حلول ومقترحات
أ.د.طه العلواني
تصور موجز لأسباب الاحتقان الطائفيّ في العراق وإيران ومنطقة الخليج خاصّة والعالم الإسلاميّ عامّة:
إنّ الأمم التي لها تراث خصب وغني ومتنوّع مثل تراث أمّتنا لا بد أن تتعدد فيها الآراء وتكثر فيها المقولات سواءٌ حول فهم الأصول التي تستند إليها مرجعيّة الأمّة أو مناهج تطبيقها، وما لم تكن الأمّة قد جهزت بثقافة قبول الرأي والرأي الآخر، وتربت على تلك الثقافة ونشأت أجيالها عليها، فإنّ كثيرًا من الظواهر السلبيّة قد تظهر في منعطفات الطرق التي تسلكها فتؤدي إلى فرقة واختلاف قد يصل إلى نوع من العداء والاحتراب والتقاتل إذا لم تجد الأمة وسائل وآليَّات كفوؤة قادرة على مواجهة تلك الأمور، فإنّ آثار ذلك على وحدتها ومسيرتها ومستقبل أبنائها ستكون وخيمة مدمرة.
و”الفكر الدينيّ” بصفة عامّة كثيرًا مَا يصحبه إيمان بالقدرة على امتلاك الحقيقة من هذا الطرف أو ذاك، وعند هذه النقطة يصبح الناس مهيّئين للانفجار في بعضهم، ونبذ التعدّد، ونفي الآخر فإذا جاءت عوامل استغلال سياسيّة داخليّة أو خارجيّة فذلك يعني وقوع التمزُّق ورفض التعدّد وتكريس نفي الآخر، وقد يصلون إلى التقاتل والاحتراب.
وقد شهد واقعنا التاريخيّ تنوّعًا كبيرًا في هذا المجال؛ ففي مرحلة من المراحل نجد إمامًا مثل الرازي اللغويّ يترك مذهبه الشافعيّ طواعيةً واختيارًا ويعلن تمذهبه بمذهب الإمام مالك، وحين قيل له: مَا الَّذِي جعلك تفعل ذلك؟ وهل نقمت على المذهب الشافعيّ شيئًا؟ فإذا به يقول: لا!! لكنّي رأيت مدينة “الري” _التي كان يسكن فيها وهي طهران الحاليّة_ عامرة بشتى المذاهب والمقولات لكنَّني لم أجد لهذا الإمام الجليل الإمام مالك مشهدًا يبرز مسالكه في الاجتهاد، ومذهبه في الفقه، ويفيد الناس بها فقررت أن أعمُرَ مشهد الانتساب لهذا الإمام الجليل ليكمل لهذا البلد فخاره بإذن الله (تبارك وتعالى). هذه المرحلة الذهبيّة جعلت هذا الإمام الجليل يشعر بأنَّ تعدُّد المذاهب والمواقف والمقولات ثروة حضاريّة ينبغي أن يُعتزَّ بها وأن تجد من يرعاها ففعل ذلك. في مقابل هذا نجد فترات مؤلمة تحولت المذهبيّة إلى طائفيّة غالية تجلب كثيرًا من عوامل الصراع والفتنة بين مكوِّنات الأمّة تصل إلى حد الحروب والتقاتل، حدث ذلك في العصر العباسيّ الوسيط بين “الشافعيّة والحنابلة” وحدث قبله مَا حدث بين “المعتزلة والسنَّة”، وسبق ذلك صراع شديد بين “أهل الرأي وأهل الحديث”، وتأسس ذلك كلّه على صراعات بين “أهل السيف وأهل القلم” ولا ننسى مَا حفل به تاريخنا من صراع بين البويهيّين والسلاجقة والفاطميّين والشافعيّة والشيعة والسنَّة، وآخر ذلك هُوَ الصراع بين الدولتين العثمانيّة السنيّة الحنفيّة وبين الدولة الصفويّة القاجاريّة في إيران، ذلك الصراع الَّذِي استمر حوالي (350) سنة أو (3) قرون ونصف ورشَّح المنطقة العربيّة والمسلمة للسقوط في براثن الاستعمار الغربيّ الَّذِي عانينا وما نزال نعاني منه حتى يومنا هذا.
