إجابات أسئلة تركيا:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
- ما المراد بفقه الأقليات؟
1-إجابة السؤال الأول
كلمة فقه تعني في كتاب الله الفهم والمعرفة ومنه قوله (تعالى): ﴿.. لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة:122).
وذم الله (جلّ شأنه) الذين ﻻ يفقهون ﴿.. وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ﴾ (المنافقون:7) ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا…﴾ (الأعراف:179) ﴿ …وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾ (الأنفال:65) ﴿ ..ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾ (المنافقون:3) أي ﻻ يتمتعون بقدرة على الفهم للأمور الدقيقة التي تقتضي التفكير.
وبعد ازدهار عصر الفقه في القرن الثاني الهجري وماتلاه، صار الفقهاء يطلقون كلمة الفقه على فهم المعارف الدينية، ويستعملونه للدلالة على معرفة الأحكام الشرعية المكتسبة من الأدلة التفصيلية في الكتاب الكريم، وتطبيقاته في السُنة النبوية المطهرة وصار تعريفه: معرفة الأحكام الشرعية العملية المكتسبة من الأدلة التفصيلية، فإذا أضفنا إلى الأقليات ومفهوم الأقليات مفهوم سياسي وإداري للتمييز بين الأقليات والأكثريات، فكل بلد تعيش فيه مجموعات متنوعة في عروقها أو أديانها أو أصولها، تعيش في بلد لم تنتم إليه إلا بطرق استثنائية كالهجرة وما إليها، وتعتبر فيه أقلية، فتكون الكلمة مـُركبًا إضافيًا يدل على معرفة بالأحكام الشرعية المتعلقة بتلك الأقلية المسلمة التي تعيش وسط أكثرية غير مسلمة، كاﻷتراك في ألمانيا والعرب ومثلهم في أمريكا والإندوباك في إنجلترا وأمريكا وما إليها.
- لماذا تتبنى فقها خاصا للأقليات المسلمة؟
2-إجابة السؤال الثاني
إننا اخترنا أن نبني للأقليات المسلمة التي تعيش بين أكثريات غير مسلمة فقها إسلاميًا يستجيب لاحتياجات تلك الأقليات، فالفقهاء المسلمون أثناء الحروب الصليبية وفي الأندلس كانوا يلجأون -عندما يجدون المسلمين وقعوا تحت احتلال أو غزو أو كوثروا بغير المسلمين حتى أصبحوا أقلية- إلى فقه النوازل. وفقه النوازل ينطلق عادة من الإحساس بالدونية ووجود مصيبة عارضة تُفرض على هؤلاء أن يغيروا في نظام حياتهم نتيجة تلك الظروف. ولما كانت الأقليات المسلمة ذهبت للعيش في الغرب باختيارها؛ بحثا عن العمل أو تحت ضغط ظروف مختلفة في بلدانهم الأصلية، وحذرًا من أن يعيشوا الإحساس بالدونية ويساورهم القلق المستمر بأن مواطنهم الجديدة ليست بأوطان دائمة وأنهم يعيشون فيها تحت ضغوط الضرورة وما إليها. فرغبنا أن نبتعد عن هذا الاصطلاح وأمثاله، أي عن فقه النوازل والمنطلقات التي ينطلق منها الفقهاء الذين يفتون عادة في قضايا النوازل. ولنخرج عن إطار الضرورات -بحيث يشعر المسلم بأنه يعيش في وطن جديد، هو جزء من أرض الله (جل شأنه) وهذا ينسجم مع مفهوم الدار الذي جاء القرآن به، فإن الأرض كلها لله، خلقها لبني آدم، فهم من الأسرة البشرية الكبرى؛ لتكون سكنًا وأمنا لهم جميعا، وهذا السكن قابل للتغيير والاستبدال بحسب احتياجات الإنسان وضروراته وينبغي أن تبقى أرض الله واسعة، مفتوحة بشكل كامل لسائر أبناء آدم وحواء؛ ولذلك فإن فقه الأقليات يمكن أن يحقق للمجموعات البشرية المسلمة، ذلك الشعور بالاطمئنان، ويزيل عنها الشعور بالاغتراب والفصام عن الأرض وعن من يشاركهم العيش فيها بل ينتمون إليها ويشعرون بالمودة والاستعداد للاندماج في البيئات الجديدة وإعطائها من الحب والتقدير والحرص والرغبة فى إعمارها ما تستحق.
