Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

حوار المقاصد القرآنية الحاكمة كاملا

بسم الله الرحمن الرحيم

  

 حول

المقاصد القرآنية الحاكمة

 التوحيد والتزكية والعمران

أجرت الحوار الدكتورة زينب العلواني

 

 

السؤال الأول : خلال عملي في اعداد رسالتي حول المقاصد (تفعيل المقاصد في قضايا الأسرة الزواج والطلاق: أمريكا انموذجاً)، اكتشفت أن مقاصد الشريعة يمكن أن يكون لها هيكل كلي تتفرع عنه هياكل جزئية لمختلف الجوانب المتعلقة بحياتنا الإسلامية وقد لفت نظري أن العلماء قد اختلفوا في تناولهم للمقاصد الشرعية اختلافات كثيرة. فالتيار الأعم والأشمل هو التيار الذي جعل من مقاصد الشريعة وسيلة لبيان فضائل الشريعة الإسلامية وبيان مزاياها وحكمة التشريع فيها مما أدى إلى قيام بعض الكاتبين بالتساؤل وماذا بعد؟ وكيف نفعّل هذه المقاصد في حياتنا التشريعية ونربط مختلف القضايا بها ونستخرج منها أحكاماً مثل تلك التي استنبطها الأصوليون وصنفوها إلى أحكام وضعية وتكليفية.

وقد وجدت أن هناك اجماعاً غير معلن بين حملة التجديد في أمتنا المسلمة في القرنين الأخيرين على استدعاء المقاصد وتفعيلها باعتبارها الوسيلة الأساس، والبديل الأفضل، عن محاولات تجديد أصول الفقه والفقه بأشكال مختلفة. لكنني وجدت أن دعاة التجديد وهم أئمة كبار مثل الشيخ محمد عبده، ورشيد رضا وتلميذه حسن البنا، والعلماء الذين ظهروا بالقارة الهندية من ورثة حركات التجديد التي برزت على أيدي الشيخ شاه ولي الله الدهلوي. وكذلك في إيران على أيدي علماء كبار أمثال  النائيني الذي حاول تجديد علمه واطروحاته الشيخ محمد مهدي شمس الدين. هؤلاء كلهم وفي المغرب العربي وسواه مثل ابن بادييس والبشير الأبراهيمي وابن عاشور، كل هؤلاء كانوا يرون أن استدعاء مقاصد الشريعة وتفعيلها هو السبيل الأهدى والأكثر فاعلية لتجديد أصول الفقه والفقه.

وكأن هناك اتفاقاً ضمنيا بين هؤلاء وعلماء التجديد كافة، على ضرورة مراجعة كثير من مباحث أصول الفقه وأبواب الفقه، والعمل على جعل هذين العلمين المتلازمين أقدر على الاستجابة للإحتياجات الشرعية والفقهية الكثيرة والمتجددة والمعقدة في عصرنا هذا. وقد وجدت أن هناك نوعاً من المزج بين المقاصد التي تحدث عنها نحو أمام الحرمين والغزالي والعز والشاطبي وآخرون وبين محاور القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.

وأحياناً ألمس شيئاً من المزج بين الحِكم والعلل مما لا تخفى الفروق بينها لدى المتخصصين. فأجد أحياناً من يقترح زيادة مقصد ( الحرية) كما فعل ابن عاشور أو العدالة كما فعل الشيخ محمد الغزالي، أو حقوق الإنسان كما اقترح آخرون ولا شك أن الحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان وأداء الأمانات هي كليات قرآنية أساسية وهي مقصودة للشارع، والأدلة على ذلك كثيرة. لكنني أريد الوصول إلى تلك المقاصد التي يمكننا بتفعيلها أن نستجيب لتحديات عصرنا، ونثبت صلاحية الإسلام، وعقيدته وشريعته ومنهاجه لكل زمان ومكان، ليتفق ذلك مع اطروحاتنا القائمة على أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، وقادر على تكوين الأنساق الثقافية والحضارية.

وبما أننا نعيش في الغرب، ونواجه تحديات يومية، ونشارك أهلها خيرها وشرها. فإنني لا أريد أن أرى أن كل من يستفتى عن شئ يهرع إلى فقه الضرورة وما إليه، ليجيب عن تلك التحديات، أو يهرع إلى أمر قد تعلمنا في دراستنا لإصول الفقه أنه غير مقبول، وهو القياس على أقوال المتقدمين من الفقهاء التي ثبتت بالقياس، وكما لا يخفى عليكم أنه ممنوع عند الأصوليين لأنه سوف يؤدي إلى إثبات أحكام أو فتاوى بالقياس على ما هو ثابت بالقياس، وذلك أمر ممنوع لديهم باتفاق وان استعمله كثيرون.

من هنا فقد اهتم الكثيرون باطروحاتكم القائمة على أن “المقاصد القرآنية العليا الحاكمة” تنحصر في مقاصد ثلاث بناء على استقراءكم القرآن الكريم من سورة الفاتحة حتى سورة الناس والتي حددتموها بثلاثية “التوحيد والتزكية والعمران”.

 وقد لاحظت اضطراباً في الآراء حولها، فالبعض يرى ضرورة انحصار هذه المقاصد بالثلاث المذكورة. والبعض يرى أنكم قد طرحتموها بدون أن تبينوا لنا وسائل لتفعيلها، أو بناء أصول وفقه عليها. وبعضهم أراح نفسه واعتبرها اطروحة كسائر الاطروحات التي سبقتها تصب في إطار فضائل الشريعة. ولذلك فقد رأيت أن أحاوركم في هذا الأمر رغبة في جلاء هذه الاطروحة، ومساعدة القراء خاصة المعنييّن بالفقه وأصوله على معرفة مفردات هذه الأطروحة. وكيف توصلتم إليها، وما هي وسائل تفعيلها وآليّاتها الإجرائيّة، التي يستطيع الأصوليّ والفقيه استعمالها وتوظيفها للحصول على أحكام مستمدة من القرآن باعتباره المصدر المنشئ للعقيدة والشريعة والمنهاج، والسنة النبوية باعتبارها مصدر التفعيل والـتأويل والتطبيق في الواقع المعاش.؟؟ !!

 

الإجابة:

الحاجة إلى التجديد في المنهج:

لقد بدأت دراساتي في العلوم النقلية في عام 1949م ودرست العلوم الشرعية على أيدي مشايخ كانوا يدرّسون في المساجد على الطريقة القديمة وحصلت على اجازات من كثير منهم ومن هؤلاء الشيخ عبد العزيز السامرائي، وشيخي إمام العراقين عراق العرب وعراق العجم الشيخ أمجد الزهاوي، وقد أجازني في الفقه الحنفي وأصوله، وشيخي حفيد أبي الثناء الذي أجازني إجازة عامة، وشيخي قاسم القيسي مفتي العراق حتى وفاته عام 1954م، وشيخي عبد القادر الخطيب، خطيب جامع الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، وكان إماماً في علوم القرآن الكريم والقراءات خاصة، وشيخي محمد القزلجي. ثم شيوخي المصريين وفي مقدمتهم الأخوان الشيخان مصطفى وعبد الغني عبد الخالق، والشيخ مصطفى مجاهد، والشيخ طه الديناري، والشيخ جاد الرب رمضان، والشيخ محمد السايس، والشيخ عيسى منون، ثم شيخي الأخير الذي تتلمذت عليه في المملكة العربية السعودية وهو الشيخ عبد العزيز بن باز، أما الشيخ ابن عثيمين فقد كنا كثيراً ما نتحاور ونستفيد من حواراتنا وكان يعُدني من زملاءه ، وكذلك محمد بهجت الأثري رحم الله الجميع وجزاهم عني خير الجزاء.

 

وبعد أن فرغت من دراساتي تلك بل وقبل أن أفرغ أو أن أحمل الإجازات والشهادات، كنت قد بدأت بتدريس تلك العلوم في الحلقات والمساجد وفي الكليات والجامعات، حيث كنت ولعشر سنوات أدرّس الفقه وأصوله في جامعة الامام محمد بن سعود الإسلامية، وكنت قد أشرفت على عشرات الرسائل ولي عشرات الطلاب الذين أعتز بهم، والذين يتسنمون الآن كراسي الأستذة في جامعات شرقية وغربية مرموقة.

