أ.د/ طه جابر العلواني
الحمد لله رب العالمين، نستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئآت أعمالنا، ونصلي ونسلم على رسول الله ومن اتبعه واهتدى بهديه إلى يوم لقاه.
ذكر الله (تبارك وتعالى) في القرآن الكريم بالكثير مما حدث في أيامه، خاصَّة منها تلك الأحداث والوقائع التي شهدها أنبياءه وغيرهم من الذين آمنوا أو كذبوا بهم. كالتذكير بيوم الفرقان إشارة لغزوة بدر الكبرى، قال (جل شأنه): ﴿وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (الأنفال:41)، ويوم حنين إشارة إلى غزوة حنين، قال (جل شأنه): ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾ (التوبة:25)، ويوم الحج الأكبر، قال (تعالى): ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (التوبة:3).
وما قصه (جل شأنه) من قصص أنبيائه ورسله واقع في أيام لا يعلمها إلا هو، فهو شاهد على كل شيء، كما ذكر القرآن المجيد بأيام أخرى لا يعلم مَا يقع ويحدث فيها إلا الله (جل شأنه) كالإخبار باليوم الآخر، ويوم القيامة، ويوم البعث، ويوم الحشر، ويوم الحساب، ويوم الدين، فالمؤمن بالله حق الإيمان يصدق بأيامه كلها، سواء تلك التي لها صلة بالدار الآخرة، أو تلك التي أَخْبَرَنَا بما وقع فيها في الدنيا التي نحياها. فالله (تعالى) أرسل رسوله موسى (عليه السلام) بآيات قصد إخراج قومه من الظلمات إلى النور، وقصد تذكيرهم بأيام الله (تبارك وتعالى) ولا شك أنَّ مَا سيذكر به موسى (عليه السلام) قومه من أيام الله هِيَ اليوم الآخر، ويوم الدين ويوم البعث وغيرها، ولهذا فيوم الدين هُوَ يوم من أيام الله (تبارك وتعالى) قال (تعالى): ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ (إبراهيم:5).
أمَّا جملة مالك يوم الدين فلم تأتي إلا مرة واحدة في القرآن الكريم فقط في سورة الفاتحة، أمَّا جملة يوم الدين فوردت (13) مرة فما هُوَ المقصود بيوم الدين ؟
إنَّ يوم الدين يوم أخبر الله (تبارك وتعالى) به وهو أعلم به وهو اليوم الَّذِي لا تملك نفس لنفس شيئًا إلا من رحم ربك، قال (تعالى) ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ (الزلزلة:7-8).
وهو كذلك اليوم الَّذِي يكون فيه الأمر لله (تبارك وتعالى) وحده فهو الحكم بين عباده، قال (عز وجل): ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ* وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ*يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ* وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ* ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ* يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ (الانفطار:13-19).
فأول من لحقته اللعنة إلى هذا اليوم هُوَ إبليس، قال (عز وجل): ﴿قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ* وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ* قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ* إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ (الحجر:34-38).
قال (تعالى): ﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ﴾ (ص:78)، وكان دعاء إبراهيم (عليه السلام) وطمعه أن يغفر له الله (تبارك وتعالى) خطيئته يوم الدين، قال (تعالى): ﴿وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ (الشعراء:81-82)، فالويل كل الويل لكل من كذب بهذا اليوم ولم يصدِّق به، قال (تعالى): ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ* الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ* وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ* إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِين﴾ (المطففين:10-13)، وقال (تعالى): ﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ* يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ* يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ* ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ (الذاريات:10-14).
وبينت سورة الواقعة نُزُل هؤلاء المكذبين بيوم الدين، يوم الدين نفسه وما ينتظرهم من العذاب. انظر: ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ * لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ * قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ﴾ (الواقعة:41-56)، كما أنَّ المكذبين بهذا اليوم في الدنيا، سيعترفون بتكذيبهم في الآخرة ويفاجئهم هذا اليوم، قال (تعالى): ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ* وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ* هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ (الصافات:19-21).
قال (تعالى): ﴿إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ* فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ* عَنِ الْمُجْرِمِينَ* مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ* وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ* وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ* وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ* حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ* فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾ (المدثر:39-48).
إنَّ المكذبين بيوم الدين؛ إمَّا كافر بالله الواحد الأحد، أو مشرك به، أو جاحد له، أو من الغافلين عن أوامره ونواهيه، ولا شك أنَّ المكذب بهذا اليوم -يوم الدين- مكذب بالدين كذلك.
ولقد بينت سورة المعارج حسن الجزاء، ورضى الله على أولئك المصدقين بالدين وبيوم الدين، انظر: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ﴾ (المعارج:19-35)، إنَّ يوم الدين يوم عظيم عند الله (جل شأنه)، ففيه يفصل الله (تعالى) بين عباده.
قال (تعالى): ﴿هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ (الصافات:21)، وقال (تعالى): ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ* يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ* إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ* إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ* طَعَامُ الْأَثِيمِ* كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ* كَغَلْيِ الْحَمِيمِ﴾ (الدخان:40-46)، وفيه تجد كل نفس بما كسبت وترى مصيرها إمَّا الجنة وإمَّا عذاب جهنم، ولعظمة هذا اليوم، فالله (جل شأنه) هُوَ المالك له لوحده فقط، فإليه يرجع الأمر كله.