- وما الهدف منه؟
3-إجابة السؤال الثالث
إنَّ أهم هدف استهدفناه من وراء تأسيس فقه الأقليات أن نجد الاحتياجات الشرعية والفقهية للذين انتقلوا للعيش في بلدان أكثرية سكانها من غير المسلمين، وأن نزيل عنهم الحرج الذي يحدث عندما يستفتون فقهاء قادمين من بلدان مسلمة في أكثريتها لها نظم وحياة مختلفة عن حياة الغربيين، فيفتونهم بما ﻻ يناسب بيئاتهم فيصيبهم بذلك حرج وعنت، وما جعل الله في الدين من حرج. ففقه الأقليات يساعد فقهاء الأقليات المسلمة في الغرب أن يدركوا الفروق بين البيئات المسلمة والبيئات الغربية فتكون فتواهم أقرب للصحة والدقة ومساعدة الأقليات المسلمة على أن تحيا في الغرب حياة إسلامية بدون تلك السلبيات التي أشرنا إليها.
- ما هي المسئولية التي تقع على عاتق الأقليات المسلمة؟
4-إجابة السؤال الرابع
إن أهم مسؤولية تقع على عاتق المنتمين إلى الأقليات المسلمة أن يحيوا بين أبناء الأكثرية حياة إسلامية صحيحة، فيكونوا نموذج في حُسن أخلاقهم وسيرهم وتعاملهم مع الآخرين وانضباطهم وآداء ما عليهم من واجبات، والحصول على حقوقهم بالطرق السلمية الموافقة للنظم القائمة، بحيث يشكل المسلم لتلك المجتمعات إضافة إلى تقديم النموذج بكل حياته إلى الآخرين وهو ما نسميه بالدعوة الصامته. فإن الناس حين يستحسنون من إنسان خلقًا وسلوكًا يسألون كيف اكتسب ذلك الخلق؟ وكيف وصل لذلك السلوك؟ فحين يقول لهم ذلك ما تعلمته من ديني، ذلك يُعد من أفضل الدوافع وأهمها التي تدفعهم لحب ذلك الدين والمنتمين له، والشعور بأنهم بذلك إضافة حسنة لمجتمعاتهم، وليسوا عبئا عليها يخالفون أنظمتها ويتحدون قيمها ويغيرون في نظم حياتها.
5- فقه الأقليَّات لا يحاول أن يؤسِّس لتطبيق الشريعة الإسلاميَّة بين الأقليَّات المسلمة ويعزلها عن الأكثريَّات التي تعيش بينها، وذلك لأنَّ الأمور الشرعيِّة والفقهيَّة أنواع، بعضها يجب على الأفراد، ويتعلق بالأسر، مثل: العبادات، وقضايا الأسرة من زواج وطلاق وميراث ونحوه. وهناك أمور تتعلق بالدولة. فما يتعلق بالأقليَّات المسلمة يتعلق بأفراد ويتعلق كذلك بأسر، وأما ما يتعلق بالدولة فلا تطالب الأقليَّات به، فأقصى ما يطلب منها أن تحافظ على انتمائها الديني الإسلامي والتمسك بالأخلاق الإسلاميَّة، والبعد عما حرمه الله (سبحانه وتعالى) في سائر الأديان، كما هو الحال بالنسبة للوصايا العشر وما إليها، وتبتعد عما يجعلها تعيش في عزلة عن الأكثريَّة، وذلك لا يعطيها أو لا يفرض عليها انعزالًا عن الجسم الكبير الذي تنتمي إليه في هذه البلدان التي تعيش فيها.
والأجيال الجديدة الطالعة التي تولد في الأقطار التي لا تتمتع بأكثريَّات مسلمة، وتنشأ في تلك البلدان ولا تعرف لها انتماءً خارج حدود تلك البلدان، فقه الأقليَّات لا يغيِّر ولاءها لبلدانها، ولا للشعوب التي تعيش بينها، ويختلف المسلمون عن اليهود في هذه الناحية اختلافًا كبيرًا.
