بسم الله الرحمن الرحيم
حوار مع أ. د. الشيخ طه العلواني
حول
المنظومة الثلاثيّة التي أطلق عليها
المقاصد القرآنيّة الحاكمة وحدّدها «بالتوحيد والتزكية والعمران»
أجرت الحوار الدكتورة زينب العلواني
السؤال الأول: خلال عملي في إعداد رسالتي حول المقاصد: (تفعيل المقاصد في قضايا الأسرة الزواج والطلاق؛ أمريكا أنموذجًا)، أكتشفت أنَّ مقاصد الشريعة يمكن أن يكون لها هيكل كليٌّ تتفرع عنه هياكل جزئيَّة لمختلف الجوانب المتعلقة بحياتنا الإسلاميَّة، وقد لفت نظريّ أنَّ العلماء قد اختلفوا في تناولهم للمقاصد الشرعيّة اختلافات كبيرة. فالتيَّار الأعم والأشمل هُوَ التيَّار الَّذِي جعل من مقاصد الشريعة وسيلة لبيان فضائل الشريعة الإسلاميّة، وعرض مزاياها، وذكر حكم التشريع فيها؛ مما أدى إلى قيام بعض الكاتبين بالتساؤل: وماذا بعد؟ وكيف نفعّل هذه المقاصد في حياتنا التشريعيَّة ونربط مختلف القضايا بها ونستخرج منها أحكامًا مثل تلك التي استنبطها الأصوليّون وصنّفوها إلى أحكام وضعيّة وتكليفيّة؟!
وقد وجدت أن هناك إجماعًا غير معلن بين حملة هموم التجديد في أمّتنا المسلمة في القرنين الأخيرين على استدعاء المقاصد وتفعيلها باعتبارها الوسيلة الأساس، والبديل الأفضل، عن محاولات «تجديد أصول الفقه والفقه» بأشكال مختلفة. لكنَّني وجدت أنَّ دعاة التجديد أكدوا بادئ الرأي على المقاصد. وهم أئمة كبار مثل الشيخ مُحَمَّد عبده، ورشيد رضا وتلميذه حسن البنا، والعلماء الذين ظهروا بالقارة الهنديَّة من ورثة حركات التجديد التي برزت على أيدي الشيخ شاه وليّ الله الدهلوي. وكذلك في إيران على أيدي علماء كبار أمثال النائيني الَّذِي حاول تجديد علمه وأطروحاته الشيخ مُحَمَّد مهدي شمس الدين. وعلماء المغرب العربيّ وسواه مثل ابن بادييس والبشير الأبراهيميّ وابن عاشور، والفاسي وسواهم، كل هؤلاء كانوا يرون أنَّ استدعاء مقاصد الشريعة وتفعيلها هُوَ السبيل الأهدى والأكثر فاعليّة لتجديد «أصول الفقه والفقه».
وكأنَّ هناك اتفاقًا ضمنيًّا بين هؤلاء وعلماء التجديد كافّة، على ضرورة مراجعة كثير من مباحث «أصول الفقه وأبواب الفقه»، والعمل على جعل هذين العلمين المتلازمين أقدر على الاستجابة للاحتياجات الشرعيّة والفقهيّة الكثيرة والمتجدّدة والمعقّدة في عصرنا هذا. وقد وجدت أنَّ هناك نوعًا من المزج بين المقاصد التي تحدث عنها نحو إمام الحرمين والغزالي والعز بن عبد السلام والشاطبيّ وآخرون، وبين محاور القرآن الكريم والسنَّة النبويَّة المطهرة.
وأحيانًا ألمس لديهم شيئًا من المزج بين «الحِكَمِ والعلل» وهي مما لا تخفى الفروق بينها لدى المتخصصين. فأجد أحيانًا من يقترح زيادة مقصد «الحريّة» كما فعل ابن عاشور، أو العدالة كما فعل الشيخ مُحَمَّد الغزالي، أو حقوق الإنسان -كما اقترح آخرون- ولا شك أنَّ «الحريّة والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان وأداء الأمانات» هِيَ كليَّات قرآنيَّة أساسيَّة وهي مقصودة للشارع، والأدلة على ذلك كثيرة. لكنَّني أريد الوصول إلى تلك المقاصد التي يمكننا بتفعيلها أن نستجيب لتحديّات عصرنا، ونثبت صلاحيَّة الإسلام، وعقيدته وشريعته ومنهاجه لكل زمان ومكان، ليتَّفق ذلك مع أطروحاتنا القائمة على أنَّ الإسلام صالح لكل زمان ومكان، وقادر على تكوين الأنساق الثقافيَّة والحضاريَّة.
وبما أننَّا نعيش في الغرب، ونواجه تحديّات يوميّة، ونشارك أهلها خيرها وشرها. فإنّني لا أريد أن أرى أن كل من يستفتى عن شيء من أئمة المساجد وفقهاء الجالية يهرع إلى «فقه الضرورة» وما إليه، ليجيب عن تلك التحديّات، أو يهرع إلى أمر قد تعلمنا في دراستنا «لأصول الفقه» أنّه غير مقبول، وهو القياس على أقوال المتقدمين من الفقهاء الذين أثبتوا مَا قالوه بالقياس. -وكما لا يخفى عليكم- أنّه ممنوع عند الأصوليّين، لأنّه سوف يؤدّي إلى إثبات أحكام أو فتاوى بالقياس على مَا هُوَ ثابت بالقياس، وذلك أمر ممنوع لديهم.
من هنا فقد حظيت أطروحاتكم القائمة على أنّ «المقاصد القرآنيَّة العليا الحاكمة» تنحصر في مقاصد ثلاث باهتمام كبير، بناءً على استقراءكم القرآن الكريم من سورة الفاتحة حتى سورة الناس، وقد حدَّدتم المقاصد القرآنيَّة الحاكمة بهذه الثلاث «التوحيد والتزكية والعمران».
ولذلك فقد شغلت أطروحاتكم الكثيرين، واضطربت الآراء حولها، فالبعض وافقكم على ضرورة انحصار هذه المقاصد بالثلاث المذكورة. والبعض يرى أنّكم قد طرحتموها بدون أن تبيّنوا وسائل لمنهج تطبيقها وإجراءات مقترحة لتفعيلها، أو كيفيَّة بناء «أصولٍ وفقهٍ» عليها. وبعضهم أراح نفسه واعتبرها أطروحة كسائر الأطروحات التي سبقتها تصب في إطار فضائل الشريعة. ولذلك فقد رأيت أن أعرف رأيكم في هذا، رغبة في جلاء هذه الأطروحة، ومساعدة القراء، خاصَّة المعنييّن «بالفقه وأصوله» على معرفة مفردات هذه الأطروحة. وكيف توصلتم إليها، وذكر وسائل تفعيلها وآليَّاتها الإجرائيّة؟ التي يستطيع «الأصوليّ والفقيه» استعمالها وتوظيفها للحصول على أحكام مستمدة من القرآن المجيد باعتباره المصدر المنشئ للعقيدة والشريعة والمنهاج، والسنّة النبويَّة باعتبارها مصدر التفعيل والـتأويل والتطبيق في الواقع المعاش؟ !!