وبعد تلك الرحلة الطويلة وجدت نفسي في الولايات المتحدة مقيماً هناك وقد سلخت من عمري خمساً وعشرين سنة في تلك البلاد وما أزال مقيماً فيها. توجه إلي في كل يوم وليلة ما بين سبعة إلى عشرة من الأسئلة عن موقف الشريعة الإسلامية أو حكمها في قضايا، خمس وتسعون بالمئة منها مستجدة لم تعرض لفقهاءنا من قبل ولا أجد لها في المطولات: مغني ابن قدامة، ومحلى ابن حزم،  والمبسوط للسرخسي، والأم للشافعي، إجابات يمكن أن ينشرح لها الصدر أو يطمئن لها القلب. بل معظم تلك الإجابات التي كنت أستقيها من أمات المطولات الفقهية للمذاهب الثمانية السائدة تحيك في صدري وتشغلني كثيراً لدرجة يضيق بها صدري ولا ينطلق بها لساني. وربما أجلس لنفسي أحياناً فأجهش بالبكاء وأدخل في حيرة لا أخرح منها إلا بقراءة القرآن الكريم الذي يخرجني من تلك الحيرة بكلياته وسننه ولوامع بيناته، ويمنحني حالة الثلَج وبَرد اليقين.

 

 ولذلك وصلت إلى قناعة تامة ومطلقة بأننا حين نواجه تحديات العصر بتراثنا خاصة نحن المقيمين في الغرب، لنحاول إسقاط إجابات التراث على المعاصرة وتحدياتها. فإن ذلك سيقودنا إلى نوع من الخيبة واليأس من التمكن من مواجهة تحديات العصر وأسئلته وإشكالياته بوسائل وإجابات صاغها أسلافنا لمواجهة تحديات واقع مغاير في جل مقوماته عن واقعنا هذا. وإن استمرار البحث في التراث والعمل على استنهاضه لينوب عنا في الإجابة عن أسئلة عصرنا سوف لن يؤدي بنا إلاّ إلى نوع من الفشل. وقد يجعل الطريق سالكة أمام أبناءنا باتجاه الأفكار الوضعيّة والعلمانيّة، والنظر إلى مقولاتنا بإن الإسلام هو الحل، وأنه صالح لكل زمان ومكان، وأنه قادر على إعادة صياغة الحياة، هذه الإطروحات كلها سوف يُنظر إليها على أنها اطروحات تحريضية وغير عملية.

 

 إذ من الصعب إن لم يكن من المتعذر أن نسقط إجابات وحلولاً قدمت لواقع مغاير لواقعنا في نظمه ومقوماته، وعلاقات الإنتاج والتوزيع فيه، والتغيرات التي أصابت نظمه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، حتى صار مغايراً في ذلك كله، على واقع جديد بينه وبين الواقع الآخر المتقدم أو الماضي كل تلك الفروق. إذاً فطريق الرجوع إلى التراث وتجسير العلاقة بين الماضي والحاضر لن يعالج مشكلاتنا ولن يضعنا على طريق الحل.

 

 من هنا كان لا بد من الرجوع إلى كتاب الله فهو المحجة البيضاء التي تركنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المخرج من الفتن كلها، وهو كتاب كوني يستوعب الكون وحركته لا يتوقف عند مكان معين، أو في زمان محدد وهو كتاب مطلق. يستطيع الاستجابة لحركة الكون ولحركة الإنسان، وهو المصدق الذي يستطيع أن يعيد كل ما حُرف من رسالات الأنبياء إلى حالة الصدق، ثم يقوم بالهيمنة عليها، وهو المستوعب والمتجاوز، وهو الكتاب الذي وصفه الله وهو المتكلم به “بإنه تبيان لكل شئ”، ما فرط الله فيه من شئ، يبين للناس كل الذي يختلفون فيه، وهو الحق كله لا يأتي الناس بمثل إلا جاء القرآن بالحق وأحسن تفسيراً. 

 

المقاصد المحورية:

فوجدت بعد الاستقراء التام أن المقاصد المحورية التي تدور حولها سور القرآن وآياته يمكن حصرها في ثلاث:

المقصد الأول: هو التوحيد أي إفراد الله (تبارك وتعالى) بالربوبية والإلهية والصفات، فلا يشاركه سبحانه أحد في أي شي من هذا وهو مقصد يعد في قمة مقاصد القرآن العليا الحاكمة، لا ينافسه في أهميته أي مقصد آخر. وحين نقول التوحيد فإنه يشمل بالإضافة إلى ما ذكرنا، عالم الغيب كله، لإن التوحيد محور أساس لعالمي الغيب والشهادة، لا يستغني أي منهما في كلياته أو جزئياته عن التوحيد وتجلياته على العالمين بكل تفاصيلهما. والفعل الإنساني أياً كان يتأثر بشكل مباشر بهذا المقصد المحوري إيجاباً وسلباً، ويتوقف على مراعاته وملاحظته جانب كبير من تقييم الفعل الإنساني.

أما المقصد الثاني المحوري في القرآن المجيد فهو مقصد التزكية. تزكية الإنسان لنفسه ولبيئته ولنظم حياته ولمجتمعه، ولكل ما يعايشه أو يتصل به. والتزكية هي فلاح الإنسان وإمكاناته للقيام بمهمة الوفاء بالعهد الإلهي والقيام بمهمة الاستخلاف، والوفاء بحق الأمانة الإلهية التي أئتمن الله الإنسان عليها، والنجاح في اختبار الابتلاء. كل هذه الأمور  تتوقف على التزكية ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (الشمس:9-10) ولذلك لا بد من إعتبار التزكية محوراً لا يُستغنى عنه ولا يمكن تجاوزه. فسور القرآن وآياته المتعلقة بالتوحيد، بل التوحيد ذاته يتصل بالتزكية اتصالاً لا انفصام له. ومن هنا كانت التزكية موضوع العديد من نجوم القرآن الكريم.

 ثم يأتي المقصد المحوري الحاكم الثالث، إلا وهو العمران. فالعمران عندنا يقوم على إعمار الكون وإحياء مواته والاستفادة بكل ما اتاحه التسخير الإلهي من النعم الظاهرة والكامنة فيه، وجعل كل شئ فيه داخلاً في دائرة التسبيح لله سبحانه. فالأرض حين تهمل فلا تزرع ولا تسكن تعد ميتة، وإحياءها يكون بوضعها على طريق عمراني يجعلها حية معطاء. وكذلك كل شئ من المسخرات في هذا الكون.

 والفعل الإنساني هو ثمرة تفاعل بين هذه المقاصد المحورية الثلاثة. ولابد من ملاحظتها كلها فيه، وأن يقوم تقييمه في جانب الإيجاب أو السلب بناءاً على ملاحظة تفاعله وتأثره بشكل إيجابي مع تلك المقاصد المحورية الثلاثة. فالحسن منه والمقبول والمشروع هو الفعل الذي ينطلق من التوحيد، ويدل على قوته ومتانته في ضمير الإنسان ويكون في الوقت نفسه منبثقاً من نفس إنسانية مزكاة وتكون غايته ونتيجته تتصل وتصب في دائرة العمران لا دائرة الإفساد في الأرض.

 

فهذه مقاصد قرآنية عليا حاكمة انبثقت من استقراء تام لآيات القرآن الكريم. ويمكن أن تتفرع عنها المقاصد الأخرى بحسب مستوياتها لتصبح المنظومة كلها قادرة على بناء قواعد أصولية، قادرة على مد المجتهد المعاصر والمفتي والمستفتي بالقدرة على الوصول إلى فقه قرآني نبوي قائم على القرآن إنشاءاً، وعلى السنن التي هي في حقيقتها ذات أصول وجذور قرآنية، وتعد تأويلا لآيات الكتاب وتفعيلا لها وتطبيقاً عملياً، يقترن بالقول أحياناً، أو يكون فعلاً مجرداً عن القول، أو فعلاً حدث بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأقره الله عليه، أو يكون قولاً يستدعي أو يقتضي فعلاً. وفي كل الأحوال ستكون مصادر أو أصول أصول الفقه أصولاً قرآنية ينشئها القرآن ويفعّلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في واقع يعيشه الناس، ويتمكنون بالتأسي به صلى الله عليه وآله وسلم، باتباع الكتاب وحسن تأويله وتفعيله بإذن الله.

 

والذي نعمل فيه الآن هو كيفية تفعيل هذه المقاصد الثلاث في بناء أصول الفقه القرآني واستنباط الأحكام الفقهية القرآنية في المستجدات وفي مواجهة التحديات من القرآن وفقاً لمنهجه، مهتدين بأنوار التجربة النبوية في جيل التلقي.