ومن هنا فإنَّ هذا النقد لا يوجه لفقه الأقليَّات؛ لأنَّه لا يعدو أن يساعد المسلم على المحافظة على انتمائه الديني، فيبقي على إسلام المسلم وإيمانه وعباداته، وسلوكه الأخلاقي، ويرقى به إلى أعلى المستويات الفاضلة في التزامه في القيم والسلوك، واحترام النظم والقوانين التي لا تتعارض مع معتقده ودينه، وبذلك فإنَّ فقه الأقليَّات يساهم مع سائر المؤسَّسات في تلك البلدان الأوروبيَّة والأمريكيَّة واستراليا وكندا على جعل المسلم مواطنًا صالحًا، يحسن لمواطنيه، ويساعد في بناء مؤسَّسات البلد، ويخلص في عمله، ولا يخرق أي نظام لا يتعارض مع القيم الأخلاقيَّة التي هي قيم مشتركة، وبذلك فإنَّ فقه الأقليَّات يشكل إضافة معتبرة وأساسيَّة في ما يعد اندماجًا للمسلمين في تلك البيئآت، والمسلمون يستطيعون أن يقدموا لتلك البلدان من دينهم وكتاب ربهم حلولًا لكثير من المشكلات التي تعاني منها، والله أعلم.
6- القرآن الكريم كلام الله، لا مبدل لكلماته ﴿.. لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (الأنعام:115)، والقرآن كلام العليم الخبير، خالق الإنسان والكون والحياة، وهو أعلم بما يحتاجه الخلق، ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ (الملك:14)، ﴿قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (الحجرات:16)، فمنزِّل القرآن (جل شأنه) نزله وجعل بعضه مكنونًا في كتاب مكنون ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ﴾ (الواقعة:77-78)؛ ليتكشف القرآن عبر العصور عن معان من شأنها أن تغطي حاجات الناس في كل عصر، وتبقى للقرآن الكريم هيمنته، وتصديقه، لا تهيمن عليه عقول البشر، فتتحكم بمعانيه كما تريد، بل يكشف القرآن نفسه عن ذاته، ويفسر نفسه بالكشف عن مكنوناته، ليلبي احتياجات البشر عبر العصور. وعلى من يقرأ القرآن أن يقرأه بتدبر ويسخر قوى وعيه كلها لإدراك معانيه ودلالاته، وعدم تجاوزها بأي حال من الأحوال.
أمَّا كتب التفسير والتراث فنحن لسنا ملزمين بالأخذ بها كما هي، ولا بمتابعتها كما هي، وإذا كنا غير ملزمين من الله (جل شأنه) بمتابعة الآباء وأفهامهم وتفسيراتهم فلا يمكن أن نكون ملزمين بمتابعة المعاصرين الذين يريدون أن يخضعوا القرآن لشهواتهم ورغباتهم، ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾ (الزخرف:23)، ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ﴾ (الزخرف:22)، فللقرآن الكريم الكلمة العليا في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل، وهو المصدق المهيمن، والله أعلم.
7- نحن لا نتحدث عن إسلام عربي وإسلام تركي، وما كان الإسلام إلا دينًا واحدًا جاء به أنبياء الله كافَّة، بدأ بإبراهيم (عليه السلام)، ومن قبل إبراهيم نوح (عليه السلام) وختم بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا يتصور أنَّ ما نطرحه اليوم يؤدي إلى ظهور صيغ أو طبعات مختلفة للإسلام، فالإسلام دين الله الواحد، جاء به الأنبياء كلهم، وأمرنا الله تعالى بأن نؤمن بهم كلهم، ﴿قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (البقرة:136)، ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (البقرة:133-134)، فذلك ما نؤمن به، وذلك ما جاء الإسلام به، فالإسلام ينظر إلى البشريَّة كلها على أنَّها أسرة واحدة ممتدة، وأنَّ الأرض كلها هي بيت وسكن لتلك الأسرة الممتدة، وجميع الاختلافات بين البشر في الألوان والأعراق والألسن والمذاهب والأديان؛ ليتعارف الناس، لا لتعميق اختلافاتهم. والله (جل شأنه) قد أخبرنا أنَّ الأنبياء أمَّة واحدة ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء:92).
