أ.د/ طه جابر العلواني
في موضوع السُنَّة والشيعة سارت الأمور منذ ولادة إسرائيل وحتى اليوم باتجاه آخر قد يضاف إلى الاتجاهات الموروثة وقد يختلف بعضها عنها، فالمسؤولون عن الاستراتيجيَّة اليهوديَّة في إسرائيل وأمريكا وأوروبا منذ عهود الاستشراق الأولى إلى أن تكون الاستشراق اليهودي وبدأ يأخذ موقع الصدارة في إرث التراث الاستشراقي الغربي كله ويضيف عليها، فقد اعتبر هؤلاء أنَّ الخلافات بين السنة والشيعة هي أسلحة ومتفجرات خطيرة للغاية، ينبغي أن ينظر إليها المسؤولون عن تلك الاستراتيجيَّات على أنَّها أخطر الأسلحة الاستراتيجيَّة التي ينبغي أن تستعمل في الوقت المناسب.
وحين غير النظام الإيراني بقيادة الشاه، وقام على أنقاضه نظام تقوده تيارات علمائيَّة شيعيَّة وحركات إسلاميَّة إيرانيَّة بقيادة الخميني وسيطرت على مقاليد الدولة هناك؛ اتخذ صناع الاستراتيجيَّة اليهوديَّة بين اليهود المسيحيين (Jewish–Christian) ومن إليهم من قادة الرأي في إسرائيل وأمريكا والغرب قرارًا بأنَّ الوقت قد حان لاستعمال وتوظيف الخلاف بين السُّنة والشيعة؛ لدرء الخطر الإسلامي عن إسرائيل وحماية أمنها، وحماية المصالح الغربيَّة في المنطقة من أي صحوة إسلاميَّة قادمة يمكن أن تقوم في المحيط السني، وفي عهد كارتر بالذات وبعد فشله بحملة صحراء “طبس” اتخذ قرارًا بضرورة تنشيط الشيعة في بلاد السنة، ودفعهم إلى إيجاد طائفة شيعيَّة ولو قليلة في كل بلد سني ليس فيه شيعة، وتقوية الأقليَّات الشيعيَّة في البلدان السنيَّة، ودفعها للوصول إلى مراكز قياديَّة، وأمَّا البلدان الشيعيَّة فينبغي أن تنشط فيها العناصر السنيَّة لتهيئة الجميع للتصادم عندما يحين الوقت المناسب لذلك، وتشتد الحاجة إلى توظيف ذلك التراث.
ونحن نعلم أنَّ الحوزات الدينيَّة الشيعيَّة كانت في عهد الشاه تحت قيادة من يحملون ألقاب آية الله، فلكل آية من هؤلاء حوزته، وتلامذته، وأخماسه، ومقلدوه، كان عددهم حين نُفي الخميني لا يزيد عن عشرين، وبعد عودة الخميني وانتصار الثورة بقيادته تضاعف عدد الآيات ليقترب الآن من أربعمائة آية من آيات الله، وبدأت عمليَّة توزيع لأعداد من هؤلاء على القارات الخمسة، ويتم دعمهم من الدولة بأموال طائلة لتأسيس حوزاتهم في تلك المهاجر والبلدان، فصار في أمريكا وحدها أربعة آيات، وهناك آية أو أكثر في كل قارة من القارات، بما في ذلك تايلند وإندونيسيا وباكستان وأفغانستان وبريطانيا وفرنسا وغيرها، وأسست لهم مكاتب وحوزات ومدارس تجند لهم الأتباع.
كما أنَّهم أسسوا ما سمي بالمعهد العالمي للعلوم والحضارة الإسلاميَّة في “قم”، وعددًا من الجامعات وكليَّات الدعوة التي انفتحت على طلبة سُّنة أو مسلمين جدد من مختلفي أنحاء العالم، وعدد طلاب هذا المعهد لا يقلون عن عشرة آلاف، كلما تخرج فوج أتوا بأفواج أخرى، وصار المتخرجون في ذلك المعهد روافد حية لتلك الحوزات التي تنشأ في بلدانهم بعد تخرجهم، وهم دعاة مؤهلون ومجندون لنشر المذهب، حدث ذلك في وقت قلصت السعوديَّة من البعثات وقبول الوافدين من البلدان الإسلاميَّة المختلفة التي كانوا يفدون إلى جامعتها مثل: الجامعة الإسلاميَّة في المدينة المنورة، وجامعة محمد بن سعود في الرياض، وجامعة أم القرى في مكة وغيرها، وكان الأزهر أيضًا يمر بحالات تحول وانكماش وضعف مالي، بعد أن فقد لأسباب كثيرة كثيرًا من أوقافه، وبذلك أتيحت الفرصة أمام المد الشيعي للامتداد في الفراغ السني المقيد المكبل بالقيود الرسميَّة والماليَّة وما إليها.
وأدركت إسرائيل وأمريكا والغرب بصفة عامَّة أنَّ نظام “سايكس بيكو” الذي نجم عن الحرب العالمية الأولى، وقبل قيام إسرائيل يجب أن تتخذ كل الاستعدادات لاستبداله وتغيره بنظام دولي جديد، يضع في حسابه أمن إسرائيل، وتغيُر الأقطاب في العالم؛ لتؤول القطبيَّة إلى أمريكا وحدها، فالنظام العالمي السابق قد اعتمدت فيه بريطانيا ومعها فرنسا على السُّنة في العراق والشام وغيرها، وآن الأوان في هذا التغيير المنتظر أن تعطى فيه السيادة والأولويَّة للطائفة الشيعيَّة بعد التفاهم حول حماية أمن إسرائيل، وضمان المصالح الغربية البترولية وغيرها في المنطقة، وفي هذا الإطار حول شاه إيران إلى شرطي للمنطقة، قبل أن ينهار نظامه، وكان أول من اعترف بإسرائيل، وأقام تمثيلًا قنصليًّا بينه وبينها في الستينيَّات.
وتتابعت الأحداث ووصلنا إلى الواقع الحالي، والشيعة والسُّنة موجودون في هذه المنطقة، وسيستمر وجودهم فيها، ولن يُفني أحد منهما الآخر، ولابد من بناء نوع من ثقافة التعايش المشترك، وتشكيل خطاب سني جديد ليس طائفيًّا ولا عنصريًّا ولا تكفيريًّا ولا إقصائيًّا، تتم صياغته بمنتهى الحكمة والحذر، ويعمل في هذا وفق منهج جديد دقيق، يعتمد على التسليم بوحدة المرجعيَّة في القرآن، ووحدة القبلة، والوحدة فيما يتعلق بالنبوة والرسالة، ووحدة المصير والغاية والمقصد، والتأصيل لفكر تحاور مستمر، وتعليم يزيل جهل كل منهما بالآخر، ويحمل كل منهما على احترام أهم خصوصيَّات الآخر.