الجواب:
أودّ أن أمهّد لإجابتي عن تساؤلاتك بأمر أراه ضروريًّا خاصّة لأولئك الذين لم يعرفوني معرفة شخصيَّة!! ليعرفوا كيف أمارس بحوثي ودراساتي، وكيف أتوصل إلى مَا يوفقني الله -تبارك وتعالى- إليه من نتائج!! لقد بدأت دراساتي في العلوم النقليّة في عام(1949م) ودرست العلوم الشرعيَّة على أيدي مشايخ كانوا يدرّسون في المساجد على الطريقة التقليديّة القديمة. وحصلت على إجازات من كثير منهم ومن هؤلاء الشيخ عبد العزيز السامرائيّ، وشيخي إمام العراقيّن «عراق العرب وعراق العجم» الشيخ أمجد الزهاويّ، وقد أجازني في الفقه الحنفيّ وأصوله، وشيخي حفيد أبي الثناء الَّذِي أجازني إجازة عامَّة، وشيخي قاسم القيسيّ مفتي العراق حتى عام (1954م)، وشيخي عبد القادر الخطيب، خطيب جامع الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، وكان إمامًا في علوم القرآن الكريم والقراءات خاصّة، وشيخي مُحَمَّد القزلجي. ثم شيوخي المصريّين وفي مقدّمتهم الأخوان الشيخان مصطفى وعبد الغني عبد الخالق، والشيخ مصطفى مجاهد، والشيخ طه الديناريّ، والشيخ جاد الرب رمضان، والشيخ مُحَمَّد الذهبيّ، والشيخ مُحَمَّد السايس، والشيخ عيسى منون، ثم شيخي الأخير الَّذِي تتلمذت عليه في المملكة العربيّة السعوديّة وهو الشيخ عبد العزيز بن باز، أمّا الشيخ ابن عثيمين فقد كنَّا كثيرًا مَا نتحاور ونستفيد من حواراتنا وكان يعُدني –متفضلًا- من زملاءه، وكذلك مُحَمَّد بهجت الأثريّ رحم الله الجميع وجزاهم عني خير الجزاء وأسكنهم فسيح جنّاته.
وبعد أن فرغت من دراساتي تلك؛ بل وقبل أن أفرغ أو أحمل الإجازات والشهادات الجامعيَّة، كنت قد بدأت تدريس تلك العلوم في الحلقات والمساجد وفي الكليّات والجامعات، مستخلفًا من بعض أساتذتي ومستقلًا في بعض الأحيان. وكنت لعشر سنوات أدرّس «الفقه وأصوله» في جامعة الإمام مُحَمَّد بن سعود الإسلاميَّة، وكنت قد أشرفت على عشرات الرسائل ولي عشرات الطلاب في الشرق والغرب أعتز بهم، ومنهم أولئك الذين يتسنَّمون الآن كراسي الأساتذة في جامعات شرقيَّة وغربيّة مرموقة.
وبعد تلك الرحلة الطويلة وجدت نفسي في الولايات المتحدة مقيمًا فيها وقد سلخت من عمري خمسًا وعشرين سنة في تلك البلاد وما أزال مقيمًا فيها. توجه إليَّ في كل يوم وليلة مَا بين سبعة إلى عشرة من الأسئلة بالتلفون وبالمراسلة، ثم رأيت أن أوقف عمليَّة الإفتاء لمن يستفتى بالتلفون. لأنّ ذلك يشكل ضغطًا على المجيب أو المفتي قد يحمله على الإجابة المتسرعة فلا يأخذ الوقت الكافي للتفكير في الواقعة المسئول عنها ولملمة أطرافها ولم يقلّل ذلك كثيرًا من عدد الأسئلة التي كنا نتلقاها عن موقف الشريعة الإسلاميّة أو حكمها في قضايا عديدة. خمس وتسعون بالمائة منها مستجدة لم تعرض لفقهائنا من قبل، ولا أجد لها في المطولات الفقهيّة ذات الصبغة الموسوعيّة مثل: مغني ابن قدامة، ومحلى ابن حزم، والمبسوط للسرخسيّ، والأم للشافعيّ والبحر الزخّار والمعيار المُغرب ووسائل الشيعة، إجابات يمكن أن ينشرح لها الصدر أو يطمئن لها القلب؛ بل أجد معظم تلك الإجابات التي كنت استقيها من أمَّات المطوّلات الفقهيّة للمذاهب الثمانية السائدة تحيك في صدري وتشغلني كثيرًا لدرجة يضيق بها صدري ولا ينطلق بها لساني. وربما أجلس لنفسي أحيانًا فأجهش بالبكاء وأدخل في حيرة لا أخرج منها إلا بقراءة القرآن الكريم الَّذِي يخرجني من تلك الحيرة بكليَّاته وسننه ولوامع بيّناته، ويمنحني حالة الثَلَجِ وبَرد اليقين، وبعد معاناة وبحث طويلين وصلت إلى قناعة تامَّة ومطلقة بأنّنا حين نواجه تحديّات العصر بتراثنا، خاصَّة نحن المقيمين في الغرب، لنحاول إسقاط إجابات التراث على المعاصرة وتحديّاتها بوساطة القياس عليها أو غير ذلك. فإنَّ ذلك سيقودنا إلى نوع من الخيبة واليأس من التمكن من مواجهة تحديّات العصر وأسئلته وإشكاليّاته بوسائل وإجابات صاغها أسلافنا لمواجهة تحديّات واقع مغاير في جلّ مقوماته لواقعنا هذا، وإنَّ استمرار البحث في التراث والعمل على استنهاضه لينوب عنَّا في الإجابة عن أسئلة عصرنا سوف لن يؤدّي بنا إلّا إلى نوع من الفشل الشامل لمحاولات الإحياء والنهوض، والعجز عن حسن تقديم القرآن الكريم وأهله وحملته إلى عالم اليوم. وقد يجعل الطريق سالكة أمام أبنائنا باتجاه اعتناق الأفكار الوضعيّة والعلمانيّة، والنظر إلى مقولاتنا بأنَّ الإسلام هُوَ الحل، وأنَّه صالح لكل زمان ومكان، وأنَّه قادر على إعادة صياغة الحياة، هذه الأطروحات –كلُّها- سوف يُنظر إليها على أنّها أطروحات تحريضيَّة وغير عمليَّة أو جادَّة.
إذ من الصعب إن لم يكن من المتعذر أن نسقط إجابات وحلولًا قدمت لواقع مغاير نوعيًّا لواقعنا في نظمه ومقوماته، وعلاقات الإنتاج والتوزيع فيه، والتغيّرات النوعيّة التي شملت نظمه السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والثقافيَّة، حتى صار مغايرًا في ذلك كله، على واقع جديد بينه وبين الواقع الآخر المتقدم أو الماضي كل تلك الفروق. إذًا؛ فطريق الرجوع إلى التراث وتجسير العلاقة بين الماضي والحاضر لن يعالج مشكلاتنا ولن يضعنا على طريق الحل إلّا إذا اعتبرنا مَا أنتج في الماضي مجرد سوابق تاريخيَّة تزيدنا معرفة بالظواهر وطرائق تغيّرها.
من هنا كان لا بد من الرجوع إلى كتاب الله، فهو المحجَّة البيضاء التي تركنا عليها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- وهو المخرج من الفتن كلّها، فهو كتاب كونيٌ يستوعب الكون وحركته لا يتوقف عند مكان معيَّن، أو في زمان محدَّد وهو كتاب مطلق. يستطيع الاستجابة لحركة الكون ولحركة الإنسان، وهو المصدّق الَّذِي يستطيع أن يعيد كل مَا حُرّف من رسالات الأنبياء إلى حالة الصدق، ثم يقوم بالهيمنة عليها، وهو المستوعب والمتجاوز، وهو الكتاب الَّذِي وصفه الله تعالى وهو المتكلم به «بأنَّه تبيان لكل شيء»، مَا فرط الله فيه من شيء، يبيّن للناس كل الَّذِي يختلفون فيه، وهو الحق –كلّه- لا يأتي الناس بمثل إلّا جاء القرآن المجيد بالحق وأحسن تفسيرًا.
وحين بدأت أقرأ القرآن المجيد قراءة متدبّرة بحثًا عن مقاصده المحوريّة العليا الحاكمة التي يمكن بها أن نجيب على تحدّيات عصرنا ونهيمن بها على إشكاليّاته، وجدت بعد الاستقراء التام أنّ المقاصد المحوريّة التي تدور حولها سور القرآن العظيم وآياته يمكن حصرها في مقاصد ثلاثة عليا حاكمة، بحيث يمكن أن ترتبط بها سائر المقاصد الفرعيّة لتكامل بها ومعها شبكة المقاصد القرآنيَّة بسائر مستوياتها. وهذه المقاصد الثلاثة هي:
المقصد الأول: هُوَ «التوحيد»؛ أي: إفراد الله -تبارك وتعالى- بالربوبيّة والإلهيّة والصفات، فلا يشاركه سبحانه وتعالى أحد في أيّ شي من هذا. وهو مقصد يعد في قمة مقاصد القرآن المجيد العليا الحاكمة، لا ينافسه في أهميَّته أيّ مقصد آخر. وحين نقول: «التوحيد» فإنَّه يشمل بالإضافة إلى مَا ذكرنا، عالم الغيب –كلّه- النسبيّ منه والمطلق، لأنّ «التوحيد» محور أساس لعالمي الغيب والشهادة، لا يستغني أيٌّ منهما في كليَّاته أو جزئيَّاته عن التوحيد وتجليَّاته على العالمين بكل تفاصيلهما. و«الفعل الإنسانيُّ» أيًّا كان يتأثر بشكل مباشر مع هذا المقصد المحوريّ إيجابًا وسلبًا، ويتوقف على مراعاته وملاحظته جانب كبير من تقييم «الفعل الإنسانيّ».