8- المعارف الموروثة والمناهج التقليديَّة قد لا تكون باعتبارها جهودًا بشريَّة تتعلق بمشكلات مجتمعات تختلف في اقتصاديَّاتها ومشكلاتها وقضاياها عن المجتمعات الأمريكيَّة والأوروبيَّة وما إليها، وقد لا تكون مشتملة على الحلول التي نحتاجها، لكن الكليَّات القرآنيَّة والقيم القرآنيَّة الحاكمة كـ(التوحيد والتزكية والعمران والأمَّة والدعوة) وتقديم كل ما يساعد الإنسان على حفظ نفسه، وماله، ودينه، وعرضه، وعقله، قد كفلها هذا القرآن المشتمل على هذه المبادئ والأساسيَّات والمقاصد العليا الحاكمة. فهذا القرآن يستطيع أن يقدم إذا أحسنا فهمه وتدبره والتزمنا به ما لا يقدمه أي مصدر آخر وجد في الماضي أو الحاضر أو قد يوجد في المستقبل، في معالجة مشكلات مجتمعانا المعاصرة التي ترزح تحت وطأة مجموعة كبيرة من المشكلات، ومنها تفكك الأسرة، وانتشار الجريمة، والتفريط بحقوق الأطفال، والنساء، والطبقات الفقيرة، وانتشار أسلحة الدمار الشامل، واستعلاء الشعوب القويَّة على الشعوب الضعيفة، كل هذه المشكلات يعلمنا القرآن المجيد سبلًا أو طرقًا ومناهج للخروج منها، والتخلُّص من آثارها، إذا عرفنا كيف نرجع إليه رجوع المتدبرين العالمين بحقيقته، المدركين لما فيه، القادرين على استنباط الحلول منه، والله أعلم.
9- هذان الاصطلاحان: (دار الحرب، ودار الإسلام )كانا مجرد مصطلحين أطلقهما الإمام محمد بن الحسن الشيباني، صاحب أبي حنيفة ومستشار هارون الرشيد، حين سأله هارون الرشيد عن تصوره لتصنيف العالم آنذاك؛ فذكر (دار الإسلام، ودار الحرب).
وأراد بدار الإسلام: الدار التي تطبق فيها الشريعة الإسلاميَّة، وتخضع لحكم الخليفة المسلم في بغداد، ويدخلها الناس بأمان من ممثلي ذلك الخليفة وحكومته.
كما أطلق دار الحرب: على البلدان التي لا يستطيع المسلمون أن يأمنوا فيها على حدودهم أو حدود بلادهم ولا على أنفسهم وتجاراتهم، ولا على مياههم الإقليميَّة؛ وذلك للتوجيه نحو ضرورة أخذ الحيطة والحذر، لحماية الدولة العباسيَّة بحدودها الكبرى آنذاك.
وزاد الشافعي (دار العهد) للبلدان التي ترتبط مع دار الخلافة بمعاهدات تحميها وتحترمها، ويأمن المسلمون جانبها.
وكلها اصطلاحات فقهيَّة قابلة للتعديل والتبديل، وبفضل الله (تعالى) استنبطنا من القرآن الكريم بدائل لهذه المصطلحات وهي:
(دار الإجابة): انطلاقًا من قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ (آل عمران:172)، ﴿لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ (الرعد:18)، ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ (الشورى:38)، فالمسلمون والمؤمنون يندرجون تحت هذا العنوان: أمَّة الإجابة، وأراضيهم تعد دار إجابة.
يقابلها الدار الأخرى التي كانت تسمى بدار الحرب، نسميها (دار الدعوة)، فألمانيا وأوروبا بالنسبة لنا اليوم ليست بدار حرب، وليست بدار إجابة، وإنَّما هي دار وبلدان تفتح صدورها للاستماع إلى كل الآراء وإلى كل الدعوات، وتعطي للناس حريَّة الاختيار؛ ولذلك فهي بالنسبة للمسلمين (دار دعوة)، وأهلها نطلق عليهم أمَّة الدعوة، بدلًا من الألقاب الأخرى.
وللحروب اليوم فيما عدا قضيَّة إسرائيل أسباب مختلفة لا تتعلق بالدين، بل بالإقتصاد، وبالسياسة، وما إلى ذلك، والله أعلم.
10- هناك دروس يمكن أن نستفيدها من تاريخنا بالشكل التالي:
أولًا: أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة، حين قال لهم: “لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإنَّ بها ملكًا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم مخرجًا مما أنتم فيه”، فكأنَّه أمرهم بعد الاضطهاد الذي عانوه في مكة بأن يهاجروا إلى بلد ليس فيه ظلم، بل عدل، وفي ذلك إعلاء لقيمة العدل، وقد ينطبق هذا على المضطهدين الذين غادروا العالم الإسلامي، نتيجة استبداد حكَّام بلدانهم وظلمهم لمواطنيهم، ومصادرتهم لحريَّاتهم وما إلى ذلك.