وقد أجج عوامل الصراع طائفتان؛ طائفة السياسيّين الذين يسعون لتشكيل وبناء عصبيّة لهم ولو على حساب فُرقة الأمّة وتصارعها، وفِرْقة المتعصبيّن الذين يرون أنَّ الإنسان النسبيّ يمكن أن يمتلك الحقيقة المطلقة فيعتقد أحدهم دائمًا بأنَّه على الحق وغيره على الباطل. ولا يؤمن بأنَّه حتى لو سلمنا جدلًا بإمكان امتلاك فريق للحق وأن سائر الفرق على باطل، فذلك لا يعني نفي الفرق الأخرى، وقد يأتي من يستشهد بأحاديث لم يتأكد من صحتها أو من صحة الأصل وإضافة عبارة أو أكثر فيؤكد تلك المعاني السلبيّة التي نجدها فيما شاع بين الناس اليوم من أحاديث الفرقة الناجية وهلاك الفرق الأخرى، والاتساع الشديد في “مفهوم العقائد” التي جاء القرآن المجيد بها بيضاء نقيّة لا تتجاوز خمسة إلى ستة عناصر لتصبح في العصور المتأخّرة (380) عنصر أو تزيد، مما ينبغي اعتقاده لدى كثير من الفرق وتكفير من ينفي أي عنصر من هذه العناصر الكثيرة بقطع النظر عن ثبوت ذلك بدليل ظّنيّ أو دليل مطعون لا يصمد أمام البحث الدقيق، مما سهل على كثير من ذوي العاهات العقليّة اتهام غيرهم بالكفر دون تفريق بين كفر أكبر وكفر أصغر، ودون تدقيق في المصطلحات فشاعت ظاهرة التراجم، أعني رجم المسلمين لبعضهم بألفاظ “الكفر والفسق والبدعة والنفاق” لأتفه الأسباب فتمزقت الأمّة ورشّحت البقيّة الباقية منها لمزيد من التمزّق.
ولقد انتهز السيد كيسنجر “Henry Kissinger“ وزير خارجيّة مستر نكسون ” Richard Nixon“ الفرصة وهو يحاول أن يرسم خطة جديدة تضمن أمن إسرائيل وتحمل عبء ذلك على الأمّة المسلمة، لا على كاهل أمريكا فجاء بخطة مفادها: توظيف سلبيّات الواقع التاريخيّ الإسلاميّ واستدعائها لإثارة الفتن بين المسلمين وتقزيم وتحجيم دور العرب فيهم وبمقتضى تلك الخطة التي نُشرت بعض معالمها في تلك المرحلة، وأشار إليها كُتاب غربيّون كثيرون تستدعى الطائفيّة بين السُنّة والشيعة؛ وذلك بأن لا يترك بلد مسلم واحد دون انقسام؛ فالبلدان التي عامّة أهلها من السُنّة لا بد من الترويج لدخول المذاهب الشيعيّة إليها، والأقاليم التي فيها أكثريّة شيعيّة يروج فيها لمذاهب سنيّة وتطرح أفكار التفريق بين الشيعة العرب والشيعة الفرس والشيعة الهنود، وكذلك الحال بالنسبة للسنّة ومذاهبهم، ويجري تشجيع الاتجاهات المتطرفة من جميع المذاهب والطوائف والفِرق وتهيَّأ لتصبح قنابل موقوتة يمكن أن تفجر عند الحاجة، وقد تبنَّى الرئيس كارتر ” Jimmy Carter ” في رئاسته ذلك الأسلوب وشجع عليه، واستمرت عمليّة التشجيع على هذه الانقسامات إلى أن تأججت في عصر بوش “Bush” وتبناها أستاذ جامعيّ وسياسيّ خطير يهوديّ هُوَ “بول ولفوتز ” ” Paul Wolfowitz ” نائب رامسفلد في حينه، ثم مدير البنك الدولي. وشجع عليها وأجهضت جميع المحاولات الانقلابيّة ضد صدّام لكي يهيّأ لتفكيك الدولة العراقيّة طائفيًّا وعنصريًّا وفق خطة كانت موضوعة منذ عصر شاه إيران وتم تنفيذها في (إبريل 2003)؛ وذلك لتجريب نموذج لتفكيك الدول في المنطقة على هذا الأساس من التفكك بمقتضى ذلك النموذج ليتم تفكيك الدول العربية الأخرى (وراجعوا تقرير راند RAND) حول هذا الموضوع والخرائط الجديدة المقترحة للمنطقة.