أمّا المقصد الثاني المحوريّ في القرآن المجيد فهو مقصد «التزكية». تزكية الإنسان لنفسه ولبيئته ولنظم حياته ولمجتمعه، ولكل مَا يعايشه أو يتصل به. والتزكية هِيَ الدعامة التي يقوم عليها فلاح الإنسان وإمكاناته للقيام بمهمة الوفاء بالعهد الإلهيّ والقيام بمهمة الاستخلاف، والوفاء بحق الأمانة الإلهيَّة التي ائتمن الله -تبارك وتعالى- الإنسان عليها، والنجاح في اختبار الابتلاء. كل هذه الأمور تتوقف على التزكية (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس:9-10)، ولذلك فلا بد من اعتبار التزكية محورًا لا يستغنى عنه ولا يمكن تجاوزه. فسور القرآن الكريم وآياته المتعلقة بالتوحيد، بل التوحيد ذاته؛ يتصل بالتزكية اتصالًا لا انفصام له. ومن هنا كانت التزكية موضوع العديد من نجوم القرآن الكريم وآياته.
ثم يأتي المقصد المحوريّ الحاكم الثالث، ألا وهو العمران؛ فالعمران عندنا يقوم على إعمار الكون وإحياء مواته والاستفادة بكل مَا أتاحه التسخير الإلهيّ من النعم الظاهرة والكامنة فيه، وجعل كل شيء فيه داخلًا في دائرة التسبيح لله سبحانه. فالأرض حين تهمل فلا تزرع ولا تسكن تعد ميتة، وإحياؤها يكون بوضعها على طريق عمرانيّ يجعلها حيَّة معطاء. وكذلك كل شيء من المسخَّرات في هذا الكون.
والفعل الإنسانيُّ المقصود بالتقييم وبيان الحكم الشرعيّ فيه هُوَ ثمرة تفاعل بين هذه المقاصد المحوريّة الثلاثة. ولا بد من ملاحظتها –كلّها- فيه، وأن يقوم تقييمه في جانب الإيجاب أو السلب بناءً على ملاحظة تفاعله وتأثُّره بشكل إيجابيّ مع تلك المقاصد المحوريَّة الثلاثة. فالحسن منه والمقبول والمشروع هُوَ الفعل الَّذِي ينطلق من التوحيد، ويدل على قوته ومتانته في ضمير الإنسان. ويكون في الوقت نفسه منبثقًا من نفس إنسانيَّة مزكَّاة وتكون غايته ونتيجته تصبّ في دائرة العمران لا في دائرة الإفساد في الأرض.
فهذه مقاصد قرآنيَّة محوريَّة عليا حاكمة؛ لأنّها انبثقت من استقراء تام لآيات القرآن الكريم. ويمكن أن تتفرع عنها المقاصد الأخرى بحسب مستوياتها لتصبح المنظومة –كلُّها- قادرة على بناء قواعد أصوليّة، قادرة على مد المجتهد المعاصر والمفتي والمستفتي بالقدرة على الوصول إلى «فقه قرآنيّ نبويّ» قائم على القرآن إنشاءً، وعلى السنن التي هِيَ في حقيقتها ذات أصول وجذور قرآنيَّة، وتعد تأويلًا لآيات الكتاب المجيد وتفعيلا لها وتطبيقًا عمليًّا، يقترن بالقول أحيانًا، أو يكون فعلًا مجردًا غير مصحوب بالقول، أو فعلًا حدث بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- فأقره، أو يكون قولًا يستدعي أو يقتضي فعلًا. وفي كل الأحوال ستكون مصادر أو «أصول الفقه» أصولًا قرآنيَّة ينشئوها القرآن ويفعّلها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- في واقع يعيشه الناس، ويتمكنون من التأسي به -صلى الله عليه وآله وسلّم- باتّباع الكتاب وحسن تأويله وتفعيله بإذن الله تعالى.
والذي نعمل فيه –الآن- ونحاوله هُوَ كيفيَّة تفعيل هذه المقاصد الثلاث في بناء «أصول الفقه القرآنيّ» واستنباط الأحكام الفقهيَّة القرآنيّة في المستجدات، وفي مواجهة التحديَّات من القرآن وفقًا لمنهجه، مهتدين بأنوار التجربة النبويّة في جيل التلقي.
إنَّ أهم صعوبة تواجهنا ونحن في مرحلة بناء هذه المنظومة، أنَّها منظومة من المتعذِّر أن يقوم بتشغيلها أو تفعيلها المجتهد الفرد، لأنّ تشغيلها يقتضي أول مَا يقتضي قدرة واسعة على تكييف الوقائع، وفهم سائر أبعادها، وتحديد كل متغيّر أو معطى له علاقة بها وقدرة على الميز بين مَا هُوَ كليٌّ أو جزئيٌّ منها. ولا يخفى أنَّ هذا النوع من الجهود يقتضي فيما يقتضي مجاميع كبيرة من علماء الاجتماعيّات والطبيعيّات في مختلف التخصّصات، لاستقراء معطياتها ورصد سائر المتغيّرات فيها، وصياغة الإشكاليّة سؤالًا يطرح على علماء المقاصد الثلاث، الذين ينبغي أن يكونوا أكثر من واحد، ويكونون ذوي إلمام كافٍ ببعض التخصّصات الاجتماعيّة وذوي معرفة عامَّة بالطبيعيّات، تمكّنهم من فهم لغة أولئك الذين يصوغون الإشكاليّات والأسئلة من خلال فقه دقيق للواقع مستغرق لمعطياته ومتغيّراته.
آنذاك يمكن أن تعمل هذه المنظومة بشكل دقيق وتؤدي دورها في ترشيد وهداية الحياة الإنسانيّة بشكل سليم. وذلك يعني أنَّنا سنكون بحاجة إلى مجامع من المؤهَّلين في مختلف التخصّصات يعملون معًا، وفي انسجام تام لقيادة الجدل والتفاعل بين الواقع المتغيّر والمقاصد العليا الحاكمة. ولكي نحصل على المؤهَّلين على هذا المستوى فإنّنا بحاجة إلى جامعات ومعاهد تختار برامجها بعناية فائقة لإيجاد وتخريج مثل هؤلاء ليقوموا بالمهمة على الوجه الأكمل، ويقدموا لنا هذا الفقه الحضاريّ الأكبر.
وقد يكون من الممكن على سبيل الاختبار والتجربة أن نقوم بمراجعات لبعض القضايا التي عالجها فقهنا فيما مضى، ونعيد عرضها على هذه المنظومة، لمعرفة إلى أيّ مدى كانت هذه المقاصد العليا الحاكمة ملاحظة في تلك القضايا، وما إذا لوحظت المقاصد الأخرى في داخلها.
المثال الأول: قضيّة تقسيم الأرض التي تبنّاها فقهاؤنا فيما مضى فقسموا المعمورة إلى «دار الإسلام، ودار الحرب، ودار العهد»، وحينما نحاول مراجعة هذه القضيّة بأدلتها في هدى المقاصد القرآنيّة العليا الحاكمة. نجد أنَّ هذا التقسيم للمعمورة غير مقبول عند النظر «لأصول الفقه والفقه» القائم على هذه المقاصد لأسباب عديدة تتعلق «بالتوحيد» الَّذِي يستدعي استحضاره فورًا «وحدة الإنسانيّة» من حيث إنَّ الإنسان قد خلقه الله -تبارك وتعالى- من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث سبحانه منهما رجالًا كثيرًا ونساءً.