 

وسائل التفعيل وآليّاته الإجرائيّة:

إن أهم صعوبة تواجهنا ونحن في مرحلة بناء هذه المنظومة، أنها منظومة من المتعذر أن يقوم بتشغيلها أو تفعيلها المجتهد الفرد، لإن تشغيلها يقتضي أول ما يقتضي قدرة واسعة على تكييف الوقائع، وفهم أبعاد سائرها، وتحديد كل متغير أو معطى له علاقة بها وقدرة على الميز بين ما هو كلي أو جزئي منها. ولا يخفى أن هذا النوع من الجهود يقتضي فيما يقتضي مجامع كبيرة من علماء الاجتماعيات والطبيعيات في مختلف التخصصات، لاستقراء معطياتها وسائر المتغيرات فيها، وصياغة الإشكالية سؤالاً يطرح على علماء المقاصد الثلاث، الذين ينبغي أن يكونوا أكثر من واحد، ويكونون ذوي إلمام ما ببعض التخصصات الاجتماعية وذوي معرفة عامة بالطبيعيات، تمكنهم من فهم لغة أولئك الذين يصيغون الإشكاليات والأسئلة من خلال فقه دقيق للواقع مستغرق لمعطياته ومتغيراته.

 

آنذاك يمكن أن تعمل هذه المنظومة بشكل دقيق وتؤدي دورها في ترشيد وهداية الحياة الإنسانية بشكل سليم. وذلك يعني أننا سنكون بحاجة إلى مجامع من المؤهلين في مختلف التخصصات يعملون معاً، وفي انسجام تام لقيادة الجدل والتفاعل بين الواقع المتغير والمقاصد العليا الحاكمة. ولكي نحصل على المؤهلين فإننا بحاجة إلى جامعات ومعاهد تختار برامجها في عناية فائقة لايجاد وتخريج مثل هؤلاء ليقوموا بالمهمة.

 

مراجعات في فقهنا الموروث: نماذج تطبيقية

وقد يكون من الممكن على سبيل الاختبار والتجربة والتقريب الى الأذهان أن نقوم بمراجعات لبعض القضايا التي عالجها فقهنا الموروث فيما مضى، ونعيد عرضها على هذه المنظومة لمعرفة إلى أي مدى لاحظ المتقدمون ممن أفتوا في تلك القضايا هذه المقاصد العليا الحاكمة، ولا حظوا المقاصد الأخرى في داخلها.

 

النموذج الأول: مسألة تقسيم الأرض بين المراجعة والتقييم:

 

تقسيم الأرض: أبعاد منهجية غائبة

 فقضية تقسيم الأرض التي تبناها فقهاؤنا فيما مضى إلى دار الإسلام ودار الحرب ودار عهد وما إلى ذلك، وحينما نحاول مراجعة هذه القضية بأدلتها على المقاصد القرآنية العليا الحاكمة. نجد أن هذا التقسيم للمعمورة بني على التسليم بواقع معين وهو واقع كان ينبغي العمل على تغييره لا التقنين له وشرعنته، لأنه واقع غير مقبول عند النظر لأصول الفقه والفقه القائم على هذه المقاصد لأسباب عديدة بعضها تتعلق بالتوحيد الذي عندما يُلاحظ يستدعي فوراً وحدة الإنسانية من حيث ان الإنسان قد خلق من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءاً. “ووحدة الإنسانية” تستدعي وحدة الأرض التي هي بيت ومهاد للأسرة الإنسانية كلها.

 ونضيف إلى ذلك مبدأ خلق الأرض وجعلها مهاداً لهذا الإنسان، يجعل منها بيتاً واسعاً لهذه الأسرة الممتدة مهما كبرت[1]، ويجعل كل ما فيها من أقوات قدرها الله ومياه خلقها الله شركة بين أبناء هذه الأسرة الممتدة. فوحدة الانسانية، ووحدة الأرض في وظائفها لا تسمح بقبول هذه القسمة وحين يقوم واقع ما عليها فذلك لا يضفي عليها شرعية.

 وعندما نلاحظ جانب التزكية نستطيع أن ندرك أن التزكية تقتضي أن حالة السلم هي السائدة بين البشر كافة، وأن حالات الحرب هي حالات استثنائية تدل على انحراف في التصورات الإنسانية وفي الرؤية الكلية للبشر، وإنحراف في أخلاق وسلوكيات الناس تدفعهم إلى بغي بعضهم على بعض في الأرض. وقد ضرب الله لذلك مثلا بقصة ابني آدم[2] وهذا كله مناقض لحالة “التزكية” ودليل على الهبوط في الحالة المناقضة لها وهي (التدسية) من دسّاها. إن تخريب الإنسان الأرض يعني انحراف آخر في الرؤية والتصرف والسلوك واعتداء على الكون المسخر وعبث في الأرض وإفساد فيها. وكل هذا على سبيل الإجمال. وتفصيل ذلك يحتاج – كما قلنا – إلى رصد عدد كبير من المتغيرات والمعطيات للكشف عن ذلك كله.

 

النموذج الثاني:

العلاقات الإنسانية بين السلم والحرب

 كذلك لو أخذنا قضية الأصل في العلاقات بين الأمم والشعوب أهو السلم أم الحرب؟ فسنجد في تراثنا أقوالاً كثيرة، يناقض بعضها بعضـًا. والنظر في منظومة المقاصد المحورية القرآنية الحاكمة يكفينا مؤنة البحث المتشعب، فالأصل أن تكون البشرية كلها متحدة في مواجهة العدو المشترك وهو الشيطان ﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (يوسف:5) ،﴿يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (الأعراف:27)  ﴿ وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا﴾ (الإسراء:53) ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ (البقرة:208)  فتفرق البشر هو الأمر العارض الذي يحاول الشيطان تحقيقه، ولذلك فإن الحروب والصراعات نتيجة فساد الرؤية، حيث يتحول كل ما جعله الله وسيلة للتعارف بين الناس – مثل اختلاف الألسن والألوان والمصالح وما إلى ذلك- إلى وسيلة للتناقض والتصارع. فالرجوع إلى “المقاصد القرآنيّة  العليا الحاكمة” كفيل بتعديل مسار البشرية وتصحيح رؤيتها وإزالة أسباب التنافر والاختلاف فيما بينها.

ويمكن أن ينظر إلى حقوق الإنسان في الحرية ومنها حرية الاعتقاد والتدين والانتقال والملكية وحق الخصوصية لأن بهذا المنظور -كلها- نستطيع أن نجد لها مكانها الملائم في إطار الفقه الأكبر الذي ينبثق من ملاحظة ومراعاة “المقاصد القرآنيّة العليا الحاكمة” ونستطيع الاستمرار في ذكر قضايا كثيرة مما تناولها تراثنا الأصول الفقهي والفقهي ولكن باجتهاد جماعيّ مشترك يحشد له علماء من مختلف التخصصات نصل فيه بإذن الله إلى كلمة سواء فضلا عن القدرة التي يقدمها هذا النسق المقاصديّ لمعالجة مختلف المستجدات.

نماذج تطبيقية معاصرة

الجانب السياسي

 

السؤال:

إن الشكوى تتعالى يوماً بعد آخر مما يعرف بفوضى الفتاوى وربما يكتشف الناس بعد أن تتعبهم محاولاتهم لتجاوز هذه الفوضى أن مرجعية المقاصد الحاكمة هي المخرج الوحيد من هذه الفوضى.

﴿ وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (الفرقان:40) بعد اتخاذ الخطوات المتقدمة لا بد أن يكون لدى علماءنا الذين يعملون على تفعيل المقاصد القرآنية الحاكمة أسئلة واضحة ومستقرأة، توجه إلى كل مقصد من المقاصد القرآنية الحاكمة عند عرض كل قضية من مستجدات القضايا على هذه المنظومة، وتكون هذه الأسئلة شاملة مستقرأة بقدر الامكان، تشمل الجوانب الإيجابية منها والسلبية. والسؤال الذي كثر النقاش حوله هو قضية الجهاد في الإسلام فهل يمكن توضيح هذه المسألة من الرؤية المقاصيدية التي طرحتموها.

 

النموذج الأول: الجهاد

 

 وليتضح ما نقول: هناك قضية الجهاد التي تناولها تراثنا بشكل أستطيع أن أقول لم يعبر تعبيراً دقيقاً عن المنظور القرآني للجهاد، فسائر أولئك الذين كتبوا في الجهاد والسير يفهم القارئ من طرائقهم في تناول الموضوع أن الجهاد هو القتال، وأنه قتال عن الدين أو لفرض الإسلام على الآخرين. وقسموه إلى “جهاد دفع وجهاد طلب”، وبنوا على هذا التصور كل ما عرف بإنه جزء من آثار الحرب وأحكامها. فأحكام الأسرى وأحكام المعاهدات وما يتعلق بالغنائم والإعداد والتهيئة للقتال، وتقسيم المعمورة إلى دار حرب ودار إسلام، كل ذلك انطلق معظم الفقهاء المتقدمين فيه من هذا الفهم أو ذلك التصور:تصور أن الجهاد هو القتال.