إنّ محاولات كثيرة عبر التاريخ القريب والبعيد قد جرت لاحتواء سرطان الطائفيّة والفرقة فلم تفلح؛ لأنّها لم تُبن في نظرنا على أسس علميّة عميقة تؤسّس لوعي بالأولويّات ومستويات الأمور الدينيّة فكانت تقوم لقاءات وقد تناقش بعض المسائل الخلافيّة وتنتهي ببعض الاتفاقات التي سرعان ما تتبخر. وقد شهد عصرنا هذا قيام مجامع التقريب في مصر ولبنان وإيران لكنها لم تفلح في معالجة هذه الأمور. إنّ مراقبتنا لهذه الحالة ومنابعها والظواهر السلبيَّة التي ترتبت عليها، ودراستنا للواقع الغربيّ وكيف استطاعت المجتمعات الغربيّة أن تقدم وسائل عديدة لاحتواء الاختلافات النصرانيّة –النصرانيّة- واليهوديّة –اليهوديّة- واليهوديّة النصرانيّة مع أنّها كانت وما تزال أكبر بكثير من اختلافات المسلمين تجعلنا على يقين بأنّنا لو بذلنا جهودًا حقيقيَّة منهجيَّة مدروسة فسنتحرى هذه الظواهر السلبيَّة ونهيمن عليها بإذن الله (تعالى).
إن استمرار الفكر الطائفي والتعصب إليه سوف يؤدي إلى حرمان العالم من معرفة مزايا الإسلام والمسلمين وإيقاف الاتجاهات الجادة التي بدأت منذ فترة لا بأس بها للدخول في الإسلام في أقطار وشعوب مختلفة لذلك صار واجبًا على كل غيور على مستقبل هذا الدين والأمة التي تحمله والمحاضن العربية له أن يبذل قصارى جهده في معالجة هذه الظواهر السلبيّة المدمرة.
ولقد اختبرنا طرقًا كثيرة في الولايات المتحدة وخارجها لتحقيق هذا الهدف فما وجدنا وسيلة أكثر فعالية وقدرة في تحقيقه من إيجاد مؤسسات أكاديمية تحتضن طلبة من جميع المذاهب في برنامج مدروس دراسة علميّة دقيقة تؤدي إلى تخريج أجيال من حملة العلم الشرعيّ والاجتماعيّ قادرين على استيعاب وتنقية تراثنا من سائر مصادر بناء الفكر الطائفيّ وتعزيزه وتدعيمه ليتمكن هؤلاء ولو بعد وقت لن يكون قصيرًا أو سريعًا من إشاعة ثقافة الاعتدال وقبول التعدديّة وقبول الآخر بل النظر إلى ذلك الاختلاف والتعدد على أنه ظاهرة يمكن أن تتحول ببعض الجهود إلى ظاهرة صحيّة -إن شاء الله-.