ونضيف إلى ذلك مبدأ خلق الأرض وجعلها مهادًا لهذا الإنسان، وقد جعل منها بيتًا واسعًا لهذه الأسرة الممتدة مهما كبرت، وجعل كل مَا فيها من أقوات قدَّرها الله -تبارك وتعالى- ومياه خلقها سبحانه شركة بين أبناء هذه الأسرة الممتدة. وعندما نلاحظ جانب «التزكية» نستطيع أن ندرك أنَّ التزكية تقتضي أنَّ حالة السلم هِيَ التي ينبغي أن تكون سائدة بين البشر كافَّة، وأنَّ حالات الحرب هِيَ حالات استثنائيَّة تدل على انحراف في التصورات الإنسانيَّة وفي الرؤية الكليَّة للبشر، وانحراف في أخلاق وسلوكيَّات الناس تدفعهم إلى بغي بعضهم على بعض في الأرض. وهذا –كلُّه- مناقض «لحالة التزكية» ودليل على الهبوط في الحالة المناقضة لها وهي «التدسية» من دسّاها. إنّ تخريب الإنسان لأرض غيره انحراف آخر في الرؤية والتصرف والسلوك واعتداء على الكون المسخَّر وعيث في الأرض وإفساد فيها. وكل هذا على سبيل الإجمال. وتفصيل ذلك يحتاج كما قلنا إلى رصد عدد كبير من المتغيّرات والمعطيات للكشف عن ذلك كلّه.
كذلك لو أخذنا «قضيّة الأصل في العلاقات بين الأمم والشعوب» أ هُوَ السلم أم الحرب؟ فسنجد في تراثنا أقوالًا كثيرة، واختلافات شديدة. ولكنّ النظر في «منظومة المقاصد المحوريّة القرآنيّة» يكفينا مؤنة البحث المتشعّب؛ لأنّ الأصل أن تكون البشريَّة –كلّها- متحدة في مواجهة العدو المشترك وهو الشيطان: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (فاطر:6)، وقال تعالى ](ا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (الأعراف:27) فتفرق البشر هُوَ الأمر العارض حيث إنّهم نتيجة فساد الرؤية حوّلوا مَا جعله الله -تبارك وتعالى- وسيلة للتعارف بينهم – مثل اختلاف الألسن والألوان والمصالح وما إلى ذلك- إلى وسيلة للتناقض والتصارع. فالرجوع إلى «المقاصد القرآنيّة العليا الحاكمة» كفيل بتعديل مسار البشريّة، وتصحيح رؤيتها وإزالة أسباب التنافر والاختلاف فيما بينها.
ويمكن أن ينظر إلى «حقوق الإنسان في الحريّة» ومنها «حريّة الاعتقاد والتدين والانتقال والملكيّة وحق الخصوصيّة» على أنّها من تلك القضايا التي نستطيع أن نجد لها مكانها الملائم في إطار «الفقه المقاصديّ الأكبر» الَّذِي ينبثق من ملاحظة ومراعاة «المقاصد القرآنيّة العليا الحاكمة» ونستطيع الاستمرار في ذكر قضايا كثيرة مما تناولها تراثنا «الأصول الفقهيّ والفقهيّ» ولكن باجتهاد جماعيّ مشترك يحشد له علماء من مختلف التخصّصات نصل فيه بإذن الله تعالى إلى كلمة سواء فضلًا عن القدرة التي يقدمها هذا النسق المقاصديّ لمختلف المستجدات.
إنّ الشكوى تتعالى يومًا بعد آخر مما يعرف «بفوضى الفتاوى» وربما يكتشف الناس بعد أن تتعبهم محاولاتهم لتجاوز هذه الفوضى أنّ مرجعيّة «المقاصد القرآنيّة الحاكمة» هِيَ المخرج الوحيد من هذه الفوضى.
* * * * *
أمّا عن كيفيّة تفعيل هذه المقاصد فلا نريد أن نستبق تجارب العمل على بلورتها للوصول إلى قواعد نظريّة محدّدة في وسائل التفعيل، لأنّ التجارب التي سيقوم بها العلماء المعنيُّون بتفعيل هذا النسق سوف تكون من أهم العوامل المساعدة على بلورة منهج التفعيل.
ويمكن القول: إنّ النقطة الأولى الضروريّة الإيجابيّة في مسائل إجراءات التفعيل قد تكون في استكمال أدوات «بناء فقه الواقع» فإذا استكملت هذه الأدوات وكشف عن إجراءاتها فسوف تقدم لنا العديد من الخطوات المنهجيّة التي تساعدنا في بناء وبلورة منهج التفعيل.
والنقطة الثانية: إنَّنا سوف نجد أنفسنا بحاجة ماسّة إلى إدراك فرق مهم بين «العهد النبويّ وعصر جيل التلقي» والعصور اللاحقة ومنها عصرنا هذا. سنتبيَّن أنَّ القرآن الكريم في عصر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- نزل منجَّمًا في «اثنتين وعشرين سنة وخمسة أشهر واثنين وعشرين يومًا»، ليثبت به فؤاد النبي -صلى الله عليه وآله وسلّم- وأفئدة أبناء جيل التلقي، ويؤكد على إلهيّة المصدر القرآنيّ وأنّه كلام الله -تبارك وتعالى، فربط بينه وبين وقائع عصر النبوة لتثبيت منهجيّة استيعاب ذلك العصر بنصوص القرآن الكريم، ثم تجاوزه بعد تمام القرآن الكريم.
وقد حدث ذلك حين أمر الله -تبارك وتعالى- رسوله الكريم -صلى الله عليه وآله وسلّم- وأمر جبريل –عليه السلام- معه بأن يقوما معًا بترتيب القرآن الكريم ترتيبًا يقطع العلاقة بينه وبين تواريخ النزول وأسباب النزول ومناسباته ويؤكد للبشريَّة إطلاقه وعمومه وابتعاده عن أيّ شيء يمكن أن يضيف إليه مبدأ النسبيّة أو فكرتها. فأعيد ترتيبه على الشكل الَّذِي هُوَ عليه الآن يبدأ بالفاتحة وينتهي بالناس. وهنا لا بد من ملاحظة التغيير المنهجيّ في هذا الموضوع، فإذا كانت الحالة في عصر النبوة أن تبرز مشكلة ما، مثل «قضيّة الإفك» ثم ينزل القرآن المجيد لمعالجتها فإنّ الأمر الآن مختلف، فالقرآن المجيد كامل تام هُوَ الَّذِي ينتظر الأزمات والأسئلة لتلقى عليه فيجيب عنها، وليس العكس.
وهذا يجعل العلاقة بين القرآن المجيد وأزماتنا علاقة وطيدة مثل العلاقة بين آياته ومشكلات وأزمات عصر النبوة، فهناك كانت الأزمات والأسئلة والمشكلات تنتظر القرآن المجيد لينزل إليها، أمّا في عصرنا هذا وعصور أجيال مَا بعد التلقي، فالقرآن المجيد ينتظر مجيء الأزمات والمشكلات إليه بتمامه وكماله، ليقوم باستيعابها وتجاوزها.
فدراسات الواقع والوقائع المستفيضة المستقرأة ستعطي للعلماء المحاورين للقرآن الكريم فرصة عرضها على القرآن الكامل مما يفرض عليهم أن لا يدعوا صغيرة ولا كبيرة من متغيّرات الواقع والوقائع إلا ويحصوها، لتكون الصورة كاملة بين يدي القرآن الكريم كما كان الواقع في جيل التلقي ظاهرًا وبارزًا بين يدي القرآن المجيد في ذلك الواقع.
وقد نجد أنفسنا في حاجة إلى التنبيه إلى أنَّ الحوار مع الخطاب القرآنيّ في عصرنا هذا سوف لن يكون حوارًا لغويًّا ولسانيًّا فحسب؛ بل ستضاف إليه عناصر الواقع ومعطياته ومتغيّراته –كلّها- بدراسات علميّة مستقرأة. فإذا استحضر القائمون على تفعيل هذه المقاصد من سائر العلماء مَا ذكرناه، فإنَّ «المنهج القرآنيّ» القائم على «الجمع بين القراءتين، والوحدة المنهاجيّة، والوحدة البنائيّة، ووحدة الحق ووحدة الخلق، ووحدة الأرض ووحدة النشأة والمصير»، كل ذلك سوف يعين العلماء على الكشف عن سائر مفاصل وفواصل منهج تفعيل هذه المقاصد ووضع الخطوات الإجرائيَّة للكشف عن فاعليَّتها في كل شيء وشأن.