 وقد استقر في أذهان الكثيرين أنّ المسلمين إنما يقاتلون لحمل الناس على الدخول في الإسلام بالقوة بناء على حديث (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله..فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها..) وهذا الحديث حديث لا يصح، لا سنداً ولا متناً ولو أنه قد روي بعد أن أشتهر ونسب إلى أبي بكر الصديق الاستشهاد به في حروب الردة وقد روي من مائتين وأربعة وثلاثين طريقاً، أربعون منها دارت كلها على الزهري، وأربع وعشرون على الأعمش وعشرون على حميد الطويل وستة عشر على شعيب بن أبي حمزة، واثنا عشر على سفيان الثوري، وستة على الحسن البصري، وأربعة على شريك النخعي، وكل من هؤلاء مدلس ولم يصرح بالسماع وبناءاً على قواعد المحدثين والأئمة النقاد للأسانيد تعتبر هذه الطرق كلها مظلمة فباطلة لا اعتبار بها، خاصة ولفظ الحديث كما رووه يناقض بشكل صريح قول الله (تعالى) ﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (البقرة:256)

وأجمع المحدثون على أن ورود الحديث على مناقضة القرآن دليل على عدم صحته، وهناك عورات أخرى بالأسانيد يمكن لمن يريد أن يرجع للمصادر المعتبرة لدى النقاد لمعرفة تفاصيلها والكشف عنها.

ومن طرق الحديث ثلاث وعشرون تدور كلها على سماك بن حرب عمن فوقه، وثمانية تدور على كُثير بن عبيد وأربعة على سفيان بن عامر الترمذي وثلاثة على زياد بن قيس وواحد على حاتم ين يوسف الجلاب عن عبد المؤمن بن خالد، وواحد على عبد الرحمن بن عبيد الله وواحد على عجرن مولى فاطمة وواحد على أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة، وإثنان مرسلان. وسماك المذكور ضعيف وسائر هؤلاء مجهولون فالمدارات كلها مظلمة فباطلة لا اعتبار بها، ومن هذه الطرق سبعة تدور على العطاء بن عبد الرحمن، واثنان على سليمان بن أبي داود وواحد على عمر بن أبي بكر الموصلي عن زكريا بن عيسى وواحد على يحيى بن أيوب الغافقي، وواحد على أحمد بن سليمان الواسطي، وواحد على أبي أحمد عبد الرحمن الوكيعي عن ابراهيم بن عيينة.

وكل من هؤلاء ليس بمحل للحجة مطلقاً لا مفرداً ولا مقروناً بغيره وكلها مظلمة فباطلة لا اعتبار بها، فضلاً عن عورات أخرى بالأسانيد لا نطيل بذكرها، وقد استقرأنا استقراءاً كاملاً كل هذه الطرق فما وجدنا منها طريقاً يسلم بحيث يقبل عند المحدثين. وتلك الطرق على كثرتها رأيت منها ما دار حول مدلسين أو مجاهيل أو ضعفاء أو مجروحين في عدالتهم وبالتالي فإن هذا الحديث لا يصح ولا يصلح أن يكون ناسخاً لغيره ولا مخصصاً ولا مقيّداً فضلا عن أن ينسخ بمثله القرآن الكريم القطعيّ الذي أثبتنا بما لا يدعي مجالاً للشك في كتابنا نحو موقف قرآني من النسخ[3] أنه لا يقبل النسخ أبداً وأنه لا مبدل لكلمات الله وبالتالي فقول الله (تعالى) ﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (البقرة:256)، ﴿ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ (يونس:99)

إلى مائتي آية وردت في تقرير حرية العقيدة والعبادة والتدين، هذه الآيات كلها محكمة وليس هناك ما يصلح أن يكون ناسخاً لها ولأن الهيمنة للقرآن والحاكمية له، وهذا هو الموقف القرآنيّ السليم فإنّ أي خبر أو حديث أو حكم فقهيّ، يناقض القرآن يجب أن يرد، وعلى هذا فإن القتال لإكراه الناس على قبول الدين أو لإجبارهم على تغيير أديانهم أمر مرفوض بمقتضى القرآن الكريم. وآيات الجهاد والقتال التي وردت في القرآن الكريم لا تدل على أن علة الجهاد _ومستوى القتال منه_ هي إكراه الناس على قبول الإسلام أو الاستمرار فيه.

        وحين نتتبع هذه الآيات في سياقها نجد ذلك واضحاً -فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم- والمؤمنون في مكة مع وجود المجتمع القبلي وكلهم لهم قبائل أو معظمهم لم يدافعوا عن أنفسهم بقتال ولم يستعملوا العنف لأنّ الله أمرهم بأن يكفوا أيديهم في قوله (تعالى) ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً(النساء:77) وتأويلاً منه عليه الصلاة والسلام للأمر الألهيّ في الواقع وتطبيقاً للتوجيه الرباني:

 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ أَنْبَأَنَا أَبِي قَالَ أَنْبَأَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَأَصْحَابًا لَهُ أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي عِزٍّ وَنَحْنُ مُشْرِكُونَ فَلَمَّا آمَنَّا صِرْنَا أَذِلَّةً فَقَالَ (إِنِّي أُمِرْتُ بِالْعَفْوِ فَلَا تُقَاتِلُوا فَلَمَّا حَوَّلَنَا اللَّهُ إِلَى الْمَدِينَةِ أَمَرَنَا بِالْقِتَالِ فَكَفُّوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ..[4])

فرسول الله _صلى الله عليه وآله وسلم_ نفسه قد تعرض للأذى من أبي جهل ومن أبي لهب وامرأته ومن كثير من المشركين وكان يمنع من يريدون الدفاع عنه من فعل ذلك، كما منع الصحابة من الدفاع عن أنفسهم، وكان جوابه دائماً تأويلاً للآية السالفة واتباعاً لها: (إِنِّي أُمِرْتُ بِالْعَفْوِ)   أي: وإنّما أمرت بكف اليد، ولم يكن ذلك عن ضعف كما يتصور كثيرون، بل عن أمر آلهيّ، وذلك هو الفرق بين النبوة المهتدية بنبراس الوحي وبين القيادات والزعامات البشريَّة البراغماتية التي تخضع خطواتها كلها لمقاييس دنيويّة محضة قائمة على موازين القوى.  ففي المجتمع القبلي لا يكون الإنسان ضعيفاً وهو بين قبيلته وعشيرته ورسول الله _صلى الله عليه وآله وسلم_ ينتمي إلى أهم وأقوى قبيلة من قريش وله صهر وعلاقات مع معظم قبائل مكة وبيوتاتها، ومع ذلك فإنّه لم يدفع عن نفسه ولا عن أصحابه وقبل الحصار في شعب أبي طالب، وتجاوز ردود الفعل عن تعذيب كثيرين من أصحابه _عليه الصلاة والسلام_ لإنه أمر بكف اليد،  وأمرهم بالهجرة للحبشة لحماية أنفسهم ثم هاجر إلى المدينة المنورة بعد أن انتشر الإسلام فيها وعاهد أهم قبائلها، ولذلك كانت الآية الأولى في تشريع الجهاد التي بينّت الإذن بالقتال بعد الأمر بكف اليد فكأنها بينت انتهاء مفعول ذلك الأمر بكف اليد بالإذن بالدفاع عن النفس ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ (الحج:39) ، كانت أول إذن لهم في الدفاع عن أنفسهم وعن حرياتهم بعد الأمر السابق بكف اليد حتى في حالة الدفاع.

ثم أمر عليه الصلاة والسلام باليقظة والحذر من أولئك الذين أبرموا معه معاهدات واتفاقات وأن عليه أن يدرس حالة كل مجموعة من هذه المجاميع لمعرفة من يلتزم منهم بعهده أو معاهدته وأنّه سيوفي بها وأولئك الذين يريدون أن يتخذوا من المعاهدة وسيلة للكيد لرسول الله وللمؤمنين والغدر بهم.

 فأمره الله بإن يتعامل مع هؤلاء بحسب مواقفهم فقال (تعالى)﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ﴾ (الأنفال:58)، ﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾ (الأنفال:60) ، وذلك للحيلولة بين هؤلاء وبين عدوهم ، وفي الوقت نفسه تأتي الآية 61 لتأمره بقبول السلام مع من يريد السلام. ﴿ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (الأنفال:61) وامتن (سبحانه وتعالى) على نبيّه بقوله: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(الأنفال:63) وجاء بعد ذلك في السورة نفسها آيات تدعو إلى تعزيز وتقوية الجبهة الداخلية وتنبه إلى خيانات متوقعة من قبائل المشركين ومن القبائل اليهوديّة المحيطة بالمدينة المنورة ثم تأتي آيات سورة براءة فتبدأ بالبراءة من المعاهدات التي أبرمت مع المشركين ﴿ بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ *فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ *وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ *إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ *فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ *وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ *كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ *كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ *اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ *لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ *فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ *وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ *أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ (التوبة:1-13)  دون نسيان أو تجاهل لمواقف الملتزمين بالوفاء.

