أ.د/ طه جابر العلواني
الحلقة الرابعة
الحمد لله رب العالمين، نستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، ونصلي ونسلم على رسول الله ومن اتبعه واهتدى بهديه إلى يوم لقاه.
ثم أمَّا بعد:
التدبر وسيلتنا في هذا التفسير:
التدبر هو التفكر فيما وراء الظواهر، ومعرفة أدبار الأمور، وعواقبها، وما لا تراه العين للوهلة الأولى منها، فالقرآن خطاب مفتاحه التدبر أي أن يقبل القارئ المؤهل الذي هيأ قوى وعيه ووسائل إدراكه لتدبر القرآن الكريم بعقل علمي لديه من المعرفة والاستعدادات ما يعينه على تدبر هذا الخطاب، ومعرفة المراد به.
ما الذي يبحث المتدبِّر عنه؟ وكيف يمارس التدبُّر للوصول إليه؟
إنَّ “المتدبِّر” قد تلقَّى خطابًا في قول ثقيل متحد معجز ذي مواصفات خاصَّة لا يشاركه فيها أي خطاب آخر، وله مضمون ورسالة وهدف ومقاصد وغايات وعواقب. وهو خطاب صاغه مخاطب يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير. وقد فصَّله على علمه المحيط بكل شئ، فهو علم مطلق منزَّل من لدن العليم الخبير، الذي أحاط بكل شيء علمًا، فلا يتوقع من المتدبِّر أن ينشغل بكل تلك التفاصيل التي قد ينشغل بها المتعاملون مع الخطاب البشريّ أيًّا كان.
وقد سبق أن نبَّهنا إلى أنَّ القرآن متجاوز لثنائيَّة “الواقع والمثال”، وهو خطاب يمكن أن ينزل على القلب مباشرة فيشتبك مع قوى وعي السامع والمخاطب بشكلٍ مباشر، ووعيّ القارئ المخاطب هو الذي سيستقبله. وحين يبدأ وعي القارئ بالتفاعل معه للكشف عمَّا بين يديه وما خلفه سوف يفرض هذا الخطاب القرآنيّ المتعالي المتنزِّل على ذهن المتلقي تساؤلات كثيرة تختلف تمامًا عن التساؤلات التي يثيرها أي خطاب آخر. ولعلَّ أهم الاختلافات بين ما يثيره الخطاب القرآني وأيّ خطاب آخر أن أيّ خطاب غير الخطاب القرآني قد يثير تساؤلات حول ما في ذهن مرسِل الخطاب من مقاصد وغايات أو مطامع يطمع أن يطلب المرسِل إلى المرسَل إليه القيام بها، بل يفترض بالمخاطب بالخطاب القرآنيّ، وقد أدرك متلقِّيه كل ما ذكرنا ومالم نذكر أن يتَّجه المخاطب للبحث عن دور له في ذلك الخطاب يُعمِل فيه ذهنه وخياله، ويمارس فيه نشاطه الإنسانيّ.