وبعد اتخاذ الخطوات المتقدمة لا بد أن يكون لدى علماءنا الذين يعملون على تفعيل «المقاصد القرآنيَّة العليا الحاكمة» أسئلة واضحة ومستقرأة، توجَّه إلى كل مقصد من «المقاصد القرآنيَّة العليا الحاكمة» عند عرض كل قضيّة من مستجدات القضايا على هذه المنظومة، وتكون هذه الأسئلة شاملة مستقرأة بقدر الإمكان لسائر المعطيات والمتغيرات الإيجابيّة منها والسلبيّة.
وليتضح مَا نقول فلنفرض واقعة من الوقائع المعاصرة التي تشغل الأذهان مثل: حكم صناعة المسلمين لوسائل الدمار الشامل؟ فنسأل مَا رأي «التوحيد» وما موقفه من هذه القضيّة؟ ولنفرض أنَّ موقفه سيكون باتجاه القبول، ففي هذه الحالة نحن بحاجة إلى وضع العديد من الأسئلة التي تترتب على القبول.
كأنّ نقول: إنّ هناك إنسانًا وحيوانًا وشجرً وبيئةً، وهناك أرض وهواء وبحار، وطرق مواصلات ومصادر ثروة، وأناس لا علاقة لهم بالحرب، وهناك الشيوخ والمرضى والأطفال والنساء الحوامل وما إلى ذلك. كما أنّ هناك قوات العدو المستهدفة. إضافة إلى وجود قيم عليا أخرى كالعدل وما إليه، وطبيعة الإسلام القائم على قواعد ينبغي أن تستنبط من ذلك -كلّه- الأسئلة الإجرائيّة ليحاور «التوحيد» بمقتضاها وتدون إجاباته في الجانبين الإيجابيّ والسلبيّ.
وقد نجد بين أيدينا مائتي سؤال أو تزيد ينبغي الإجابة عليها حتى نحصل على الموقف السليم الَّذِي نستطيع أن ننسبه للتوحيد بحيث يؤدّي إلى الثَلَجِ وبرد اليقين. ونفعل مثل ذلك مع «التزكية والعمران» ثم نعيد النظر بتوجيه الأسئلة على المنظومة كلّها ملاحظين عناصر التكامل بينها لنخرج بعد ذلك بجواب تطمئن النفس إلى صحته وصدقه والله -تبارك وتعالى- أعلى وأعلم.
وهناك مثال آخر مهم هُوَ «فريضة الجهاد» التي تناولها تراثنا بشكل أستطيع أن أقول: إنَّه مغاير لطريقة التناول القرآنيّ في كثير من الجوانب، فسائر أولئك الذين كتبوا في الجهاد والسير أعطوا لمن يقرأ مَا كتبوا فكرة تقوم على أنّ الجهاد هُوَ القتال، وأنه قتال على الدين، وقسموه إلى «جهاد دفع، وجهاد طلب»، وبنوا على هذا التصور كل مَا عرف بأنّه جزء من آثار الحرب وأحكامها. فأحكام الأسرى وأحكام المعاهدات وما يتعلق بالغنائم والإعداد والتهيئة للقتال، وتقسيم المعمورة إلى «دار حرب، ودار إسلام»، كل ذلك انطلق معظم الفقهاء المتقدمون فيه من هذا الفهم أو ذلك التصور.
وقد استقر في أذهان الكثيرين أنَّ المسلمين إنَّما يقاتلون لحمل الناس على الدخول في الإسلام بالقوة بناء على حديث «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله.. فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها…» وهذا الحديث حديث لا يصح، لا سندًا ولا متنًا ولو أنّه قد روي بعد أن اشتهر في أجيال لاحقة. ونسب إلى أبي بكر الصديق الاستشهاد به في حروب الردة وقد روي من مائتين وأربعة وثلاثين طريقًا، أربعون منها دارت كلّها على الزهريّ، وأربع وعشرون على الأعمش وعشرون على حميد الطويل وستة عشر على شعيب بن أبي حمزة، واثنا عشر على سفيان الثوريّ، وستة على الْحَسَن البصريّ، وأربعة على شريك النخعيّ، وكل من هؤلاء مدلس ولم يصرح بالسماع وبناءً على قواعد المحدثين والأئمة النقاد للأسانيد تعتبر هذه الطرق كلّها مظلمة فباطلة لا اعتبار بها، وهناك عورات أخرى بالأسانيد يمكن لمن يريد أن يرجع للمصادر المعتبرة لدى النقاد لمعرفة عوراتها والكشف عنها.
ومن طرق الحديث ثلاث وعشرون تدور كلّها على سماك بن حرب عمن فوقه، وثمانية تدور على كُثير بن عبيد وأربعة على سفيان بن عامر الترمذيّ، وثلاثة على زياد بن قيس وواحد على حاتم بن يوسف الجلاب عن عبد المؤمن بن خالد، وواحد على عبد الرحمن بن عبيد الله، وواحد على عجرن مولى فاطمة، وواحد على أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة، واثنان مرسلان. وسماك المذكور ضعيف؛ وسائر هؤلاء مجهولون، فالمدارات كلّها مظلمة فباطلة لا اعتبار بها، ومن هذه الطرق سبعة تدور على العطاء بن عبد الرحمن، واثنان على سليمان بن أبي داود، وواحد على عمر بن أبي بكر الموصلي عن زكريا بن عيسى، وواحد على يحيى بن أيوب الغافقيّ، وواحد على أَحْمَد بن سليمان الواسطيّ، وواحد على أبي أَحْمَد عبد الرحمن الوكيعيّ عن إبراهيم بن عيينة.
وكل من هؤلاء ليس بمحل للحجّة مطلقًا لا مفردًا ولا مقرونًا بغيره. وكلّها مظلمة فباطلة لا اعتبار بها، فضلًا عن عورات أخرى بالأسانيد لا نطيل بذكرها، وقد استقرأنا استقراءً كاملًا كل هذه الطرق فما وجدنا منها طريقًا يسلم بحيث يقبل عند المحدثين. وتلك الطرق على كثرتها منها مَا دار على مدلسين أو مجاهيل أو ضعفاء أو مجروحين في عدالتهم. وبالتالي فإنَّ هذا الحديث لا يصح، ولا يصلح أن يكون ناسخًا لغيره ولا مخصّصًا ولا مقيّدًا فضلًا عن أن ينسخ بمثله القرآن الكريم القطعيّ أو يخصّص وقد أثبتنا بما لا يدع مجالًا للشك في كتابنا «نحو موقف قرأنيّ من النسخ» أنّه لا يقبل النسخ أبدًا وأنَّه لا مبدل لكلمات الله -تبارك وتعالى- وبالتالي (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:256)، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس:99) إلى مائتي آية وردت تؤكد نصًّا وظاهرًا على «حريّة العقيدة والعبادة والتديُّن» هذه الآيات –كلّها- محكمة، وليس هناك مَا يصلح أن يكون ناسخًا لها؛ ولانّ الهيمنة للقرآن المجيد والحاكميَّة له. وهذا هُوَ الموقف القرآنيّ السليم، فإنَّ أيّ خبر أو حديث أو حكم فقهيّ، يناقض القرآن المجيد يجب أن يرد. وعلى هذا فإنَّ القتال لإكراه الناس على قبول الدين أو لإجبارهم على تغيير أديانهم أمر مرفوض بمقتضى القرآن الكريم. وآيات الجهاد والقتال التي وردت في القرآن الكريم لا تدل على أنّ علة الجهاد ومستوى القتال منه هِيَ إكراه الناس على قبول الإسلام أو الاستمرار فيه.
