المشروع الحضاري يبدأ بإسلاميَّة المعرفة
إذا نظرت إلى أيّة بقعة من أرجاء العالم الإسلاميّ اليوم ستجد مظاهر لحالة العجز والهوان التي يحياها المسلمون، مما يؤكد على أن الشخصية المسلمة اليوم تعيش أزمة واضحة للعيان، لأنها افتقدت الكثير من منهجيتها وصوابها، وانحسر شهودها الحضاريّ.. وعجزت عن التقويم والمراجعة، ومعرفة أسباب القصور، وتحديد مواطن الخلل والتقصير.. وتوقفت عن أداء رسالتها في الشهادة على الناس، والقيادة لهم، فأصبح موقعها خارج السياق التاريخيّ، والواقع المشهود، والمستقبل المأمول.
بهذه الكلمات قدم الكاتب الكبير الأستاذ عمر عبيد حسنة للدراسة الهامة التي أعدها المفكر الإسلامي الدكتور طه جابر العلواني –رئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن ورئيس المجلس الفقهي لأمريكا الشمالية- بعنوان “إصلاح الفكر الإسلامي بين القدرات والعقبات” والتي صدرت في الولايات المتحدة الأمريكية، وتنفرد “الخليج” بعرضها”.
أزمة فكرية:
يشير الدكتور العلواني بداية على الظروف الصعبة التي تجتازها أمتنا الإسلامية والفترة الحرجة التي تحياها جماهيرها التفاتًا لقضايا الفكر ومشكلاته، على أساس أنها من وسائل العلاج طويلة المدى، “ولكن استمرار الإحباط والفشل والإحساس بالمهانة والضياع الذي يشعر به المسلم اليوم، يجعلنا نتساءل مرارًا: هل لو أن هذه الأمة قد استقامت عقيدتها وصلح فكرها وتحررت إرادتها، وأحسن بناء الإنسان فيها.. هل كان يمكن أن يحدث لأمتنا ما حدث؟ ولولا استحكام الأزمة الفكرية وغياب الهوية الثقافية والوحدة الأخوية.. هل كانت الأمة تسقط هذا السقوط المروع في شراك خصومها وأعدائها؟”.
يؤكد المؤلف على أهمية عرض قضية إسلامية المعرفة على الأمة.. فيقول “لعل من أهم شروط تحقيق الفاعلية والتأثير في أي نشاط إنساني فهم الإنسان لطبيعة العمل فهمًا دقيقًا، بمعنى وضوح الفكرة بمنطلقاتها وأهدافها، ومدى قابليتها للتنفيذ، واستشعار المسئولية أمام الله (سبحانه وتعالى)، والحس بالتناقض والتحدي بين الواقع الذي صارت إليه الأمة، والأنموذج الغائب الذي لا بد من استرداده في عملية الشهود الحضاري المأمول.. ومن ثم وعي الإنسان على دوره في العمل وفي الحياة والبناء وعيًا كاملاً.. فإذا كان كل هذا مطلوبًا في أي عمل يراد له النجاح، فإنه يتأكد تمامًا عندما يكون العمل المطلوب عملاً مهما يتعلق بموقف أمة، وبناء حضارة، وتحديد مصائر أجيال.. بل عالم كامل.. لذا كانت القضية التي أضطلع المعهد العالمي للفكر الإسلامي بتحمل مسئوليتها والتبشير بها هي قضية إصلاح مناهج الفكر وإسلامية المعرفة وهي من القضايا التي تطرح نفسها بقوة اليوم، وتعتبر في نظر المعهد- من أهم قواعد المشروع الحضاري الإسلامي المعاصر المتكامل المقترح بديلاً عن المشروع الحضاري الغربي الذي أصاب أمتنا عنت شديد من سائر وجوه التعامل معه، بسبب مجافاته لعقيدة الأمة وتجاهله لمعادلتها النفسية والاجتماعية، وإهماله للشخصية الحضارية التاريخية لها.
إصلاح مناهج الفكر:
ويرى هذا المشروع أن المنطلق لكل إصلاح ونهوض إسلامي إنما يبدأ من إصلاح مناهج الفكر لدى المسلمين، وبناء النسق الثقافي الإسلامي (أي إصلاح عالم الفكر وتنقيته) لتحقيق الأصالة الإسلامية، وتصويب الرؤية الحضارية، وبناء العقل القادر على استلهام الأصالة، وهضم الحداثة، وتمثلها –معًا- في مشروع حضاري إسلامي معاصر متكامل متحرر من أزمة الفكر وأوهامه، وخطأ المنهج وانحرافاته.. خاصة وأن قضية إصلاح مناهج الفكر الإسلامي، وإسلامية المعرفة، لم تحظ بالاهتمام المطلوب، ولم تبلغ الأبعاد المؤثرة في حياة المسلمين، رغم أهميتها وخطورتها، وإن لم تخل الساحة باستمرار من محاولات، لكنها لم تتجاوز الجهود الفردية.
