أو جرو[9].
ويقول الجاحظ (ت: 255ﻫ): فللعرب أمثالٌ واشتقاقاتٌ وأبِنية وموضعُ كلام يدُلُّ عندهم على معانيهم وإرادتهم ولتلك الألفاظ مواضعُ أُخَرُ ولها حينئذ دَلالات أخر فمن لم يعرفْها جَهِل تأْويل الكتابِ والسُّنَّة والشاهد والمثلِ فإذا نظَر في الكلام وفي ضروب من العلم وليس هو من أَهل هذا الشأن هلك وأَهلك[10].
وأحيانًا يرى بعض الأصوليين ضرورة ربط فهم الخطاب القرآني بمعرفة السائل من الخطاب المستقل إذا جاء الخطاب جوابًا عن سؤال، كما في قوله تعالى: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ (يوسف:82)، فالسائل هنا يعرف أنَّ المراد بالقرية أهلها لا حجارتها.
ولعل علماء البلاغة والمعتزلة كانوا أقرب إلى فهم الفرق بين الخطاب القرآني وبين أي خطاب آخر؛ ولذلك اشتد خلافهم مع الأشاعرة وغيرهم في تحديد الواجب الأول على المكلف، فذهب المعتزلة أو جمهرتهم إلى أنَّ أول واجب على المكلف معرفة الله (تبارك وتعالى)، كما عرف نفسه في كتابه وعلى لسان نبيه، وآثارها المتمثلة بتحدي الله (جل شأنه) الخلق كافَّة بهذا القرآن، نظمه المعجز، فمقصود الخطاب يدرك بعد معرفة الله (جل شأنه)، وهذه المعرفة بالله (تبارك وتعالى) هي التي تساعدنا في تحديد دلالة الخطاب القرآني، يقول أبو الحسين البصري (ت: 436ﻫ): ” وأمَّا حال المتكلم فهي حكمته، والحكمة إمَّا أن تثبت لأنَّ الحكيم عالم غني، وإمَّا لأنَّه معصوم من الخطأ كالنبي والأمَّة، ويجب أن نعرف حكمه المتكلم ليصح أن نعلم ما يجوز أن يقوله ويريده وما لا يجوز أن يريده ويقوله، ولا يصح المعرفة بحكمة الله إلا مع المعرفة بذاته وصفاته، ولا يصح المعرفة بحكمة النبي إلا مع المعرفة بكونه نبيًا، وإنَّما يعلم عصمة الأمَّة إذا عرف أنَّ الله ورسوله قد شهد بعصمتها”[11].
وقد صرح القاضي عبد الجبار (ت: 415ﻫ) بأنَّ معرفة حال الشارع قرينة لا لتحديد دلالة الكتاب فحسب، بل للحكم بصحته وصحة نسبته لله (تعالى)، فصحة القرآن المجيد لا تعلم إلا بعد معرفة الله (تعالى)؛ لأنَّ الخبر عنده لا يعلم بصيغته أنَّه صدق أو كذب ما لم تعلم حال المخبر، فالعلم بصحة خطابه (تعالى) يفتقر إلى العلم بأنَّه لا يختار القبيح، والعلم بأنَّه لا يفعل ذلك يتعلق بصفاته الذاتيَّة ومفارقتها للفعل، ولابد أن تقدم ذلك ليصح من بعد أن يعرف أنَّ كلامه (عز وجل) صحيح، وأنَّ الاحتجاج به ممكن”[12].
ثم صرح على أنَّ المعرفة بدلالة القرآن لا تعلم إلا بعد المعرفة بحاله (سبحانه)، وذلك لأنَّ الكلام عنده لا تكمن دلالته في أمر يرجع إليه، وإنَّما تعرف بمعرفة حال قائله؛ ولذلك لم يدل كلام النبي (عندهم) على الأحكام إلا بعد العلم بأنَّه رسول حكيم، ولم يظهر المعجز عليه إلا لكونه صادقًا في جميع ما يؤديه”[13].
أمَّا ابن تيمية فيتحدث عن موضوع حال المتكلم والمستمع فيقول: “وَالْحَالُ حَالُ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُسْتَمِعِ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ فِي جَمِيعِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ إذَا عُرِفَ الْمُتَكَلِّمُ فُهِمَ مِنْ مَعْنَى كَلَامِهِ مَا لَا يُفْهَمُ إذَا لَمْ يُعْرَفْ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يُعْرَفُ عَادَتُهُ فِي خِطَابِهِ، وَاللَّفْظُ إنَّمَا يَدُلُّ إذَا عُرِفَ لُغَةُ الْمُتَكَلِّمِ الَّتِي بِهَا يَتَكَلَّمُ وَهِيَ عَادَتُهُ وَعُرْفُهُ الَّتِي يَعْتَادُهَا فِي خِطَابِهِ، وَدَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى دَلَالَةٌ قَصْدِيَّةٌ إرَادِيَّةٌ اخْتِيَارِيَّةٌ، فَالْمُتَكَلِّمُ يُرِيدُ دَلَالَةَ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى؛ فَإِذَا اعْتَادَ أَنْ يُعَبِّرَ بِاللَّفْظِ عَنْ الْمَعْنَى كَانَتْ تِلْكَ لُغَتَهُ وَلِهَذَا كُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ عِنَايَةٌ بِأَلْفَاظِ الرَّسُولِ وَمُرَادِهِ بِهَا: عَرَفَ عَادَتَهُ فِي خِطَابِهِ وَتَبَيَّنَ لَهُ مِنْ مُرَادِهِ مَا لَا يَتَبَيَّنُ لِغَيْرِهِ. وَلِهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَ إذَا ذُكِرَ لَفْظٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ أَنْ يَذْكُرَ نَظَائِرَ ذَلِكَ اللَّفْظِ؛ مَاذَا عَنَى بِهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَيَعْرِفُ بِذَلِكَ لُغَةَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَسُنَّةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الَّتِي يُخَاطِبُ بِهَا عِبَادَهُ وَهِيَ الْعَادَةُ الْمَعْرُوفَةُ مِنْ كَلَامِهِ”[14].