الأهداف:
إيجاد جيل يتبنّى التسامح وقبول الآخر، والإيمان بالتعدديّة، وذلك يتحقق بما يلي:
أولاً: الإيمان بأنَّ الإنسان مهما علا قدره واتسع ذكاؤه لا يمكن أن يحيط إحاطة تامّة بالحقيقة المطلقة؛ بل هُوَ يقاربها مَا استطاع، والله (تعالى) هُوَ المحيط بالحقائق كلّها.
ثانيًا: التفريق بين الدين والتديُّن؛ فالدين وضع إلهيّ سائغ لذوي العقول يضعه الله (تبارك وتعالى) بكل تفاصيله بين يدي خلقه بطريق النبوات؛ وأمّا التديُّن فهو جهدٌ إنسانيّ يسعى به الإنسان لتمثُّل قيم الدين، فهناك من يتمثَّل تلك القيم المطلقة بنسبة عالية أو متوسطة أو ضعيفة كل بحسب طاقاته وقدراته وتوفيق الله (تبارك وتعالى) له، فلا ينبغي أن يكون ذلك مصدر استعلاء من طائفة على طائفة أخرى لمجرد أنّها فهمت تلك الحقيقة بفهم مغاير لفهمها.
ثالثًا: إشاعة ثقافة السؤال والجواب والحوار وبسط الآراء والمقولات بين طوائف وفرق ومذاهب المسلمين، فإذا كان الله (تبارك وتعالى) قد علَّمنا أن ندعو النصارى واليهود وأصحاب الأديان الأخرى للحوار والجدل، وأن نقول لهم: تعالوا إلى كلمة سواء، وأن نجادلهم بالتي هِيَ أحسن وأن نقول لهم ﴿.. وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾ (سبأ:24) فما بالك باختلاف بين المسلمين الذين تجمعهم الكلمة السواء والذين يتفقون على أهم الأصول ويختلفون حين يختلفون على فروع لها مراجعها التي يمكن –إذا خلصت النوايا- أن تحسم الخلاف فيها.
رابعًا: الاهتمام بالدراسات المعمِّقة في نشأة الطوائف والفرق الإسلاميّة وانتشار المذاهب والعوامل التي تؤثر في عمليّات انتشار الأفكار الطائفيّة والمذهبيّة وتحليلها وتفسيرها، وتوعية الأمّة بها.
خامسًا: إحياء تقاليد البحث والمناظرة بين طلبة العلم في الأمور الخلافيّة وإرجاعها لما هُوَ متفق عليه أو تعلّم كيفيَّة إعذار بعضنا لبعض، وتفهّم واحتواء الاختلافات في إطار التعدُّد.
سادسًا: نزع فتيل الاحتقان الطائفيّ من العالم الإسلاميّ والحيلولة دون استغلاله لتحقيق مزيد من التفتيت، والتفرقة والتفكك.
سابعا: إعادة مَا يمكن من بناء الوحدة الوطنيّة والتداول السلميّ للسلطة، وإطلاق الحريّات بأنواعها في البلدان المبتلاة بالاضطرابات الطائفيّة وهي كثيرة.
ثامنًا: الوصول إلى صيغة قبول الآخر واحترامه، وعدم مصادرة حقوقه وحريّاته، وتجاوز قضايا التكفير والنسبة إلى البدعة والفسق وما إليها.
بناءً على ذلك يجب علينا تكوين شبكة من الواعدين المهتمين باحتواء وتفكيك الفكر الطائفيّ من الشيعة والسنّة، والمذاهب الإسلاميّة الأخرى لتحقيق التعايش والتواصل والتفاهم في قضايا الخلاف بين المذهبين، وسائر المذاهب الأخرى، والكشف عن مناطق الالتقاء والتقارب، ويدّرس هؤلاء الطّلاب عدد متساوي ومتكافئ من الأساتذة الشيعة والسنّة، من المؤمنين بأهداف ورسالة البرنامج ولديهم الاستعداد لتبنّي تفاصيله وتدريسها ومساعدة الطلاب والباحثين على استيعابها.