والمؤلف يدرك أن البعض يستنكر الحديث عن “إسلاميَّة المعرفة” بحجة أن المعرفة واحدة مهما كان مصدرها، وهي ملك للبشرية بمختلف مللها ونحلها.. ويرد عليهم قوله “قد تكون الإشكالية التي حالت دون الإدراك المطلوب لحقيقة المشروع كامنة في العجز عن التفريق بين العلم ومنطلقاته وهدفه وحكمته وقيمه التي أورثها الاستلاب الثقافي”.
ويضيف: “على كل فهذا الاستنكار من البعض قد بدأ يخفت ويضعف، خاصة بعد أن بدأ الغربيون أنفسهم ينادون بأهمية القيم لضبط مسيرة العلوم، ووجوب إعادة الربط والاتصال بين العلوم والقيم، ويوضحون مدى الخسارة الفادحة التي حلت بالبشرية نتيجة الفصام بين الدين والعلم.. ونتيجة طغيان رجال الكنيسة في الماضي وتجبرهم وتحجرهم فكريًا ومحاربتهم لعلم، أسقطت أوروبا الدين من حسابها، وبدأت تنظر إلى المعرفة على أنها حقائق ومسلمات مجردة، فظهرت الداروينية والماركسية والوجودية وغيرها، وصار الحديث عن الإنسان: فكره وثقافته وتربيته وسلوكه وتاريخه ينطلق من النظر إلى الإنسان على أنه نهاية خط التطور الحيواني (النزوع المادي والإشباع الغريزي) لذلك تكونت نظريات العلوم الإنسانية والاجتماعية والفنون والآداب الحديثة في ضوء هذه الأطروحات في النظر إلى الإنسان ونفسيته لأن أي تشخيص دقيق للأزمة التي تعيشها أمتنا العربية والإسلامية اليوم يقتضي استقراء التاريخ، وقراءة الحاضر، وتقويم الجهود التي قام بها علماء الأمة في مجال الإصلاح.. فإن الدكتور طه جابر العلواني يتعرض للجذور التاريخية للأزمة ومحاولات العلاج.. فيشير إلى أن تشخيصه للأزمة التي تعاني منها الأمة الإسلامية أنها أزمة فكرية.. وسائر الأزمات الأخرى ما هي إلا نتيجة لها.. أو مظهر من مظاهرها، أو انعكاس لها، ونستطيع أن نؤكد بأن ما نفادي به اليوم لا يخرج عن أن يكون حلقة من سلسلة طويلة من حلقات الإصلاح الفكري الذي شهدته هذه الأمة منذ بدأت الأزمة الفكرية تطل بقرونها البغيضة على الأمة.
وسواء اعتبرنا نقطة البداية في استحكام الأزمة الفكرية هي ملكة الإمامة العظمى وقيادة الأمة والاضطراب في فهم دورها وطبيعتها وبُعدها الديني والدنيوي وتحولها إلى مثار جدل بين العقل والنقل أدى إلى الفصام بين القيادتين السياسية والفكرية، المر الذي أدى بدوره على تابع ذلك المسلسل من الانحرافات والانقسامات، أو اعتبرنا نقطة البداية في نشوئها الخلط بين عالمي الغيب والشهادة الذي أدى على الخلط بين القدر كركن من أركان الإيمان والحرية والفعل الإنساني، وإرادة الإنسان ومسئوليته عن فعله، وما ترتب على ذلك من انحرافات فكرية، وانقسامات سياسية، سواء أكان هذا أم ذاك، فعن جهودًا فكرية تاريخية في مواجهة هذه الانحرافات.. قد دونت وسجلت وهي بحاجة اليوم إلى مراجعة وتقويم وإعادة صياغة بما يخدم الفكر الإسلامي المعاصر.
البديل الإسلامي
ويضيف د. العلواني.. أنه في هذا الاطار (إطار محاولات الإصلاح ومعالجة الأزمة الفكرية) يمكن فهم الجهود التي بذلت في جمع السنة وتدوينه ووضع سائر الضوابط لحفظها من الوضع والتلاعب والاستغلال، ومحاولات السلف تحديد الأدوار بين العقل والنقل، ووضع قواعد الفهم والتأويل والتفسير لضبط الأدوار المنهجية لكل من النص والعقل، ثم جمع قواعد أصول الفقه وتدوينها، والكتابة في تأويل ما عرف بـ(مشكل القرآن ومختلف الحديث) تأويلاً عقليًا يقضي على ما ادعى من تناقض موهوم بي النص والعقل، وجرت مناقشة الإرادة الإنسانية والفعل الإنساني، ومصدر التقويم له أهو الشرع أم النقل؟ وكذلك موضوع حرية الإنسان واختياره وإرادته.