من كل ما تقدم نستطيع أن نستخلص أولًا: أنَّنا أحوج ما نكون إلى أن نُكوِّن خبرة بألفاظ المتكلم التعبيريَّة، وبعادته في التعبير؛ ولذلك لابد من إدمان قراءة القرآن الكريم بقطع النظر من الحفظ من عدمه، لكنَّ حضور آياته وكلماته لابد أن تكون جاهزة في ذهن من يمارس هذا النوع من تفسير، والأمر الثاني: لابد من المعرفة التامة بالله (جل شأنه) أي بأسمائه وصفاته وأفعاله ومقاصده وصفات الكمال وصفات النقصان كما عرضها القرآن المجيد، والعلم بأحوال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسنَّته وسيرته، وأن يكون ذلك حاضرًا في ذهنك، وأن تعمل على فهم القرآن المجيد من داخله.
يقول ابن القيم (ت: 751ﻫ): “وليس لأحد أن يحمل كلام الله ورسوله على كل ما ساغ في اللغة أو الاصطلاح لبعض الشعراء أو الخطباء أو الكتاب أو العامَّة إلا إذا كان ذلك غير مخالف لما علم من وصف الرب (تعالى وشأنه) وما تضافرت به صفاته لنفسه، وصفات رسوله له، وكانت إرادة ذلك المعنى بذلك اللفظ مما يجوز ويصلح نسبتها إلى الله ورسوله، لا سيما والمتأول يخبر عن مراد الله ورسوله، فإنَّ تأويل كلام المتكلم بما يوافق ظاهره أو يخالفه إنَّما هو بيان لمراده، فإذا علم أنَّ المتكلم لم يرد هذا المعنى وأنَّه يمتنع أن يريده وأنَّ في صفات كماله ونعوت جلاله ما يمنع من إرادته، وأنَّه يستحيل عليه من وجوه كثيرة أن يريده، استحال الحكم عليه بإرادته فهذا أصل عظيم يجب معرفته”[15].
ومن هنا نستطيع أن نستدل بأمور كثيرة من عصر التلقي على أنَّ من أهم مزايا ذلك العصر أنَّ الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا يستدلون بهذا الحال ويدركونه، وقد أفادت الكثيرين منهم معرفتهم برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لتوجيههم نحو الإيمان به، فأم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها وأرضاها- حينما جاءها في بدء نزول الوحي عليه (عليه الصلاة والسلام) يرجف فؤاده، ويبدو الخوف عليه؛ طمأنته وطمأنت نفسها بأنَّ قالت: “كَلَّا، أَبْشِرْ، فواللَّهِ لا يُخْزيك اللَّهُ أبدًا، إنك لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الحديثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَقْري الضيفَ، وَتُعينُ عَلَى نَوائبِ الحَقِّ”[16]، فاستدلت بذلك على أن ما رآه (عليه الصلاة والسلام) إنَّما هو خير، ولا يمكن أن يكون شرًا، فاستدلت بأحواله على البشرى بأنَّ ما جاءه أبعد ما يكون عن الجن والشياطين، ومسهم، وأنَّ الله (تبارك وتعالى) سوف يعزه، وينصره، ويبشره، وهكذا.
[1] الراوي: أبو هريرة المحدث: ابن حبان، المصدر: صحيح ابن حبان، الصفحة أو الرقم: 4411، خلاصة حكم المحدث: أخرجه في صحيحه.
[2] راجع البيان والتبيين للجاحظ 1/139.
[3] راجع المستصفى للغزالي في مباحث العموم، 1/228. الشاملة.
[4] الموافقات للشاطبي، 4/164 الشاملة.
[5][5] راجع كتابنا: نحو إعادة بناء علوم الأمة الاجتماعية والشرعية، القاهرة، دار السلام، 2009، ص 27.
[6] المحصول بتحقيق طه جابر العلواني، 1/135 إلى 163. طبعة دار السلام.
[7] الرسالة للإمام الشافعي، 1/152.
[8] انظر: الموافقات 2/65 : 66.
[9] انظر الاضداد للأصمعي.
[10] راجع كتاب الحيوان للجاحظ 1/154. تحقيق عبد السلام هارون.
[11] راجع المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري 1/358.
[12] راجع متشابه القرآن للقاضي عبد الجبار 1/1.
[13] راجع متاشبه القرآن للقاضي عبد الجبار 1/2.
[14] راجع مجموع الفتاوى، ابن تيمية، ص 7/115.
[15] انظر الصواعق المرسلة لابن قيم الجوزية 1/290.
[16] الراوي: عائشة أم المؤمنين المحدث: البخاري، المصدر: صحيح البخاري، الصفحة أو الرقم: 6982، خلاصة حكم المحدث: صحيح.