 

  الآية الأولى تدل على ضرورة إعلان البراءة إلى الذين عاهدهم النبي _صلى الله عليه وآله وسلم_ والمؤمنون من المشركين، وهم ينوون خيانة رسول الله ويتحينون الفرص لذلك، ثم نكثوا أيمانهم ونقضوا عهودهم وظاهروا على رسول الله والمؤمنين أعداءهم، فهؤلاء هم الذين تلغى الاتفاقيات التي أبرمت معهم، لانهم بدأوا ذلك بالخيانة ونكث الأيمان ونقض العهود والتعاون مع كل أعداء رسول الله _صلى الله عليه وآله وسلم_ والمؤمنين. والدليل على حصر هذا الإلغاء في هؤلاء الذين بدأوا بنقض معاهداتهم واتفاقياتهم الآية الرابعة من  نفس السورة ﴿ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ (التوبة:4).  

 ونقض المعاهدات هذا لم يأت فجأة بحيث يعلن نقض الاتفاق وتشن الحرب بعد ساعات أو وقت قصير لتحقيق عنصر المباغتة بل منحهم الله تعالى أربعة أشهر، كما في الآية الثانية  ﴿ فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ(التوبة:2)   لكي يكون أبناء تلك القبائل قادرين على ترتيب أمورهم خلال هذه الفترة الكافية وهي فترة الأشهر الحرم الأربعة التي تسمح لهم في السياحة في الأرض وحماية مصالحهم، بل والاستعداد إن شاءوا لمواجهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .

وبعد الآية 13 من سورة التوبة آيات كلها تتعلق بتصفية تلك المعاهدات والاتفاقيات. ثم يأتي الأمر بقتال أولئك الذين ينتمون إلى أديان كتابيّة ولكنّهم للأسف الشديد ظاهروا المشركين على المؤمنين وتعاونوا معهم ضد المؤمنين وتعاون معهم قبائل يهود التي أمدت مشركي مكة بالمال والسلاح وقالوا لهم أنتم أهدى من الذين آمنوا سبيلا.

فأمر الله النبي عليه الصلاة والسلام أن يقاتل هؤلاء الذين اختاروا أن يقفوا بجانب الشرك والجاهلية ضد الإيمان والمؤمنين حسداً من عند أنفسهم فقط، لأنًّ محمداً _صلى الله عليه وآله وسلم_ كان من ذرية إسماعيل بن إبراهيم لا من ذرية إسحاق بن إبراهيم ، فجاءت الآية 29 من سورة براءة ﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ (التوبة:29).

 يتضح من كل هذا أنَّ القتال لم يكن إلا لحماية حرية الاعتقاد ولجعل القبائل تحترم عهودها واتفاقيّاتها، فلا تنقضها ولا تتجاوزوها. ولذلك حينما جا ءت آية البقرة بدأت ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة:216) صرحت بأن النبي والمؤمنين كانوا يكرهون القتال فاراد الله أن يشعرهم بإنهم وإن كرهوه فهو خير لهم. ولما حاول المشركون العرب أن يقوموا بدعايات مضادة للنبي والمؤمنين، ويشعرون العرب أن النبي والمؤمنين يقاتلون في الأشهر الحرم ويقاتلون في المسجد الحرام جاءت الآية: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(البقرة:217).

لترد على هؤلاء وتوضح أن المشركين العرب هم الذين صدوا عن المسجد الحرام ومنعوا الوصول اليه، وعذبوا المؤمنين ليعيدوهم الى دياناتهم الشركية التي خرجوا منها وبينت الآية أن المشركين هم الذين كانوا يقاتلون المسلمين ليردوهم عن دينهم إن استطاعوا.

ومن ذلك كله يتضح بأن القتال ليس أصلاً بل الأصل هو السلام ولكن حينما لا يكون أمام المؤمنين سبيل لحماية حرية الاعتقاد وحمل الآخرين على احترام العهود والمواثيق فإنّه لابد لهم أن يفعلوا ذلك.

وعلى هذا فإن الجهاد كما جاء في القرآن مستويات عديدة منه: مجاهدة الإنسان لنفسه لتلتزم بالإيمان والقواعد الأخلاقية والنظم، وهناك جهاد الكلمة القائم على إزالة الجهل والأمية بالتعليم، وهناك الجهاد بالقرآن الكريم لتحقيق الهداية للعالمين، ﴿ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ (الفرقان:52). وقد يأخذ الجهاد مستوى اقتصادياً بالتنمية وسد احتياجات الشعوب،  واجتماعياً لمقاومة الانحرافات وتقويم مسيرة المجتمع، وقد يأخذ شكلاً ثقافيا فهو مشتق من الجهد في تحقيق التوحيد والتزكية والعمران والعدالة والمساواة والحياة الطيبة، والله أعلم.

 

النموذج الثاني:

السؤال:

 ما حكم صناعة المسلمين لوسائل الدمار الشامل؟

الجواب:

 فنسأل أولاً: ما رأي التوحيد وما موقفه من هذه القضية؟ ولنفرض أن موقفه سيكون باتجاه القبول، ففي هذه الحالة نحن بحاجة إلى وضع العديد من الأسئلة التي تترتب على القبول.

 فنقول: إنّ هناك إنساناً وحيواناً وشجراً وبيئة، وهناك أرض وهواء وبحار، وهناك طرق مواصلات ومصادر ثروة، وهناك أناس لا علاقة لهم بالحرب، وهناك الشيوخ والمرضى والزمنى والأطفال والنساء الحوامل وما إلى ذلك. وكذلك هناك قوات العدو المستهدفة، وهناك قيم عليا أخرى كالعدل وما إليه، وهناك طبيعة الإسلام القائم على قواعد ينبغي أن تستنبط منها الأسئلة الإجرائيّة ليحاور التوحيد بمقتضاها وتدون إجاباته بالجانبين الإيجابيّ والسلبيّ.

وقد نجد بين أيدينا مئتي سؤال أو تزيد ينبغي الإجابة عليها حتى نحصل على الموقف السليم للتوحيد الذي يؤدي إلى الثلج وبرد اليقين. ونفعل مثل ذلك مع كل من “التزكية والعمران” ثم نعيد النظر بتوجيه الأسئلة على المنظومة كلها ملاحظين عناصر التكامل بينها لنخرج بعد ذلك بجواب تطمئن النفس إلى صحته وصدقه والله أعلم.

فالمسلمون يفترض أن يكونوا صناع سلام وصناع حياة كما قال (تعالى) ﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ (الأنفال:23) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(الأنفال:24) ، ولا ينتظر من صناع الحياة والسلام أن يكونوا من المفسدين في الأرض أو المخربين للعمران فذلك ينافي التوحيد وينافي التزكية وينافي العمران.

 

نماذج تطبيقية معاصرة

الجانب الاجتماعي

السؤال:

 تعاني المجتمعات الإنسانية المعاصرة من أزمات اجتماعية تكاد تهز كيانها، فالأسرة وهي   أهم مؤسسة اجتماعية تواجهها تحديات تفوق حدود المواجهة أحياناً، فها هي قضية الإجهاض المتنازع فيه في المجتمعات الغربية وبدأت تغزو المجتمعات الأخرى لأسباب كثيرة جداً، وكذلك ما يسمى بالعنف الأسري الذي تعاني منه المجتمعات الإنسانية قاطبة والذي تفقد فيه العلاقة الزوجية في معاني السكينة والمودة والرحمة وتتحول البيوت إلى جبهات قتال وصراع بين الزوجين ليقع الأولاد ضحايا محملين بعقد وأمراض نفسية وعصبية تطاردهم طوال حياتهم نتيجة لتلك العلاقة المريضة.