وحين نتتبع هذه الآيات في سياقها نجد ذلك واضحًا؛ فالرسول -صلى الله عليه وآله وسلّم- والمؤمنون في مكة مع وجود المجتمع القبليّ وكلّهم لهم قبائل أو معظمهم لم يدافعوا عن أنفسهم بقتال ولم يستعملوا العنف، فرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- نفسه قد تعرض للأذى من أبي جهل ومن أبي لهب وامرأته ومن كثير من المشركين وكان يمنع من يريدون الدفاع عنه من فعل ذلك، كما منع الصحابة من الدفاع عن أنفسهم، وكان جوابه دائمًا «إنّي لم أأمر بقتال». ولم يكن ذلك عن ضعف كما يتصور كثيرون. ففي المجتمع القبليّ لا يكون الإنسان ضعيفًا وهو بين قبيلته وعشيرته ورسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- ينتمي إلى أهم قبيلة من قريش وله صهر وعلاقات مع معظم قبائل مكة وبيوتاتها، ومع ذلك فإنَّه لم يدفع عن نفسه ولا عن أصحابه، وقبل الحصار في شعب أبي طالب وتجاوز ردود الفعل عن تعذيب كثيرين من أصحابه عليه الصلاة والسلام وأمرهم بالهجرة للحبشة لحماية أنفسهم ثم هاجر إلى المدينة المنورة بعد أن انتشر الإسلام فيها وعاهد أهم قبائلها، ولذلك كانت الآية الأولى قَالَ: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (الحج:39)، فكانت أول إذن لهم في الدفاع عن أنفسهم وعن حريّاتهم.
ثم أمر عليه الصلاة والسلام باليقظة والحذر من أولئك الذين أبرموا معه معاهدات واتفاقات وأن عليه أن يدرس حالة كل مجموعة من هذه المجاميع لمعرفة من يلتزم منهم بعهده أو معاهداته وسيوفي بها، وأولئك الذين يريدون أن يتخذوا من المعاهدة وسيلة للكيد لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- وللمؤمنين.
فأمره الله -تبارك وتعالى- بأن يتعامل مع هؤلاء بحسب مواقفهم فقال تعالى: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (الأنفال:58)، (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (الأنفال:60)، وذلك للحيلولة بين هؤلاء وبين عدوهم، وفي الوقت نفسه تأتي (الآية 61) لتأمره بقبول السلام مع من يريد السلام. (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[)(الأنفال:61).
(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال:63). وجاء بعد ذلك في السورة نفسها آيات تدعو إلى تعزيز وتقويّة الجبهة الداخليّة وتنبه إلى خيانات متوقعة من قبائل المشركين ومن القبائل اليهوديَّة المحيطة بالمدينة المنورة ثم تأتي آيات سورة براءة فتبدأ بالبراءة من المعاهدات التي أبرمت مع المشركين: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ * كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ * اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ * فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(التوبة: ١- 13).
الآية الأولى تدل على ضرورة إعلان البراءة إلى الذين عاهدهم النبي -صلى الله عليه وآله وسلّم- والمؤمنون من المشركين، ثم نكثوا أيمانهم ونقضوا عهودهم وظاهروا عليكم غيرهم، فهؤلاء هم الذين تلغى الاتفاقيات التي أبرمت معهم، لأنّهم بدءوا ذلك بالخيانة ونكث الأيمان ونقض العهود والتعاون مع كل أعداء المؤمنين ضدَّه وضد المؤمنين. والدليل على حصر هذا الإلغاء في هؤلاء الذين بدءوا بنقض معاهداتهم واتفاقيَّاتهم الآية الرابعة من نفس السورة (إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة: ٤).
ونقض المعاهدات هذا لم يأت فجأة بحيث يعلن نقض الاتفاق وتشن الحرب بعد ساعات أو وقت قصير لتحقيق عنصر المباغتة بل منحهم الله -تبارك وتعالى- أربعة أشهر، كما في الآية الثانية (فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ) (التوبة:2) لكي يكون أبناء تلك القبائل قادرين على ترتيب أمورهم خلال هذه الفترة الكافية وهي فترة الأشهر الحرم الأربعة التي تسمح لهم في السياحة في الأرض وحماية مصالحهم؛ بل والاستعداد إن شاءوا لمواجهة النبي -صلى الله عليه وآله وسلّم- والمؤمنين.
وبعد الآية (13) من سورة التوبة آيات كلّها تتعلق بتصفية تلك المعاهدات والاتفاقيَّات ثم يأتي الأمر بقتال أولئك الذين ينتمون إلى أديان كتابيَّة ولكنّهم للأسف الشديد ظاهروا المشركين على المؤمنين وتعاونوا معهم ضد المؤمنين وتحالفوا معهم بعد توقيعهم اتفاق المدينة الشهير. من قبائل يهود التي أمدت مشركي مكة بالمال والسلاح وقالوا لهم: «أنتم أهدى من الذين آمنوا سبيلا» ضاربين بعهودهم مع رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- عرض الحائط.
فأمر الله -تبارك وتعالى- النبي عليه الصلاة والسلام أن يقاتل هؤلاء الذين اختاروا أن يقفوا بجانب الشرك والجاهليّة ضد الإيمان والمؤمنين منكرين لما جاءهم به الرسل السابقون موسى وعيسى خارجيّن على وصاياهم حسدًا من عند أنفسهم فقط؛ لأنَّ محمداُ -صلى الله عليه وآله وسلّم- كان من ذريّة إسماعيل بن إبراهيم لا من ذريّة إسحاق بن إبراهيم، فجاءت (الآية 29) من سورة براءة: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة:29).
يتضح من كل هذا أنَّ القتال لم يكن إلا لحماية «حريّة الاعتقاد» ولجعل القبائل تحترم عهودها واتفاقيّاتها، فلا تنقضها ولا تتجاوزها. ولذلك حينما جاءت آية البقرة بدأت بـ: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:216) صرحت بأنّ النبي -صلى الله عليه وآله وسلّم- والمؤمنين كانوا يكرهون القتال فأراد الله -تبارك وتعالى- أن يشعرهم بأنّهم وإن كرهوا القتال فهو خير لهم. ولما حاول المشركون العرب أن يقوموا بدعايات مضادَّة للنبيّ -صلى الله عليه وآله وسلّم- والمؤمنين، ويشعرون العرب أنَّ النبيّ -صلى الله عليه وآله وسلّم- والمؤمنين يقاتلون بالأشهر الحرم ويقاتلون في المسجد الحرام جاءت الآية:
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:217).
لترد على هؤلاء وتوضح أن المشركين العرب هم الذين صدّوا عن المسجد الحرام ومنعوا الوصول إليه، وعذّبوا المؤمنين ليعيدوهم بالقوة إلى دياناتهم الشركيّة التي خرجوا منها وبيّنت الآية أن المشركين هم الذين كانوا يقاتلون المسلمين ليردوهم عن دينهم إن استطاعوا.
ومن ذلك كلّه يتضح بأنَّ القتال ليس أصلًا؛ بل الأصل هُوَ «السلام» ولكن حينما لا يكون أمام المؤمنين سبيل لحماية حريّة الاعتقاد وحمل الآخرين على احترام العهود والمواثيق فأنّه لا بد لهم أن يفعلوا ذلك. وما عرفت البشريّة حروبًا تشنّ من أجل السلام ولتحقيقه بشكل صادق إلا في حالة «الجهاد» كما أوضح القرآن المجيد حقيقته وأحكامه.
وعلى هذا فإنَّ «الجهاد» كما جاء في القرآن المجيد مستويات عديدة؛ منه «مجاهدة الإنسان لنفسه» لتلتزم بالإيمان والقواعد الأخلاقيَّة والنظم، وهناك «جهاد الكلمة» القائم على إزالة الجهل والأميَّة بالتعليم، وهناك «الجهاد بالقرآن الكريم وكلماته وآياته» لتحقيق الهداية للعالمين، (وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) (الفرقان:52). وقد يأخذ الجهاد مستوى اقتصاديًّا بالتنمية وسدّ احتياجات الشعوب، واجتماعيًّا لمقاومة الانحرافات وتقويم مسيرة المجتمع، وقد يأخذ شكلًا ثقافيًّا فهو مشتق من «الجهد» في تحقيق «التوحيد والتزكية والعمران والعدالة والمساواة والحياة الطيبة». والله -تبارك وتعالى- أعلى وأعلم.
