الحلقة الخامسة
أ.د/ طه جابر العلواني
الحمد لله رب العالمين، نستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، ونصلي ونسلم على رسول الله ومن اتبعه واهتدى بهديه إلى يوم لقاه.
ثم أمَّا بعد:
من عوائق التدبر:
- فلنقم أولًا بالتخلُّص من عوائق التدبُّر والعمل على أن يجعل الله (تعالى) بيننا وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابًا مستورًا، فبدلًا من أن تكون الحجب بيننا وبين القرآن، تنتقل هذه الحجب لتكون بيننا وبين أعداء القرآن والكافرين به.
ولنبدأ “بأكنَّة القلوب” نزيلها ونبعدها عن قلوبنا لتصفو وتسلم فنأتي إلى القرآن بقلوب سليمة صافية نقيَّة، قادرة على اقتباس أنوار القرآن واستقبال تجلياتها. والأكنَّة من كنَّ إذا حفظ شيئًا بكنّ أي غطاء، قال (تعالى): ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا..﴾ (الأنعام:25)، فهذه الأغطية والأكنان تستر القلوب عن الفهم وتحول بينها وبين فقه القرآن، ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾ (فصلت:5)، فقلوب المؤمنين منشرحة مفتوحة لا غطاء ولا حاجز يحول بينها وبين التدبُّر، وإذا تدبَّر الإنسان وهو مؤمن من أولئك الذين شرح الله صدورهم فإنَّ القرآن ومعانيه ينزل على القلب ويدخل إليه، وكان القلب بعد ذلك يكنّه فيه ويحفظه؛ ولذلك اعتبرت قلوب المؤمنين أكنانًا للقرآن تحفظه وتنفعل به وتستضيء وتستنير، والأكنَّة الحاجزة التى تحول بين القرآن وبين الدخول إلى القلب ومنحه حالة الانشراح تأتى من الذنوب المختلفة، التى تتحول إلى رَيْنٍ وصدأٍ يعلو تلك القلوب، قال (تعالى): ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (المطففين:14)، وذلك يعنى أنَّ تلك القلوب قد صدأت وأصابها الرّين وعلّتها الأغلفة والأغشية، فلابدّ من تطهيرها وإعادتها إلى حالة السلامة، فهى كمرأة غمرها التراب أو أزالت قابليتها لعكس الصور أمور قد حدثت لها، فلم تعد قادرة على عكس شيء، فلابدّ من استبدالها أو إعادة طلائها لتعود إلى طبيعتها.
وهنا لابدّ أن يتأمَّل المتدبِّر فى قلبه مسترجعًا سلوكه وأفكاره وتصوراته؛ ليتأكَّد من أنَّه خالٍ وسالم من جميع الأفكار والتصورات والذنوب والسيِّئات التى تحدث الرّين وتجعل القلوب فى أكنَّة، وعلينا أن ندرك الفرق بين أن تكون قلوبنا أكنَّة للقرآن وبين أن تكون الأكنَّة حول القلوب وعليها، بحيث تحول بيننا وبين فهم القرآن وفقهه.
وقد يكون في الآذان “وقر”، و”الوقر” داء خطير يصيب الآذان فيثقل سمعها، ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾ (فصلت:5)، وقال (جل شأنه): ﴿وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾ (فصلت:44)، فكأنَّ السمع وقر بحمل كما يحمل الحمار الوقر أي الحمل الثقيل، وهذا المرض أو الحمل الثقيل الذى يجعل السمع ثقيلًا بحيث لا تلج كلمات الله إليه، وبالتالى فلا تستطيع الوصول إلى ذلك القلب الذى غطته الأكنان، ولا الأسماع التى ملأها الوقر الأنفعال بالقرآن، فلابدّ من إزالة هذه المعوّقات والتخلّص منها بالتوبة النّصوح والطهارة التامّة؛ فذلك هو الذي يجعل التدبُّر فاعلًا ومؤثرًا. وهناك موانع أخرى قد تمنع العين بالنسبة للقارئين وتتحوّل إلى ما يشبه العشو، وهو ضعف البصر عن الاتصال بأنوار آيات القرآن وكلماته، قال (تعالى): ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ (الزخرف:36)، فإذا كثر نظر الإنسان إلى المحرَّمات وإلى الشواغل ومدّ عينيه إلى ما متّع الله الناس به من زينة الحياة الدنيا وما إلى ذلك فإنَّ الأعين قد تعشو؛ ولذلك فإنَّ الله (تبارك وتعالى) قد أعدَّ بنفسه رسوله الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ونبَّه إلى أنَّه سيلقى عليه قولًا ثقيلًا وأمره بالاستعانة بالصبر والصلاة والتهجُّد والقيام والإخبات لله (سبحانه) وترتيل القرآن ترتيلًا، فذلك كله لابد منه لتطهير قوى الوعي وإعدادها، لتلقي الخطاب الكريم، والانفعال به والتفاعل معه، والحصول على ثمار التدبر بإذن الله.
إنَّ من شأن تدبر القرآن وتفسير القرآن بالقرآن وتلاوة القرآن حق التلاوة، وحسن ترتيله وإقامة الصلاة به، تحقيق كل تلك النتائج المبتغاة التي تجعل القرآن شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة وموعظة ونورا وبصائر، لا تشحذ أسماع المتدبرين فحسب بل تمنحها قدرة التمييز ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾ (الزمر:18)، وعند ذلك لا يمكن للشيطان أن يقيم حجبًا بين حكم القرآن وأنواره وبين قوى الوعي الإنساني؛ لذلك فإنَّ التدبر ضرورة لبناء العقل وإنماء قوى الوعي قرآنيًا، فهو الذي يهيئ الإنسان وقواه العاقلة لتلك المهام العظيمة التي تنتظر الإنسان في هذه الحياة مهام تحقيق التوحيد والتدثر بالتزكية، والتحلي بالعمران، وإقامة بناء الأمَّة، وحسن القيام بالدعوة، وبدون ذلك تكون القرآن هذرمة، ويكون الاستماع قليل الأثر.
نرجو الله أن يوفقنا لحسن تدبر كتابه، ليكون القرآن ربيع قلوبنا، وجلاء همومنا وأحزاننا، ونور بصائرنا وأبصارنا، إنَّه سميع مجيب.