أ.د/ طه جابر العلواني
هل الإنسان مسيَّر -في هذه الحياة- أم مخيَّر؟ علينا أن نتلو الكتاب -كلّه- ونجمع آيات الكتاب ونرتبّها بحسب دلالاتها المباشرة، ونبدأ بدراستها دون أحكام مسبقة، إذ الحكم هُوَ للقرآن الَّذِي جئته مفتقرًا إليه وطرحت نفسك بين يديه تسأله الجواب الشافي فتجد من مدخل «الجمع بين القراءتين» آيات عالم الأمر، وهي آيات العهد ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إنّما أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ﴾(الأعراف:172-173) ثم آية إيجاد آدم وجعله خليفة في الأرض كما في سورة البقرة ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ (البقرة: 30-37)، ثم عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال وحمل الإنسان لها كما في سورة الأحزاب ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ (الأحزاب:72) ، ثم آيات الابتلاء والتكليف، ثم نبدأ بتلاوة آيات عالم الإرادة، وفي مقدِّمتها الآيات التي تبيّن لنا طبيعة الإنسان وفطرته والدواعي والدوافع والغرائز والأشواق والمشاعر، وكيفيّة صياغته لإرادته ثم إيقاعه لفعله، وعلاقات ذلك كلِّه بعالم «الأمر» وبالغيب، وتحديد مستويات العلاقة.
ثم ننتقل إلى الآيات المندرجة تحت عالم المشيئة لنرى كيف يكون الشيء بالأمر الإلهيّ «كن» شيئًا بعد أنْ لم يكن، وحين نفرغ من ذلك -كلّه- سنجد أولاً مؤشرات تؤدي إلى تصنيف مناسب لتوجيه كل آية كريمة وجهة لا تسمح بتلك الفوضى التي هيمنت على الدراسات الكلاميَّة وسنجد الجواب الشافي في القرآن في نحو قوله (تعالى): ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (الأنعام:148-149).
إذًا فقد حكم القرآن بأنَّ الإنسان مخيَّر، وأنّه مالك لحريّته في الاعتقاد والقول والفعل والموقف، وسائر أنواع التصرُّفات الفرديَّة، وأنَّ عدم القول بذلك يعدّ هدمًا لسائر أسس التكليف بالإيمان وبالعمل معًا، إضافة إلى هدم أسس القواعد الأخلاقيَّة ولكن ينبغي ألا يغيب عن البال أنَّ هناك قيودًا على هذه الحريَّة من الأسرة والمجتمع والنظام والدولة، وما إليها، كما أنَّ الإنسان في جانبه الطبيعيّ خاضع لسنن وقوانين الطبيعة من ضرورة أكله وشربه ونومه وتكاثره؛ فهذه -كلّها- أمور ذات طبيعة جبليَّة، لكنها لا تنفي الأصل الَّذِي أثبته القرآن المجيد من حريّة الإنسان واختياره.