لقد واجه الإمام الشافعي، ومعه الإمام أحمد، وعبد الرحمن بن مهدي ومن معهم مشكلة المنهج، وحاول الأشعري جمع مقالات الإسلاميين ورصدها وتحليلها، كما حاول غمام الحرمين معالجة قضية الإمامة السياسية بشكل يخرجها من مجال الأزمة على دور الحل، وتناول الغزالي مشكلة الفصام بين النظرية والتطبيق في “إحياء علوم الدين” ومعالجة التحدي الإغريقي في بيان “تهافت الفلاسفة” وتقديم البديل الإسلامي كما تعرض لكثير من وجوه أزمة العقل المسلم بتقديم حلول وبدائل، كما حاول تقديم نظرية معرفة إسلامية كاملة.
كذلك حاول ابن رشد رفع التناقض الموهوم بين الشريعة والحكمة وثنائية العقل والنقل أو الوحي والعقل وتحويل فقه الخلاف إلى مصدر حيوي للاجتهاد كما لا يمكن أن نسى دور ابن حزم في معالجة كثير من القضايا الفكرية والمنهجية، ومحاولته العودة على الينابيع الأولى والالتزام بمنهاجية خير القرون.
كما حاول شيخ الإسلام ابن تيمية وتلامذته معالجة الأزمة والمنهج في إطار المنطق والفقه والسياسة الشرعية، وقام بحركة إصلاح فكري وثقافي واسعة استطاعت أن تقدم حلولاً عملية للكثير من مشكلات الأمة.. ولما رأى ابن خلدون توقف الحضارة الإسلامية، بل تراجعها بدا حركته بتأسيس العلوم الاجتماعية من منظوره الإسلامي ليتم تشكيل المحتوى الفكري والنسق الثقافي اللذين كان العمران الإسلامي في أمس الحاجة إليهما ليستأنف دورته الحضارية على أساس علمي متين.. ولو قدر لمشروع ابن خلدون الثقافي أن يتم في حينه، لتغير مجرى التاريخ لكن جهود ابن خلدون لم يقدر لها أن تتابع في بلاد المسلمين فاستسلم العالم الإسلامي بعده لسبات طويل في الوقت الذي تلقف فكرة وتابعة وتمثله الغربيون فكان من عوامل نهضتهم التي لا تنكر.
من هنا –كما يقول المؤلف- فإن الإحساس بالأزمة لم يتوقف في تاريخ هذه الأمة الفكري الطويل، كما لم تتوقف محاولات الإسهام بتقديم الحل والمعالجة، لكن المحزن حقًا ان ميراثنا الفكري والثقافي لم يأخذ البعد المطلوب من حياتنا الفكرية، وكان الاهتمام كله ينصرف على التاريخ السياسي: تاريخ الحكام والأمراء، ولعل من أهم مصادر الأزمة: الاهتمام بالسياسة وتغييب الفكر والثقافة.
ومع ذلك قامت محاولات إصلاح عديدة.. اختلفت في تناولها وأماكن نشوئها.. ولكنها اتفقت جميعها على حاجة الأمة على مجالات الإصلاح والتجديد، مثل محاولات شاه ولي الله الدهلوي والشيخ محمد بن عبد الوهاب والإمام الشوكاني والألوسي والطباطبائي والسنوسي والمهدي ثم الأفغني ومدرسته والكواكبي وابن باديس مرورًا بالحركة الإسلامية الحديثة ودورها المعروف في مصر والسودان والمودودي وسيد قطب ومالك بن نبي وتقي الدين النبهاني وآخرين.. كل هذه الجهود جعلت الفكر الإصلاحية لدى الأمة تؤول على مشروعين أساسيين:
- المشروع الإسلامي الحركي الحديث الذي مثل رد الفعل السياسي التحرري الإسلامي وتعبئة الأمة جهاديًا لمواجهة عمليات الاستعمار والاحتلال وانحلال وحدة الأمة.. حيث اقتضت ظروف المواجهة أن يكون مشروعًا تعبويًا دفاعيًا بالدرجة الأولى.
- المشروع التغريبي اللا ديني الذي يمثل التقليد والمحاكاة للغرب ظنًا من أصحابه أن الأفكار يمكن أن تستورد وتحقق النهوض، كما تستورد الأشياء لحاجات الاستهلاك.. وقد فشل هذا المشروع لمجافاته لميراث الأمة الثقافي وعجزه عن محاكاة شخصيتها الحضارية التاريخية .. كما تعثر المشروع الإسلامي الحركي في الوصول إلى تحقيق كامل أهدافه، لانشغاله بالمواجهة والتعبئة وإعادة ثقة الأمة بالإسلام وتجديد الانتماء إليه.. الأمر الذي لم يمهله لإعطاء المسالة الفكرية المسحة المطلوبة.