أ.د/ طه جابر العلواني
انقسم التعليم في بلداننا منذ احتكاكنا بالغرب إلى تعليم دينيّ، وتعليم مدنيّ إنسانيّ واجتماعيّ، وتعليم خدمات، وتعليم عسكريّ، ولم يُلاحظ في أنواع هذا التعليم على تعددها احتياجات الأمة التنموية، ولا البناء الحضاري والتزكية العمرانية لها.
وحين نُودي بمجانية التعليم وإشاعته لم يُخطط بشكل دقيق لعملية التوزيع وبيان الاحتياجات فصار التعليم بعد أن كان يُرجى لأن يكون حلاً وعلاجًا لأزماتنا التنموية ومشكلاتنا الاقتصادية عبئًا، بل وبطالة مقنعة تُضاف إلى البطالة السافرة.
إن لكل بلد عمقه الحضاري ومجاله الحيوي، وحينما تكون لديه وفرة سكانية ينبغي أن يُنظر إليها على أنها نعمة كبيرة من الله لا يرقى لمستواها أي نوع آخر من النعم. فالإنسان ليس صانع التنمية فقط ولا هدفها فحسب ولكنه جوهرها ومادتها الأساسية فإذا أمكنت تنمية الإنسان، تحققت التنمية، والأمم التي تعجز عن تنمية إنسانها لا يمكن أن تنجح في تحقيق التنمية.
إننا نعرف مثلاً احتياجاتنا بالنسبة للتعليم الدينيّ فلدينا من وسائل الإحصاء ما يمكن أن يحدد لنا في كل عام عدد الأئمة والخطباء والمدرسين الذين نحتاجهم، فيفترض أن يكون لدينا تعليم ديني يسد احتياجات المجتمع بالشروط المناسبة دون إغفال لما يحتاجه العمق الحضاريّ والمجال الحيويّ الذي يتصل بالبلد وهناك كليّات تُخرج متخصصين في العلوم الإنسانية والاجتماعية على اختلافها لا يُلاحظ فيها أيضًا احتياجات المجتمع والتخصصات التي تشتد حاجة المجتمع إليها والتخصصات التي تكون في مستوى ثانوي وما إلى ذلك؛ بحيث توجه العناية لتلك التخصصات بحسب الأولويات والاحتياجات، كذلك الحال بالنسبة للتعليم المهني والحرفي، فلتخرج الطبيب الناجح الذي يمكن أن نسلمه أرواحنا، نحتاج إلى إعداد خاص فلا نتوقع إذا كانت كلية الطب بمختبراتها وأساتذتها لا تستطيع أن تقبل أو تستوعب أكثر من 500 أن يدخل إليها ألفان ونحصل على النتيجة ذاتها؛ لأن طالب الطب له احتياجات: مختبرات ومستشفيات يطبق فيها، وعدد كاف من الأطباء الذين يقودونه في مراحل دراسته نظريًّا وعمليًّا ليكون طبيبًا مؤهلاً نأتمنه على أرواحنا. وكذلك الحال بالنسبة للمهندس وغيره.
أما التعليم العسكريّ فهو تعليم متخصص لا بد أن يكون متنوعًا تبعًا لحالات السلم والحرب وحماية الأمة والدفاع عن مصالحها، وفي حالات السلم والاسترخاء لا بد أن يكون له دور في قضايا التنمية.
والمؤسسة العسكرية أكثر المؤسسات انضباطًا ويمكن استثمارها في أحوال السلم لتقديم نوع من التعليم التنموي المتنوع، بحيث تكون الخدمة العسكرية مجال تعلم واكتساب خبرات والحصول على مؤهلات عملية كالحدادة والنجارة والسمكرة والبناء والنقاشة والزراعة وتمهيد الطرق وشق الأقنية وما إلى ذلك.
وأمم العالم المتقدمة ربطت ربطًا محكمًا بين التعليم وبين حاجات المجتمع وجعلت التفاعل مستمرًا والاتصال دائمًا بين المجتمع والجامعة. فالجامعة بكل ما تمثل والمدرسة قبلها والتخصصات بعدها، كلها تتجه نحو خدمة المجتمع وتوفير احتياجاته والاستثمار في إنسانه وتطوير قدراته وآنذاك سوف لن يكون عائد الزيادة في نسبة السكان عبئًا على الوطن، بل هو إمكانية وبتلك الطريقة: طريقة التفاعل بين المجتمع والجامعة تغلبت الأمم على سلبيات ازدواجية التعليم وتنوعه بشكل عشوائي.
إن أنظمتا التعليمية في حاجة إلى كثير من الإصلاح القائم على التفاعل بين أجهزة التعليم والمجتمع واحتياجاته، والقرآن المجيد قد نبّه على ذلك فهناك قصة ذي القرنين في سورة الكهف التي نقرؤها كل يوم جمعة وقد رأينا كيف استطاع هذا المهندس العظيم ذو القرنين أن يشغل الطاقات التي كانت معطلة والمعادن التي كانت غير مستغلة في شعب لم يكن يسمح له خوفه واعتداءات جيرانه عليه بأن ينمو ويستقر ويحقق ما يريد، فجاء بفكرة السد فأقامه بهم وعلمهم كيف يطورون طاقاتهم وأعطاهم درسًا لا يُنسى في استثمار مواردهم ولا شك أنهم شعروا بأنه كان من الممكن أن يوفروا على أنفسهم سنوات القلق والخوف والعيش تحت سيف الإرهاب والاعتداء لو عرفوا كيف يستثمرون طاقاتهم ويستغلون مواردهم.
وقد امتن الله على نبيه داوود بأن علمه صناعة الدروع في بيئة حربية كان أهم ما تحتاجه توفير مثل تلك الأدوات فقال (جل شأنه): ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ﴾ (الأنبياء:80) كما ألان له الحديد وامتن عليه بذلك في آيا ت سورة سبأ ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ (سبأ:10-11) ليقدم لنا درسًا في كيفية تنويع التعليم كما ذكر لنا نماذج من القضاة والرعاة والهداة والرسل.
إذا لا بد من تكامل بين البلدان العربية والمسلمة واعتبار كل بلد أن جيرانه يشكلون عمقه الاستراتيجيّ ومجاله الحيويّ ولا بد له من التكامل معهم لتحقق الفوائد وتبادل المنافع والطيبات.
فلا بد من وقفة أو وقفات لإعادة النظر في هياكلنا التعليمية وسياستها لرسم صورة ونموذج للإنسان الجديد الذي نريده بدلاً من ترك الظواهر السلبية تفتك بمجتمعاتنا وتبدد طاقاتنا.