أ.د/ طه جابر العلواني
الحمد لله رب العالمين، نستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئآت أعمالنا، ونصلي ونسلم على رسول الله ومن اتبعه واهتدى بهديه إلى يوم لقاه.
ثم أمَّا بعد:
لقد أنكر نبي الله يوسف (عليه السلام) في دعوته على أولئك الذين اتّخذوا أربابًا متفرقين وغفلوا عن الله الرب الواحد الصمد «القهار» قال (تعالى): ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ (يوسف:39). وأمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يدعو أهل الكتاب إلى الإله الواحد، وألّايتخذوا لأنفسهم أربابًا من دون الله (تبارك وتعالى)، قال (تعالى): ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران:64)، ونتيجة تولّيهم أنكر القرآن الكريم عليهم ذلك إذ اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله (تبارك وتعالى) قال (تعالى): ﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (التوبة:31)، ومن هذا كلّه يتضح أنَّ الرب واحد أحد وصفة الربوبيَّة لا تجوز إلا في حقه (جل شأنه) فهي مقصورة عليه وعلى اسمه الأعظم «الله» لأنَّ لفظ الرب جاء في مواضع عديدة من القرآن الكريم تابعًا للفظ «الله»، قال (تعالى): ﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الفاتحة:2)، فجملة (رب العالمين) جواب لسؤال محذوف تقديره من هُوَ الله؟ ويأتي الجواب هُوَ رب العالمين. قال (تعالى): ﴿أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (القصص:30)، وقال (تعالى): ﴿اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ (الصافات:126)، وقال (تعالى): ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (غافر:64)، وقال (جل شأنه): ﴿ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ (الأنعام:102)، وقال (تعالى): ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأعراف:54)، وغير ذلك من الآيات التي تحمل هذا المعنى.
فإذا كان لفظ «الله» يدل على وحدانيَّته فلفظ الرب يثبت ذلك ويدل عليه، كما يثبت له الإطلاقيَّة في الفعل والتصرف، فهو (جل شأنه) فعّال لما يريد، قال (تعالى): ﴿إنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ (هود:107)، وقال أيضًا: ﴿ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ (البروج:15-16)، قال (تعالى): ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾ (الحجر:28)، وقال (تعالى): ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة:30)، وقال أيضًا: ﴿قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ﴾ (الأنبياء:56)، وقال أيضًا: ﴿كُلا نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ (الإسراء:20)، وقال أيضًا: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (النحل:33)، وقال (عز وجل): ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النحل:68-69)، قال (تعالى): ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل:102)، قال (تعالى): ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلا كَرِيمًا﴾ (الإسراء:23)، وقال (تعالى): ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾ (الإسراء:30)، وقال (جل شأنه): ﴿ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا﴾ (الإسراء:39)، وقال (تعالى): ﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلا﴾ (الكهف:58)، فلفظ الرب في الآيات السالفة الذكر وغيرها من الآيات التي تسير وفق هذا السياق يعود عليه ما له علاقة بأوامر الله (تبارك وتعالى) ومشيئته وإرادته.
وانسجامًا مع هذا المراد الَّذِي يدور فيه لفظ «رب» في الكثير من الآيات القرآنيَّة جاء دعاء الأنبياء وشكواهم إلى الله (تبارك وتعالى) بهذا اللفظ «رب» قال (جل شأنه): ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ (البقرة:126)، قال (تعالى): ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (آل عمران:35)، وقال (جل شأنه): ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (الأعراف:151)، وقال أيضًا: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء﴾ (إبراهيم:40)، قال(تعالى): ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾ (مريم:4)، قال (تعالى): ﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾ (طه:25)، وقال (تعالى): ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ (الفرقان:30)، وقال أيضًا: ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ (النمل:19)، وقال (تعالى): ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا﴾ (نوح:28)، قال (تعالى): ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (إبراهيم:36)، قال (تعالى): ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ (المائدة:25).
إنَّ لفظ «رب» في الآيات السالفة الذكر أو التي لم نوردها يدور في إطار الشكوى إلى الله (تبارك وتعالى) أو طلبه ودعائه، فهو المالك لكل شيء، وكل شيء بيده، وهذا يدل عليه قوله (تعالى): ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (الأنعام:164)؛ أي: العالم المالك لجميع الأسباب في كل العوالم ظاهرها وباطنها بما فيها عالم الإنس وعالم الجن وعالم الحيوان والطير… وهذا يدل عليه قوله (تعالى): ﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الفاتحة:2)، فهذه الآية تكررت في القرآن المجيد العديد من المرات منها (27) آية التي جاء فيها لفظ الحمد وغيرها من الآيات التي جاء فيها لفظ «رب» متبوعًا بلفظ العالمين وجاء أمر الله (تبارك وتعالى) إلى موسى وهارون (عليهما السلام) أن يذهبا إلى فرعون ويقولا له: “إنّا رسول رب العالمين”، قال (تعالى): ﴿فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الشعراء:16)، وجاء سؤال فرعون: ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ قال (تعالى): ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ (الشعراء:23-29)، هذا حوار دار بين رسول الله موسى (عليه السلام) بحضور أخيه هارون (عليه السلام) من جهة، وفرعون من جهة ثانية، الَّذِي أنكر الألوهيَّة لله الواحد، والأكثر من ذلك أنَّه نسب الربوبيَّة لنفسه ظلمًا منه، قال (تعالى): ﴿فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ (النازعات:23-24).