فالمقاصد القرآنيَّة العليا الحاكمة الثلاثة يمكن أن تقدم لنا منهجًا لمراجعة تراثنا –كلّه- والتصديق عليه؛ أي: إعادته إلى حالة الصدق، ثم الهيمنة قرآنيًّا عليه. كما فعل القرآن المجيد مع تراث النبيّين كافّة. وفي الوقت نفسه تقدم لنا منهجًا لمواجهة سائر التحدّيات والنوازل الحادثة بحيث نستوعبها ونتجاوزها إلى غيرها. ونفارق حالة الحيرة والعجز واللُّجوء إلى الأقيسة على الأقيسة السالفة، أو «فقه الضرورات» الَّذِي كثيرًا مَا تترتّب عليه أضرار نفسيّة تجعل المسلم يعيش حالات تناقض وشد وجذب، عليه اختيارات صعبة هِيَ أقرب مَا تكون إلى فرض نفسها عليه.
زينب: يبدو لي من هذا الَّذِي تفضلتم بعرضه أنّنا أمام مشروع تجديديّ هائل تنوء بأعبائه العصبة من الجامعات ومراكز البحوث!! فهل هذه «اللحظة التاريخيّة» التي وصفتم حال الأمّة فيها في كثير من دراساتكم مثل «نظم الخطاب» و«الأبعاد الغائبة» و«الأزمة الفكريّة» وغيرها، تعدّ لحظة مناسبة لطرح مشروعكم هذا؟ فقد تعلمنا منكم ومن د. منى أَبُو الفضل –يرحمها الله تعالى- أنّ المشاريع الحضاريَّة التجديديّة الكبرى ينبغي أن تصادف لحظة تاريخيّة مناسبة؛ لأنّها إذا عرضت خارج «اللحظة التاريخيَّة المناسبة» أو اللحظة التي يسمّيها أستاذنا الراحل د. عبد الوهاب المسيري بـ«اللحظة الفارقة» فقد لا يتقبلها الناس، ولا تشق طريقها نحو تحقيق هدفها في الاصطلاح والتجديد.
وهل تستطيع المؤسّسات التي شاركتم في تأسيسها وقيادة مسيرتها وتوجيهها تحقيق وإنجاز شيء من هذا المشروع الطموح مثل «المعهد العالميّ للفكر الإسلاميّ» و«جامعة قرطبة» والجامعات والمؤسّسات التي ساعدتم في تأسيسها وبناء برامجها وتقديم المشورة لها مثل «معهد إسلاميّة المعرفة» و«مديريّة التأصيل» وبعض المعاهد والأقسام الدراسيَّة المنتشرة في العالم الإسلاميّ؟!!
الجواب:
إنّ القرآن الكريم مطلق لا نسبيٌّ، وكذلك الإنسان والكون، فإنّ «الإنسانيّة مطلقة» والنسبيَّة تضاف إلى الأفراد والأجزاء لا على الحقيقة الكليَّة. والكون مطلق من حيث حقيقته الكليَّة، نسبيٌّ من حيث أجزاؤه، و«الزمن» نسبيٌّ. فهناك أزليٌّ واحد –تبارك وتعالى- لا يشاركه في أزليته أحد ومطلقات ثلاثة هِيَ مَا ذكرنا، والخلق بعد ذلك نسبيٌّ يعيش بين حاصرتي ولد وتوفي، والقرآن المجيد أحاط بالزمن وأعاد تشكيله بعد أن عبثت به أفكار جاهليَّة في حضارات سابقة كثيرة. فالقرآن المجيد قد أعاد بناءه، وطهّره من هيمنة الأفكار الجاهليَّة والمنحرفة عنه. إنّ بعض الانحرافات التي لحقت بمفهوم «الزمن» جاءت من تصورات توراتيّة تلموديَّة جعلت بدايات الزمن ونهاياته تدور حول «بني إسرائيل» وأيامهم وتاريخهم. وفي كتابنا المشترك د. منى وأنا في «إعادة بناء علوم الأمّة» فصل خاصّ في الحديث عن «الزمن؛ حقيقةً ومفهومًا» يحسن الاطلاع عليه. لكن مَا يتعلق بالإجابة عن سؤالك: إنّ القرآن المجيد قد أحاط بالزمن، وهيمن عليه ولم يحط الزمن بالقرآن الكريم؛ فالقرآن المجيد مستوعب متجاوز يتكشَّف عبر الزمان عن مكنون يستوعب أيّ زمان ويتجاوزه ليستوعب زمانًا تاليًا له بكونيّته وإطلاقه ومكنونه. فهو «أعني القرآن المجيد» يستطيع بذلك أن يجعل من أيَّة لحظة يتصل بها أو يشتبك معها لحظة تاريخيَّة ولحظة فارقة. بشرط أن يكون المشروع المقترح منبثقًا من القرآن قائمًا عليه بشكل تام ودقيق، ففاعليَّته وطاقاته تتوقف على تلك الصلة الدقيقة. ومع ذلك فإنّ اللحظة التاريخيَّة الراهنة على المستويات العربيَّة والإسلاميَّة والعالميَّة تعد من أنسب اللحظات لتقديم «مشروع تجديديّ منبثق من مرجعيَّة القرآن المجيد» على أن يكون المشروع في الوقت نفسه قادرًا على استقراء خصائص أمّتنا الذاتيّة، والإحاطة بتركيبها، وتحليل كل عنصر من عناصر ذلك التركيب خلال مسيرتها الطويلة التي بدأت بجعل القرآن المجيد والرسول الكريم -صلى الله عليه وآله وسلّم- لها «القاعدة الإنسانيّة للمشروع الحضاريّ العالميّ البديل» الَّذِي يمكن أن يصدّق على «العولمة القائمة» ويهيمن عليها. «فالحضارة المعاصرة» أفرزت العديد من الأزمات والمشكلات –ولا شك- لكنّ لها في الوقت نفسه العديد من الايجابيّات المهمّة التي لا يمكن تجاهلها، أو التقليل من أهميَّتها؛ ومن أبرز تلك الايجابيّات أن المنهج العلميّ لم يقتصر على تقديم قواعد في الصناعة والزراعة والطب والصيدلة والهندسة وما إليها؛ بل لقد أرست «قواعد مشتركة للتفكير الإنسانيّ المشترك»، فالبشريَّة في إطار هذه القواعد المشتركة تستطيع أن تعالج أزماتها المختلفة. فقد تبرز أزمة في اليابان أو الصين أو أمريكا أو العراق أو إيران، وحين يحاول صنّاع الفكر والسياسات والقرارات معالجة الأزمة فإنّهم لن يطيلوا البحث في خصوصيّات الموقع الَّذِي حدثت الأزمة فيه؛ بل سيبحثون في قواعد علميَّة ومعرفيَّة تتصف بالعموم والاشتراك لتطبيقها في معالجة الأزمة.
هذه القواعد هِيَ التي جعلت عددًا من المفكّرين الاقتصاديّين ينادون بالبحث عن حلول من خارج الحضارة الغربيَّة المعاصرة لمعالجة «الأزمة الاقتصاديّة الحاليّة»، ومنها مَا يمكن للإسلام أن يقدمه في هذا الصدد. وهذا –في نظري المتواضع- يجعل الطريق مفتوحًا أمام «عالميَّة الإسلام» التي تقوم على مقاصد قرآنيّة وقيم مشتركة تتَّصل «بالهدى والحق وأداء الأمانات إلى أهلها والعدل والمساواة وحل الطيِّبات وتحريم الخبائث والحريَّة وحقوق الإنسان وكرامته، وتسخير كل مَا في الطبيعة لصالح الأسرة البشريّة الممتدة، وحماية البيئة وجعل الأرض سكنًا آمنًا مطمئنًا للإنسان» وقد يأخذ العالم غير المسلم بحلول وأفكار إسلاميَّة؛ لأنّ قواعد التفكير الإنسانيّة المشتركة لم تشترط الإيمان لتحقيق فاعليَّة تلك القواعد، ولم تعتبر عدم الإيمان عائقًا يحول دون تحقيق تلك القواعد مَا وضعت له من أهداف وهذا قد يوجد حالة غير الحالة التي عرفناها وعرفتها أمّتنا وهي: إنّ نقطة البداية تقوم على الإيمان؛ فالإيمان اليوم يقوم على أسس منها:
أولًا: إنّ «العقل التجريبيّ المعاصر» يبحث ويرصد ويضع الفروض ويحذف ويضيف ويجرّب ثم يقبل أو يرفض أو يعدّل، فهناك تعديل في المستويات وفي نقطة البداية ثم مَا يليها.