 أما الطلاق فقد أصبح ظاهرة اجتماعية عالمية، وأخطر ما فيه هو ما يترتب عليه من سلبيات حين تنتهي تلك العلاقة بصراع وأحقاد بين الزوجين تنتقل سريعاً إلى الأولاد. فكيف يمكن تفعيل المقاصد القرآنية الكلية الحاكمة في معالجة تلك الأزمات المتفاقمة؟

الجواب:

إن القرآن المجيد يدفعنا إلى بناء الرؤية الكلية للإنسان باعتباره إنساناً، وفي إطار هذه الرؤية الكلية يرتبط الرجل والمرأة معاً برباط تكاملي يجعل كلاً منهما كأنه نصف الآخر لا يكتمل أمنه وسكينته وطمأنينته وفاعليته وقدرته على أداء دوره في الحياة إلا في إطار هذا التكامل، وبالتالي فإن سائر التصورات الثقافيّة القابعة في ثقافات البشريَّة المختلفة عن اختلاف الجنسين الذكر  والأنثى تصبح موضع مراجعة فلا المرأة مسؤولة عن الخطيئة الأولى وإخراج البشرية من الجنة ولا هي من ضلع أعوج، بل كلاهما متساويان في الإنسانية وفي دور كل منهما في الاستخلاف والتزكية وبناء العمران وقد وعد الله الاثنين بإن لا يضيع عمل عامل منهما من ذكر أو أنثى، فلا دونية لإي منهما مقابل الآخر لا في الدنيا ولا في الآخرة. وبعد تأسيس هذه القاعدة تكون الزوجية مهمة متكافئة متساوية وإذا اقتضت الوظائف الإنسانية نوعاً من توزيع الأدوار فهذا التوزيع لا يؤثر في هذه الرؤية الكلية، بل هو يعززها ويدعمها، ولذلك كانت الزوجية بين الذكر والأنثى رسالة ومهمة لا على مستوى الزوجين وحدهما بل على مستوى المجتمعات والأمم والشعوب فهي حجر الزاوية في البناء الاجتماعي كله لتتضافر جهود المجتمع والأمة والدولة معاً في تدعيم الأسرة وحمايتها .

وقد اتخذ القرآن الكريم مجموعة كبيرة من الاحتياطات التي تمثل إجراءآت وقائيّة من شأنها أن تحافظ على الأسرة وتحوطها بكل ما يلزم لصيانتها من التفكك أو الانهيار، فستر العورات والمنع من التبرج ومطالبة الجنسين بغض النظر وعدم الاختلاط غير المنضبط وضرورة تجنب كل ما يثير الغرائز ويهبط بالإنسان إلى مستوى حيواني غريزي وأي تصرّف قد يؤثر على هذا الكيان تاثيراً سلبياً من أي جانب من الجوانب ممنوع. ويبقي على الرؤية القرآنية، ويحافظ عليها، ويجعلها حاضرة في الأذهان على الدوام نجد القرآن المجيد في سورة النور وغيرها تولى بناءها وتدعيمها بدءأ من خلجات الأنفس وحركات الأجساد والمحافظة على الخصوصيات وصيانة البيوت، وانتهاءً بالوفاة وما بعدها، كل تلك الأمور نجد القرآن المجيد قد تناولها بكل دقة لإنها من الأمور التي قد يغفل الإنسان عنها، أو يستهين بها لأي سبب من الأسباب.  

ولذلك كله يهيئ القرآن الكريم النفس الإنسانية للرجل والمرأة لاحترام تلك الرابطة التي سماها القرآن الكريم ميثاقاً غليظاً وحينما نقرأ تشريعات القرآن في سورة البقرة وغيرها  ﴿ وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ * نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ * الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ * لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ * وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ * فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ * وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (البقرة:221-240)

نجد أن كلمة حد لم يستعملها القرآن الكريم في شئ كما استعملها فيما يتعلق بنظام الأسرة، فقد استعملت في أربعة عشرة موضعاً في القرآن الكريم أثنا عشر منها كان فيما يتعلق بتشريعات الأسرة، ولكن الله سبحانه يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير،  وقد لا يصادف أي من الزوجين الاختيار الحسن، ومما يناقض التزكية والسكن والطمأنينة والمودة والرحمة والتي هي أمور ينبغي أن لا تفارق الأسرة لحظة واحدة وإلا ضاعت المقاصد الرئيسية المرتبطة بتشكيلها وتأثرت سائر القيم بمستوياتها المختلفة بتلك الآثار السلبية. كان تشريع الطلاق والخلع وما ينبغي أن يسبقهما من معالجات.

والقضايا المتعلقة بتشكيل الأسرة وبناء العائلة وصيانتها والمحافظة عليها وجعلها في مستوى تحقيق المقاصد القرآنية من تشريعها تحتاج إلى تخصص دراسي كامل يمكن أن يغطي مستوى الماجستير والدكتوراه لكي يتناول هذا المؤسسة بدقة وشمول. وآنذاك يمكن تفعيل المقاصد القرآنية الحاكمة العليا في سائر جوانب هذه العلاقة بدءاً من الروية الكلية والتصور وانتهاءاً بالطلاق أو الخلع أو الوفاة أو المواريث وما إلى ذلك.

 فهي المؤسسة التي تابع القرآن الكريم عملية بناءها من لحظة البلوغ وبدء التفكير لدى كل من الجنسين في البحث عن شريك يقترن به حتى الوفاة بل إن القرآن يتجاوز ذلك إلى الدار الآخرة حيث يخاطب الصلحاء ببقائهم وأزواجهم ﴿ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ(يس:56).  ويقابل ذلك موقع أولئك الذين أساءوا في الحياة الدنيا إلى هذه المؤسسة وما ينتج منها، بل أن القرآن يجعل المسؤولية تضامنية في عمل الآخرة ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (التحريم:6) ويؤول رسول الله _صلى الله عليه وآله وسلم_ تأويلاً دقيقاً كما روي عنه ( كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) 

من هنا نستطيع أن نتبين وجهة نظر القرآن الكريم والرسول العظيم في الظواهر السلبية الشائعة في المجتمعات المعاصرة من قضية العنف والإضرار وتجاوز جميع المقاصد التي هي مقاصد لها مكانتها العالية في القرآن والسنة من السكن والرحمة والمودة والنسب والصهر وأهم شبكات العلاقات الإنسانية. 

وبالاطلاع على سائر التفاصيل التي تتخذ المقاصد العليا صفة المنبه لها والموجه إلى مراعاتها مرجعاً أساساً في ربط هذه المؤسسة بتوحيد الله ورعايته وعنايته وتحقيق التزكية، تزكية الأفراد والمجتمعات والأمم والدول وبناء العمران.    

 فالمقصد الأساس أن الإنسان خلق ليؤدي دوره في الأرض بالشكل الذي رسمه له الخالق العظيم ﴿ وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (الأنعام:98) ، وقال ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة:30).

 

فحياة الإنسان عليها يتوقف دوره في تحقيق العمران والقيام بدور الاستخلاف، فكل ما يؤدي إلى إيذاءه في نفسه أو أعضاءه فيه إلغاء لدوره أو أصابته بنقص في الكفاءة يقلل من قدرته على أداء دوره العمراني، فالإنسان والكون معاً ملك لله (تبارك وتعالى).

 ولذلك فإن الإنسان يرتكب خطأ كبيراً حين يتوهم أنه حر  بالتصرف في جسده لإن ذلك يتضمن إدعاء ملكية ما لا يملك وتجاوزاً على حق المالك الحقيقي وهو الله. ولذلك تحرم المجازفة في قتل النفس أو الانتحار أو تعريض الإنسان للتلف وهنا يندرج حفظ الإنسان كلاً وأعضاءاً في إطار مقصد حفظ النفس لتحقيق غاية الحق من الخلق، وهي الاستخلاف والعمران، وتصبح النفس الإنسانية بمثابة الوديعة والأمانة لدى صاحبها ليس له أن يعرضها للخطر أو التلف وهذا شامل للأجنة في دور التخليق وشامل للإنسان الذي خرج للحياة وأدرج في قائمة  الأحياء.

والفقهاء المتقدمون ومنهم الغزالي في إطار السقف المعرفي السابق وقبل تطور العلم في الطب والأحياء كانوا يعلقون احترام الجنين وعدم اسقاطه إذا جاوز فترة أربعة شهور في الرحم لان السقف المعرفي آنذاك كان يشير إلى أن الحياة تدب في الجنين بعد هذه الفترة ومن حكمة الإسلام أنه لم يكن يدخل في التفاصيل، بل يتجاوزها لكي يكون قادراً على تلبية احتياجات الأجيال المختلفة بدون تناقض مهما اختلفت السقوف المعرفية. وإذا كانت العلوم الحديثة تقول بإن الحياة تبدأ بمجرد اختراق الحيمن الذكري لبويضة الأنثى وتحول الأمشاج إلى مضغة إذن يجب أن تحترم .

 

 وهنا تظهر إشكالية الجدل الدائر حول (الاستمسل) وهل يجوز أخذه للعلاج؟

 وهذا يفرض تلاقي علماء الطب والمتخصصين في هذه المجالات مع علماء الاجتماع والشريعة والقانون ليناقشوا هذه القضية من جوانبها المختلفة وإلا فإن الجراءة على هذه الأمور قد تؤدي إلى ما يعرف بالحوسلة أي تحويل الحياة الإنسانية إلى وسيلة حتى  لو كانت وسيلة لمعالجة أناس آخرين .