إنَّ المتلقِّي الأول للقرآن المجيد (صلى الله عليه وآله وسلم) قام يتمثل القرآن واتِّباع كلّ ما جاء فيه حتى صار (صلوات الله وسلامه عليه) وكأنَّه نسخة بشريَّة للقرآن المجيد فكان خلقه القرآن وسلوكه القرآن وتصرفاته – كلّها – اتِّباع للقرآن، وبذلك رسم “منهج الاتِّباع” بدقَّة لا مزيد عليها ليتمكَّن الخلق من التأسّي به (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن المتأسِّين به مهما اجتهدوا فإنَّهم لن يبلغوا مستوى الاتِّباع الدقيق السليم إلا إذا حالفهم التوفيق الإلهي؛ ولذلك فإنَّ المؤمنين يعملون على أن يحوِّلوا واقعهم إلى واقع تتجلَّى فيه أنوار القرآن وهدايته، لتشاهد التحوّلات التي أحدثها القرآن ويحدثها في بيئاتهم التي سوف تساعد مع المجتمع على إبراز كيانات اجتماعيَّة تهتدي بهداية القرآن، وتستظلّ بأنواره – وآنذاك – تتشكل شخصيَّة ذلك المجتمع في هيكل مؤطّر بمجموعة العلاقات الاجتماعيَّة المتغيِّرة المتحرِّكة في إطار “المرجعيَّة القرآنيَّة وقيمها الحاكمة”، ويكون نصيب كل فرد في ذلك المجتمع مماثلًا لنصيب الأراضي المتنوّعة من الغيث، فهناك أرض تهتزّ وتربو وتنبت من كل زوجٍ بهيج ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (فصلت:39)، وهناك أراض تحتفظ بالماء ليستفيد به الإنسان والحيوان والنبات، وهناك أراض أجادب لا تنبت زرعًا ولا تمسك ماءً وهناك وهناك.
وهنا يأتي دور “التدبُّر”؛ فالتدبُّر ضروريُّ ليقوم بقيادة القارئ للتّفاعل مع الخطاب القرآنيّ، ومعرفة دوره بالنِّسبة إليه. “فالتدبُّر” يقود القارئ إلى التّفاعل مع الخطاب. وهنا يجد القارئ نفسه وجهًا لوجه في مواجهة الخطاب فيستدعي التاريخ وآفاق الفهم، ويؤسس للعلاقة مع الخطاب.
إنَّ “التدبر” يجعل القارئ يبحث عن المعنى الذي ينشأ نتيجة تفاعله مع الخطاب لا عن المعنى الكامن أو المكنون فيه فيصبح المعنى -آنذاك- “أثرًا” تمكن ممارسته لا “موضوعًا” يمكن تحديده.
ثم يقود “التدبُّر” إلى مجالات ثلاثة للاستبصار، هي:
- “الخطاب” الذي يسمح بإنتاج المعنى عندما يقوم القارئ بتمثّله وملء فجواته.
- فحص عمليَّة معالجة الخطاب في القراءة وتتبُّع الصّور العقليَّة التي يشكِّلها في الذِّهن، وتصنيف عناصرها الجماليَّة وسواها.
- إدراك الشّروط التي تتوقَّف عليها عمليَّة قيام التَّفاعل بين الخطاب والقارئ وتحكمها. “القارئ الضمنيّ”، “المواضعات” = “رصيد الخطاب”، أي المنطقة التي يلتقى فيها الخطاب والقارئ للشّروع في التّواصل. “العلاقة بين الموضوع والأفق وأثرها في تنظيم مدركات القارئ وإنتاج موضوع جماليّ ملائم”، ينتج “وجهة النَّظر الطَّوافة” التي تتيح للقارئ فرصة التَّحرُّك خلال الخطاب للكشف عن المنظورات المختلفة التي يترابط بعضها مع بعض.
“الإدراك الحسيّ والتصوّر”، فالإدراك يتعلّق بالموضوع الماثل ويفترض التّصوّر غياب الموضوع، بحيث يحاول القارئ إيجاده على أساس من العالم الذي توحي به الجوانب المخطّطة في الخطاب.
إنَّ جوهر ومعنى الخطاب لا ينتميان إلى الخطاب المجدد، بل العمليَّة التفاعليَّة التي تتفاعل فيها الوحدات قد يكون خياليًّا وقد يكون ملائمًا أو نموذجيًّا أو مثاليًّا أو محايثًا أو .. ؛ ولذلك – كلّه– تأثير فيما يدركه أو يتحصّل عليه القارئ المتدبِّر من الخطاب.
ونحن في تدبُّرنا لأيَّة سورة من سور القرآن سنحاول استحضار ما ذكرنا، ونوظِّف سائر المداخل التي وصلنا إليها للوصول إلى ما يمنّ الله علينا به من بصائر القرآن وخطابه.