ولحكمة بالغة ذكر الله –تبارك وتعالى- لنا قصة سيدنا وأبينا إبراهيم الَّذِي سمّانا «بالمسلمين». فهو قد قام برحلة بحث في أهم كواكب «المجموعة الشمسيّة» فلما وجدها آفلة ناقصة جزم بأن الناقص يحتاج إلى غيره فلا يصلح أن يكون إلهًا قيومًا بالسموات والأرض ومن فيهن وما فيهن. ثم أعلن توجهه للكامل المنزّه عن أيّ نقص أو أفول: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام:79) لكنّه –في الوقت نفسه- سأل الله –سبحانه وتعالى- أن يريه كيف يحي الموتى: (إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260) فالتجربة –عن أبينا إبراهيم- قادت إلى الاطمئنان؛ فهل تكون التجربة عند العالم الطبيعيّ المعاصر قائدًا إلى الإيمان؟! ربّما؛ فاللحظة التاريخيّة المعاصرة لحظة لها خصائصها المعرفيّة الكبيرة ولذلك فإن صاغة «الخطاب القرآنيّ المعاصر» ينبغي أن يكونوا على وعي دقيق بالزمن. وفهم عميق «لفلسفة الزمان والمكان» في القرآن؛ فالزمان والمكان يحتلان في القرآن المجيد موقعًا في غاية الأهميَّة، فهناك «فلسفة قرآنيَّة متميّزة» للزمان والمكان، وارتباط كل منهما بالآخر. فقد جعل الله سبحانه وتعالى مقدّمات هذا الفهم في تجربة نوح الَّذِي لبث في قومه ألف سنة إلّا خمسين عامًا، والسنة ترتبط في لسان القرآن «بالدورة الشمسيّة» والعام يرتبط في «الدورة القمريّة» ولندرك الفارق الزمنيّ بين السنة والعام يمكن أن نلاحظ مَا جاء القرآن المجيد به في قصة أهل الكهف: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا)(الكهف:25) في كل مائة سنة شمسيَّة ثلاثة أعوام قمريّة تمثل الفرق بين الاثنين السنين والأعوام.
والقرآن المجيد وإن اشتمل على فلسفة للزمان، وإشارات لمنهج الارتباط بين الزمان والمكان لكنّه لم يدخل في تلك التفاصيل الدقيقة والتحديدات التي دخلت التوراة –خاصّة فيها، مما نبَّه إلى كثير من التناقضات بينها وبين العلم، لكنّه اكتفى ببيان مجموعة من المؤشّرات المنهاجيَّة على فلسفة الزمان وكيفيَّة الربط بين الزمان والمكان، واستدارة الزمان، وكيفيّة تنقية فلسفة القرآن المجيد فيه من سائر الشوائب لترسي دعائم «الدين القيّم» وتبدأ دورتها في الحياة. والقرآن المجيد بكونيَته مستوعب متجاوز للكون وحركته، فلا تتوقف فاعليّته وتأثيره على زمان بعينه. المهم أن يدرك حملة القرآن المجيد المناهج السليمة الصحيحة لمخاطبة البشريَّة بالقرآن المجيد. وأظنّ أنّ الأزمات العالميَّة التي بدأت تجتاح عالم اليوم وتظهر الكثير من العجز والقصور في «القواعد المشتركة للتفكير الإنسانيّ» تشكل هذه الظروف –كلّها- والمضاعفات الكثيرة التي تشهدها البشريَّة دوافع مهمّة لاستجلاء معاني القرآن الكريم، والبحث فيه عن سبل الخروج من الفتن المعاصرة التي تكاد تهدد الوجود البشريّ كلّه.
أمّا عن المؤسَّسات التي ذكرت فلا شك أنّها كانت وما تزال مؤسّسات هامَّة تشتد حاجة الأمّة إليها وإلى أمثالها. وقد تحتاج الأمَّة إلى آلاف من مثلها لتتمكن من الوفاء بمتطلبات النهوض والشهود الحضاريّ. بشرط التخصّص وحسن توزيع الوظائف والأدوار بينها، وتفاعلها مع حاجات الأمَّة، والتنسيق المشترك الدائم بينها، وتبادل الخبرات والتجارب فيما بينها وعدم الانشغال عن أهداف الأمَّة الإستراتيجيّة بأيّة أهداف جانبيَّة أو ذات صبغة آنيَّة على حساب الأهداف الإستراتيجية. واقتحام العقبات الكبرى تحتاج إلى صبر رسل ومثابرة أنبياء قد تستغرق أعمال أجيال. ليس عبثًا أن يذكر لنا القرآن الكريم قصص الأنبياء، لأنّه ذكرها لنا لاستخلاص العبر والدروس، فسيدنا نوح لبث في قومه: «ألف سنة إلّا خمسين عامًا» حتى قال تعالى له: (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (هود:36) وأمره بصناعة الفلك وحمل من آمن وما تحتاجه الحياة الجديدة بعد الطوفان.
فهذه المؤسّسات مسئولة عن أن تبني نفسها بناءً منهجيًّا سليمًا وتحدّد –بدقة- أهدافها، وتحدّد وسائلها، وتعي زمانها ومكانها، وخصائص أمّتها وتقف –بإخلاص وإصرار- على الثغرة التي اختارت المرابطة عليها فلا تغادرها حتى يأذن الله -تبارك وتعالى- لها. أمّا إذا تحركت بطريقة البحث عن إنجازات ومكاسب سريعة عاجلة بقطع النظر عن علاقتها بالهدف الإستراتيجيّ من تأسيسها ومناهج عملها.
فلن يكون حالها خيرًا من حال مؤسّسات كثيرة برزت في فترات معيَّنة من تاريخ الأمَّة ثم اختفت أو تراجعت. إنّ في مقدور هذه المؤسّسات إذا اجتمعت كلمة وأهداف القائمين عليها، وانفتحت على أذكياء الأمَّة والحريصين على إنهاضها من كبوتها أن تفعل الكثير.
لكن الأهداف النهائيّة أكبر منها بكثير. وهي قادرة على تقديم النماذج والأفكار الضروريّة لمعاصريها ولمن يأتي بعدها إذا توسعت وثابرت وأصرت وصممت وانفتحت على طاقات الأمّة كلها.
كما أنّ عليها مسئوليّات كبيرة في إرساء «دعائم الحوار الفكريّ المعرفيّ» مع المدارس الفكريّة العالميَّة لتجعل المسلمين قادرين على أن يكونوا شركاء أكفاء لمدارس بناء «القواعد المشتركة للفكر الإنسانيّ». وإخراج الأمّة من حالة الانفعال إلى حالة الفعل، ومن حالة الاستهلاك لأفكار الآخرين وعلومهم ومنجزاتهم إلى حالة المشاركة الجادة لهم في فاعليّتهم وفيما ينجزون.
ثانيًا: إنَّ من خصائص هذه المرحلة أنَّ سائر الأمم أصبحت في تواصل وتداخل في كثير من الأمور، ولم يعد أيّ شعب على وجه الأرض قادرًا على أن يغلق على نفسه ويصد تيارات الأفكار والثقافات التي تدخل أجواءه وفضائه من كل أنحاء الأرض. وما لم يتحصن المسلمون بعقيدتهم ورؤيتهم الكليّة وتربيتهم القرآنيّة فلن يستطيعوا المحافظة على خصائصهم.
ثالثًا: إنَّ مشاركتهم لمدارس صناعة الفكر والثقافة والمنهج والمعرفة وتأهيل المسلمين أنفسهم لذلك يحتل مرتبة الضرورة في أيامنا هذه، فلا بد لقادة الفكر ودعاة التجديد أن يكونوا على وعيٍ بهذه الحقائق.
والله -تبارك وتعالى- أعلى وأعلم