وظن أنَّه يملك الأسباب إذ طلب من وزيره هامان أن يشيّد له صرحًا من أجل ذلك، قال (تعالى): ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ﴾ (غافر:36-37)، فهذا الحوار من خلال سورة الشعراء الآية (23-29) بين موسى (عليه السلام) وفرعون، يكشف لفرعون ولغيره ماهية الربوبيّة التي يجهلها، والتي تقتضي الإيمان بالله الواحد الأحد.
فسؤال وما رب العالمين؟ الجواب عليه جاء بتوضيح ماهيَّة العالمين التي الله ربّها، وهي السموات والأرض؛ أي: عالم السموات وعالم الأرض وعوالم أخرى بين السماء والأرض لا نعلمها إلا مَا أَخْبَرَنَا به من عالم الجن وعالم الملائكة….
أمَّا ربكم ورب آبائكم الأولين أي رب هذا العالم في الحاضر بما فيه أنتم ورب الماضي من العالم بما فيه آباؤكم الأولين فهو أنا لا رب سواي.
أمَّا رب المشرق والمغرب وما بينهما؛ أي: رب هذه الحركة الكونيَّة في حاضرها وماضيها ومستقبلها فهو الماسك بأسبابها وعللها. لكن فرعون ومن حذا طريقه، فنتيجة لعنه، ولظلمه لم يتسع ذهنه لهذه الأبعاد اللامتناهية للفظ العالمين. إذ لو أدرك ذلك لآمن بالله إلهًا واحدًا وربًا لكل شيء.
إنَّ لفظ العالمين لفظ أكبر مما نتصور، فالعوالم لا حدّ لها، ولا يعلم بدايتها ونهايتها إلا الله (تبارك وتعالى) كما تقدم ذلك. فهو فوق كل العوالم وهو العالم بها وبما فيها ولهذا فهو ربها. ولاتّساع حمولة هذا اللفظ من المعاني جاء في مواضع عديدة من القرآن المجيد، ومنها تلك التي ذكر فيها لفظ الحمد وهي سالفة الذكر وغيرها. قال (تعالى): ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (البقرة:131)، وقال (تعالى): ﴿لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ (المائدة:28)، وقال (تعالى): ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأنعام:71)، وقال (تعالى): ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأنعام:162)، قال (جل شأنه): ﴿وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأعراف:120-121)، وقال (جل شأنه): ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأعراف:54)، وغيرها من الآيات التي تدور في هذا الإطار. فمدار لفظ “الرب” في هذه الآيات وما يماثلها يدور في إطار التعريف بذات الله (تبارك وتعالى) كما أشرنا لذلك من قبل، ولفظ العالمين لفظ حامل لمضمون وأبعاد الربوبيَّة، فما دامت الربوبيَّة له وحده (جل شأنه) ومقصورة عليه فهي دليل على وحدانيَّته.
إنَّ المدار الذي يدور فيه لفظ «رب» في القرآن الكريم هُوَ التعريف بذات الله (تبارك وتعالى) توحيدًا لها وتسليمًا لها في كل شيء، فهي منزّهة فوق كل العوالم، ولها الأمر كلّه الإرادة والحمد والعبادة.
إذا كان العمود الأساسيّ للقرآن الكريم هُوَ توحيد الألوهيَّة، فإنَّ مضمونه والدليل عليه هُوَ توحيد الربوبيَّة. فبتوحيد الربوبيَّة نستيقن بأنَّ الله (تبارك وتعالى) هُوَ الخالق لكل شيء وكل شيء بيده، وهو المالك لجميع الأسباب وهو فوق العوالم كيفما كانت، فهو ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
فالقرآن الكريم يأخذك إلى العوالم، ويدفعك إلى النظر في بديع الخلق، ويفصل لك الآيات، ويضرب لك الأمثال، ويريك كيف بدأ الخلق، وغير ذلك من الحجج والبراهين والآيات دليل على الخالق إلهًا وربًا واحدًا.
فلعلّ الغافلين عن توحيده يتذكّرون بالنظر إلى العوالم وما فيها وحدانيَّة الرب الواحد الأحد.