وينبغي أن تحال هذه القضايا إلى مجامع متخصصة تتناول سائر التخصصات وتستحضر المقصد الشرعي في العمران والاستخلاف وبقاء النوع ودوامه ثم الوصول إلى آراء مجمعية في هذه المجال مستندة إلى المقاصد القرآنية الحاكمة.

وهذا المقصد يفتح الطريق مباشرة نحو مقصد آخر أساسي وهام يتعلق بذات المتعلقات أي الاستخلاف والعمران والإيمان بتفرد الله بملكية الإنسان والكون إلا وهو النسب.

فالجنين الإنساني منذ البداية يتكون بحيمن ذكوري وبويضة إنثوية يشترك فيها اثنان الرجل والمرأة وهما مسؤلان مسؤلية مباشرة قبل القانون والدولة عن حماية الجنين وإعطاؤه حقوقه الكاملة منذ التلقيح حتى الاكتمال وعلى الأب أن يشارك الأم هذه الأعباء لكي لا تحمل المسؤولية وحدها فتثقل عليها وقد لا تتمكن من أداءها فلابد من رباط يربط الأثنين، فإذا كان رحم الأم سيكون مستودع فإن الأب يكون مسؤول مسؤولية كاملة عن الأم في فترة الحمل حتى الوضع وعدم تحمل أعباء رزقها ورزق جنينها المشترك الذي يغذى على دمها وهنا يبدو عقد النكاح رباطاً مقدساً ومسؤولية وتبدو الغرائز الطبيعية مجرد وسائل تخفيف من شأنها أن تؤدي إلى لقاء الزوجين وارتباطهما بعقد النكاح المقدس وتحمل كل من الزوجين مسؤولياته في حماية حقوق هذا الجنين الذي سيؤول إلى انسان كامل.

فهناك أكثر من مقصد وأكثر من متعلق للتشريع لابد من ملاحظتها كافة ويعتبر اشراكاً بالله تعالى أن تعتقد المرأة بان الجسد جسدها وهي حرة فيما تصنع فيه وإن الجنين مجرد طارئ على الجسد لها الحق في أن تستضيفه أو ترفضه، وعلى الرجل أن لا ينظر الى المرأة التي اختارها أنه مجرد لقاء شهوة عابرة فيتهرب من مسؤوليته فهذا بجد ذاته اشراك بالله واعتداء على ذاته والوجدانية فمن ادعى أنه جر في التصرف بجسده وغرائزه ومشاعره وأنه لا مالك للجسد إلا هو فإنه إعلان لنفسه شريكاً لله ومستقلاً في التصرف عنه وهذا يناقض الإيمان والتوحيد. والمنهج القرآني دوماً يقوم بتجفيف منابع المشكلة أو الأزمة، كالإجهاض ونحوه كي يغلق المجال أمام البشرية على إعادة إفراز مثل هذه المشكلات في المستقبل، وإذا ما عادت فظهرت يصحح مسارها ثم يعيدها إلى الأصل.

أما الناس في هذا العصر فيعالجون الظواهر بعد أن تمتد وتصبح ظواهر وجزءاً من الممارسات الحياتية ويتغاضون عن الأسباب الكامنة وراء تلك الظواهر في حين أن المنطق يقتضي معالجة الأسباب الكامنة وراء تلك الظواهر وتجفيف منابع الظواهر السلبية ودوافعها، ولذلك أخذت سورة النور في القرآن الكريم معالجة جميع المنابع والجذور السلبية التي تؤدي إلى شيوع الفاحشة والزنا في المجتمع الذي يحدث بين إثنين أنانيين لا يهمها إلا قضاء الشهوة وتلبية حاجة الغريزة والتمتع لفترة قصيرة مع عدم تحمل أية مسؤوليات تترتب على ذلك، ومنها مسؤولية الثمرة التي تثمرها تلك العلاقة وهي مسؤولية ضخمة وكبيرة لا يتحملها إلا من احترموا إنسانيتهم وآدميتهم وعرفوا معنى الحياة والمسؤولية معرفة جيدة.

أما الطلاق هو فك لتلك الرابطة بشكل إنساني لا يلغي ما ترتب على النكاح من قضايا وأحكام، فمن يولد بين أبويين صارت ولادته رابطة لا تنقطع بين الأبوين حتى ولو انفصلا وكذلك سائر العلاقات الأخرى التي ترتبت على علاقة النكاح أن تحترم إذا احترم الاثنان إنسانيتها وعرفا حدود الله، ففي هذه الحالة يصبح النكاح كأنه ساري المفعول بالنسبة لسائر العلاقات التي ترتبت عليه ولا ينتهي منه إلا الجانب الخاص بالمعاشرة الخاصة بين الزوجين ولذلك اشتد  القرآن على الذين يمسكون نساءهم رغبة في المضارة أو رغبة في الابتزاز والحصول على المال الحرام من الزوج أو الزوجة.

وبالتالي يحولون علاقة النكاح وما ترتب عليها من شبكة العلاقات طيبة إلى مجموعة من العلاقات السيئة تؤدي إلى الإضرار بكل ذوي العلاقة وجاءت الأية الكريمة لتمثل نصاُ دستورياً في هذا المجال ولا تنسوا الفضل بينكم ﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (البقرة:37)

فلا ينبغي نسيان أو تناسي حسنات كل من الطرفين ولا ما ترتب على تلك العلاقة من شبكة علاقات وحصر الآثار السلبية التي تترتب على فك الارتباط بين الزوجين في أضيق نطاق ممكن، لنحد من الآثار السلبية للطلاق ونحافظ على التوازن في العلاقات.

 

نماذج معاصرة

الجانب الأقتصادي

 

السؤال الثالث: كيف نستطيع أن ننظر إلى الأزمة الاقتصادية الحالية من منظور المقاصد القرآنية العليا الحاكمة؟ 

 

يقرر القرآن الكريم أن المال كله من حيث الملكية الحقيقية هو مال الله تعالى وأن الإنسان مستخلف فيه ﴿ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ(الحديد:7) وأن جميع الطيبات في هذه الحياة هي ملكه (جل شأنه) على سبيل الحقيقة فكأن الملكية الإنسانية للمال والطيبات ليست ملكية حقيقية بل هي ملكية انتفاع، وبالتالي فلابد أن يكون للمالك الحقيقي الذي هو الله تبارك وتعالى حق التوجيه لكيفية ووسائل الانتاج والاستهلاك والتوزيع.

فملاحظة توجيهاته (سبحانه) في هذا المجال أمر لابد منه. وقد اعتبر القرآن الكريم ما خول الله الإنسان به من جعل المعاملات قائمة على التراضي بين البشر في تبادل تلك الطيبات بطرق سليمة هي نعمة أخرى ينبغي للبشر أن يعترفوا بها ويشكروا الله تعالى عليها بحسن الالتزام ودقة التصرف.

والملاحظة الثانية التي يجب استحضارها هنا هي أن الله (تبارك وتعالى) قد اعتبر بني آدم كلهم أسرة واحدة ممتدة تشترك كلها في ما خلق الله تبارك وتعالى في الأرض لصالحها وهو قدر كل ما خلق لصالح هذه البشرية على أن تكون مشتركة بحيث لا يحرم أحد من خلق الله مما خلق الله له باعتباره واحداً من الأسرة الآدمية الكبيرة، وهناك طرق حددها القرآن الكريم والتجارب البشرية والإنسانية والنظم لوصول كل صاحب حق إلى حقه وكل صاحب حاجة إليها، وأن أي خلل يحدث في هذا المجال إنما هو خلل ناجم عن إساءة تصرف الإنسان في مجال الانتاج أو التوزيع او الاستهلاك أو كلها مجتمعة.

الوسيط النقدي:

وقد ابتكر الانسان وأيده الدين بتوجيهه الوسيط النقدي لتبادل المنافع والطيبات فتعارفت البشرية بعد تجاوز عصر المقايضة وبيع سلعة بسلعة على الذهب والفضة باعتبارهما وسيطاً نقدياً بين البشر في تبادل الطيبات التي خلقها الله تعالى، واستمرت البشرية في أنحاء الأرض تتبادل الطيبات بطريق المقايضة وفي المدن والحواصر الكبيرة التي تتبادل المنافع بواسطة الوسيط النقدي الذهب والفضة وذلك لتسهيل عمليات التبادل وتوزيع الطيبات والمنافع ووصول كل شعب أو قبيل أو مجموعة بشرية إلى احتياجاتها بوساطة هذا الوسيط النقدي.