ثانيًا: يمكن أن نستقي دروسًا كثيرة من الأندلس حيث إنَّ المسلمين بعد أن كانوا أسيادًا في الأندلس بما حملوه لأبنائها من دين وعدل وحماية للحريَّات ودعوة؛ فاستقر حكمهم. وحين بدأ حكَّامهم بالانحراف، ودبت الفرقة بينهم، وتخلوا عن قيم الدين، والتمسك بكتاب الله، وتناسوا من هم، وكيف جاؤوا إلى تلك البلاد، كانت النتيجة بعد أن توقفوا عن الدعوة إلى الله، وانشغلوا بالجواري والغلمان، وتخلو عن دعوة الله، وقيم الإسلام، أن أجبروا على مغادرة الأندلس أذلاء مكسورين، لينتشروا في البلدان المجاورة، هم والأقليَّة اليهوديَّة التي كانت معهم في الأندلس.
فمصير المسلمين في أوروبا إذا أريد له أن يكون مصيرًا حسنًا جيدًا، يستمتع المسلمون بالعيش في أوروبا دون حاجة إلى مشاكل فإنَّ عليهم أن يتمسكوا بالأخلاق الإسلاميَّة، والقيم العليا القرآنيَّة، وينتصروا دائمًا للعدل والحريَّة، والمساواة، والقيم الأخلاقيَّة، فلا يكذوا ولا يسرقوا ولا يظلموا ولا يزنوا، فيقدمون للناس النموذج والقدوة الحسنة آنذاك سيعتبرهم الجميع أنَّهم الإضافة الخيِّرة لبلدانهم التي يحتاجونها؛ فيتمسكون بهم، ويناصرونهم في قضاياهم.
ثالثًا: نستطيع أن نستخلص الدرس مما فعل عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) حين أدخل الإسلام والمسلمين إلى مصر، حيث إنَّه لم يوافق على غزو وفتح، بل أرسل بأربعة آلاف وأمرهم بأن تكون لهم مدينة خاصَّة يعيشون فيها حياة إسلاميَّة نموذجيَّة؛ ليراهم أقباط مصر، وينظروا إليهم فيعجبوا بطريقة عيشهم، وتماسكهم، ويتجاوزون بذلك الإعجاب تلك الحدود ليبلغوا إلى مستوى الإعجاب بدينهم، ثم الإيمان به. وفعلًا بنى المسلمون الفسطاط، وأقاموا فيها مجتمعًا نموذجيًّا، يستظل بقيم الإسلام، يسوده العدل، والمؤاخاة، والحريَّة، والمساواة، فكان القبط حين يذهبون لزيارة الفسطاط ورؤية المسلمون يعيشون الإسلام حيًّا؛ يعجبون به، وبهم. وهكذا دخلت مصر الإسلام، لا بالسيف، ولا بالفتح، ولا بالقوة، بل بضرب المثل الأعلى، والقدوة الحسنة، وهذا درس قد يكون صعبًا، لكن اليهود منذ زمن وهم يهتمون بحياتهم الخاصَّة، والعيش المشترك في الجيتو، والمسلمون يستطيعون أن يعوِّدوا أنفسهم على أن يعيشوا حياة إسلاميَّة يضرب بها المثل. والله أعلم.
11- أرى أنَّ لجواب السؤال الحادي عشر: هناك جامعات كثيرة في أمريكا قد خطت هذه الخطوة منذ عقود من السنين، وفتحت أقسامًا للدراسات الإسلاميَّة تتجاوز خمسمائة قسم، منتشرة فيما يزد عن أربعة آلاف جامعة في الولايات المتحدة، وقد أسهمت هذه الأقسام إسهامًا جيدًا في التعريف بالإسلام والمسلمين عندما تولاها أساتذة مسلمون أو نصارى موضوعيُّون، لا يحملون عداءً أو حقدًا على الإسلام والمسلمين، وأحيانًا تكون ضارة حين يتسلمها حاقدون على الإسلام، رافضون للوجود الإسلامي في أمريكا وأوروبا.
فاحرصوا على أن تساعدوا تلك الجامعات في اختيار أفضل الأساتذة وأحسنهم وأكثرهم موضوعيَّة، وبحثًا عن الحقيقة، واحرصوا أن يكونوا من بين المسلمين الألمان؛ ليكون ذلك وسيلة لحسن التعريف بالإسلام والمسلمين. والله أعلم.