وقد نجم عن ظهور فكرة الوسيط النقدي توافر ما يعرف بفائض القيمة فقد يبيع إنسان طيبات يحتاجها أناس آخرون ويستلم النقود ثمناً لما باع وحين يشتري احتياجاته يفيض من عنده من قيمة ما باع فائض من نقد. فبدأ فائض القيمة هذا يلعب دوراً في إعطاء فائض القيمة النقدية دورا يوازي فيها دور الجهد الانساني في الانتاج وعناصر الانتاج من الأرض والماء وما إليها حتى تحول فائض القيمة إلى سلعة من السلع استطاعت أن تهيأ الأجواء لظهور ظاهرة الربا.  فالمرابي ابتعاداً عن الجهد والمخاطرة يقرض فائض القيمة المتوافرة لديه ويأخذ عليه ربا أحياناً يكون من الأضعاف المضاعفة لفائض القيمة بحيث يزيد الطلب عليه ويقل بجسب ظروف الناس واحتياجاتهم فوجدت طبقات المرابين التي تحترف عملية إقراض فائض القيمة بالربا واستغلال حاجة المحتاجدين أي كانوا ومع تحريم الأديان الإبراهيمية كلها للربا واعلان الله الحرب على المرابين لكن الطمع في الأرباح السهلة المضمونة التي لا مخاطرة فيها مكن لهذه الظاهرة وحال بين الأديان وبين استئصالها.

 وظلت التطورات سائرة حتى بلور الإنسان الغربي فكرة البنوك مؤسسة وسيطة تقوم على الربا وتوظيف الأموال وفائض القيمة بطرق خاصة أدت إلى تراكم الثروات في جانب وتراكم الفقر والحاجة في جانب آخر حتى وصلت البشرية إلى الثورة الصناعية وما أدت إليه من آثار وقامت الشركات الكبرى وانقسم الناس إلى رأسماليين وأصحاب رؤوس أموال وإلى عمال لديهم وحدث ما حدث من أزمات عانت أوروبا وأمريكا وجاء ماركس بنظريته عن رأس المال محاولاً إلغاء الملكية الفردية وبناء الاقتصاد الجماعي أو الشعبي ولكن طرح ماركس وأفكار انجلز وفلسفة هيغل لم تؤدي إلى تحديد دقيق حل وعلاج لمشكلة حل فائض القيمة إذ أن الأومة لم تكن في ملكية أفراد أو رأس ماليين وعلاجها لم يكن بتحويل الملكية الخاصة إلى عامة ولكن العلاج المطلوب كان يكمن في معالجة إشكالية فائض القيمة، والحيلولة دون استمرار الربا والمراباة والعقود الربوية وحماية البشرية من آثار ذلك على الإنتاج وعدالة التوزيع ورشادة الاستهلاك وايجاد نظام أخر لا يقوم على الربا لتلبية احتياجات المواطنين إلى المال بطرق أخرى سلكتها مجتمعاتنا القديمة كالمزارعة والمساقاة والمشاركة بأنواعها لتحقيق العدل ومنع النقد أن يكون موازياً للجهد الإنساني أو لإقيام الطيبات بل زائداً عنها في أغلب الأحيان.

لقد تفرع عن أصل الربا شبكة من العقود والعلاقات الإنتاجية والتوزيعية الاستهلاكية أدت إلى تعزيز سلطان الربا وتفشي مشاكله ومنها عملية بيع القروض والديون وبيع الإنسان ما لا يملك والتعامل بالبورصات والتوريق وما إلى ذلك من مشكلات. جعلت المال العام لكل شعب من الشعوب دولة بين الأغنياء والبنوك وحرم الآخرين من التمتع بما خلق الله لهم وهذه المعاملات الربوية واستثمار فائض القيمة والشغف بحمع المال ونسيان أو تناسي علاقة  الله تعالى بالمال مناف للتوحيد.

 بل إن فيه ما يدل على وجود نزعة لدى المرابي في أي مستوى كان فرداً أو بنكاً أو مؤسسة لتأليه المال وتهديم فكرة كون المالك الحقيقي له هو الله تعالى والإنسان مستخلف فيه وتدمير فكرة أو مبدأ حقوق المستضعفين في المال حتى إذا لم يكونوا من عناصر الإنتاج قوله (تعالى) ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (الذاريات:19) فهو حق وليس صدقة وليس تبرعاً اختياريا والتوحيد يقتضي العودة إلى الأمر الأول واعتبار المال أنه مال الله وأن الناس مستخلفون فيه لا يخق لهم الاستبداد بالتصرف فيه كما أن تلك المعاملات الربوية تنافي التزكية وتوجد من الأخلاق وسلوكيات التعامل ما ليس بمقبول في دين الله الذي جاء به جميع أنبياءه ورسله وليس غريبا أن تشتمل الكتب السماوية جميعاً على أن واجب الغني في المجتمع أن يقدم للفقير والمحتاج بوصفة حقاً له لا تبرعاً ولا صدقة.

ولذلك فإن الأديان سمت هذا الذي يدفع أو يرد رداً من أموال الاغنياء على المحتاجين زكاة مفروضة على الأغنياء وحقاً معلوما للفقراء فكان القرآن قد قدم في مبادئه وفقاً لمقاصده الحاكنة الثلاث التوحيد والتزكية والعمران منظومة اقتصادية عادلة ما هي بالرأسمالية ولا هي بالاشتراكية.

وفي هذه الأزمة خسرت البشرية ما يقرب من إثني عشرة ترلين من المال هي لم تتبخر من على وجه الأرض لكنها انتقلت من جيوب إلى جيوب ومن فئات إلى فئة تعرف كيف تدير الأزمات المالية وتهيأ الاجواء اليها وتفجيرها وقت ما تشاء بحيث تزيد الفقراء والطبقات المتوسطة فقراً وتزيد المستغلين غنى ومحاولات الانقاذ التي جرت وتجري بدلاص من ان تتجه إلى الطبقات المتشررة على وجه الحقيقة اتجهت إلى مساعدة البنوك والأغنياء وكبار الرأسماليين وذلك يحمي الربا ويحافظ على منظومته ويترك المتضررين الحقيقين لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس.

 فلو أدركت البشرية منظومة القيم العليا القرآنية الحاكمة لأتجهت للتخلص من الربا وإعادة النظر في جميع المنظومة الاقتصادية القائمة عليه وايجاد السبل الكفيلة بحماية البشرية منه ومما ترتب عليه من عقود فاسدة ومعاملات زادت الفقراء فقراً وأفقرت الكثير من المنتمين إلى الطبقات المتوسطة وهيأت الأجواء إلى مزيد من الأزمات والمشاكل ولو شكلت لجان كفوءة مدركين لأبعاد هذه المقاصد الحاكمة وعلماء اقتصاد وخبراء اجتماع وسياسة لوجدوا أن الحل القرآني القائم على المقاصد العليا هو الحل الأوفق والناجع للخروج من هذه الأزمة وليس كما فعلته الكثير من الحكومات من التوجه لمساعدة البنوك والمتاجرين بالفائض من القيمة وترك المعوزين الذين استغلوا من قبل هؤلاء بعضهم لا يجد ملجأ يأوى إليه ولا مال يكفي ضرورياته سائلين المولى أن يهدي قومنا لعلهم لا يعلمون لعلهم يلتفتون إلى القرآن لحل هذه الأزمة العالمية وغيرها من الأزمات.

 

الخلاصة:

إنّ “المقاصد القرآنية العليا الحاكمة” سوف تخرج الفقيه من دائرة النظر الجزئيّ إلى دائرة “النظر الكليّ” و”الفقه الأكبر” وذلك بعطيها من المرونة والسعة ما يجعلها قادرة على استيعاب أية مستجدات، وتحقيق مصالح البشرية، وسد الذرائع بوجه المفاسد التي ترزخ كثير من الشعوب تحتها وتبرز خصائص الشريعة القرآنية، وتؤصل لفقه قرآني نبوي سليم يستوعب مشكلات الأقليات والأكثريات معاً بإذن الله. وهذه الأطروحة وإن بدت جديدة فإن كثيراً من أئمة الصحابة أمثال أبي بكر وعمر وعلي وعائشة –رضوان الله عليهم- قد جرت على ألسنتهم وظهرت في فقههم. والله الموفق

[1]  وقد ظهر واضحاً مبدأ الأرض الذي أشار له الشيخ في آيات عديدة وخاصة في قوله تعالى ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا﴾ (النبأ:6) ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ البقرة:22) ، وكذلك في قوله تعالى ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ* لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ *إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ *فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ* مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾ (المائدة: 27-32) 

 

 

[3]  العلواني، طه جابر، نحو موقف قرأني من النسخ، (القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2007م).

 [4]  تنظر:  النسائي، رقم الحديث: 3036، موسوعة الحدسث الشريف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *