Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

القرآن الكريم وقضايا التأويل

حوار بين محمد الناصري ويجيب عليه أ.د/ طه جابر العلواني

س1: لازال الخطاب القرآني، باعتباره المرجع الأعلى للمسلمين، يحتفظ بحيوية خاصة، ولا مبرر لكثرة وتنوع التفاسير بتنوع أفقها إلى صوفية، اعتزالية، شيعية… واختلاف مناهجها (المنهج الظاهري، الباطني، العقلي، النحوي…) إلّا لطبيعة هذا الخطاب في كونه خطابا خالدا يُقرأ على مدى الأجيال ومن مختلف الاتجاهات، فقد شغلت وظيفة القراءة والفهم للخطاب القرآني الطاقات الفكرية للأمة الإسلامية إلى حد لا نظير له.  وفي إطار هذه القراءة والفهم والإفهام احتل مفهوم التأويل حيزا معتبرا في المجال التداولي العربي الإسلامي، وارتبطت به المعارك الكلامية المعروفة، وجرّ المسلمين إلى كثير من الجدال والصراع، حتى إنّ ابن القيم رَد إليه ما أصاب المسلمين من فرقة وخِلاف! بل إن هناك من يعتبره من أكبر العُقد التي تقف حاجزا أمام تشكيل بناء فكري إسلامي موحد. فما هو تحديدكم لمفهوم التأويل في ارتباطاته بخطاب القرآن الكريم؟  وما طبيعة الخلاف الحاصل في مضمونه في التراث الاسلامي؟ وما هي علاقته بمصطلح التفسير؟ وما هو سر الغلبة الحاصلة لمفهوم التفسير في الفضاء التداولي داخل الثقافة العربية الإسلامية؟

ج1/ حدد القرآن الكريم التأويل أدق تحديد، وذلك في قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ (الأعراف:53)، فالتأويل في القرآن المجيد أن يبرز معنى القول في واقع الأمر فينتقل من دائرة المعرفة إلى دائرة الواقع المشاهد، فهناك مرتبة علم اليقين، ومرتبة عين اليقين، فيتضافر علم اليقين والقطعي في ثبوته ودلالاته، ليبرز اليقين إلى ساحة الواقع، ذلك ما فتح الله به علينا، والله أعلى وأجل وأعلم.

والخلاف جاء من اختراق لغوي مبكر، حيث إنَّ اللغة العربية قد اقتبس الجامعون لها أمثال الأصمعي وابن سلام ورؤبة وسواهم، اعتمدوا في جمعها على القاموس البدوي، وظنوا أن تأكيدات القرآن الكريم على أنه بلسان عربي مبين ناجمة عن اعتراف بهيمنة اللسان العربي على لسان القرآن، وليس الأمر كذلك؛ لأن كل تلك الآيات سيقت في معرض التنديد لبلادة المشركين وعدم إدراكهم لمعاني هذا القرآن، ولو عقلوا وتذكروا وتفكروا وتدبروا لتمكنوا من إدراك تحدي وتفوق لسانه على لسانهم، فمعجزته قائمة على اتصاله بلغة العرب، ولسانهم، وانفصاله في سموه وإعجازه وتحديه عنه. فالذين فهموا ذلك بهذا الشكل أدركوا خصوصية لسان القرآن وتفوقه الكامل على لسان العرب، وأنه المتصل المنفصل بذلك اللسان، والذين أخذوا الأمر على ظواهره ولم يلتفتوا إلى ما فيه جعلهم ذلك يُحكِّمون لغات ولهجات البدو في لسان القرآن ومعانيه، وقد أدى ذلك ببعضهم إلى انحرافات في غاية الخطورة، وذلك حين زعم بعضهم أن في القرآن لحنا وشذوذا وما إلى ذلك، مما يعتبر القرآن بريئا منه براءة تامة، وبعيدا عنه البعد كله، فتأمل ذلك وتتبعه فيما كتبناه في لسان القرآن الكريم عن النقاد الكبار أمثال الفخر الرازي وابن تيمية وأبي علي الفارسي والقاضي الباقلاني وأمثالهم.

علاقته بمصطلح التفسير، التفسير ببساطة شديدة يدور حول البناء اللفظي للآيات الكريمة، والتأويل يدور حول المعاني، فهما ينفصلان في هذه الناحية، فعلم يهتم باللفظ وأساليبه وطرائق التعبير وبناء الجمل، وعلم آخر يهتم بالمعاني والمغازي والعلاقة بين الحقائق الذهنية واللفظية والواقعية.

سر الغلبة الحاصلة لمفهوم التفسير في الفضاء التداولي داخل الثقافة العربية الإسلامية، ليست هناك أسرار فيما أرى وراء هذه الظاهرة سوى ما هو معروف من كثرة اهتمام الناس والباحثين والأدباء والنقاد بالمسائل اللفظية، وظنهم أن علوم البلاغة ومعارف البلاغيين قد استوفت ما يتعلق بالمعاني وكفت ووفت، فانصرفوا إلى البنى اللفظية، كما أن من سبقنا من أهل الكتب السابقة كانوا قد اهتموا بتفاسير كتبهم أكثر من الاهتمام بالمعاني وتركوا المعاني للغويين والبلاغيين، والله أعلم.

والجدل الذي قاده بعض مشاهير الأدباء أمثال طه حسين وتلامذته منذ 1927 حتى يومنا هذا هو جدل مورد إلى الساحة العربية الإسلامية من جدل خارجي دار في المدارس اللاهوتية الغربية، وما يزال يدور منذ قرون.   

س2: أكّد الأولون أنه لابد لمن يرغب في قراءة القرآن وتفسيره أن تتوفر فيه مجموعة من الشروط بعضها يخص العلم وبعضها يخص العمل، ففي “الإتقان في علوم القرآن”، أفرد السيوطي (ت911) بابا خاصا لمعرفة شروط المفسر وهي عنده خمسة عشر علما: “اللغة، والنحو، والتصريف والاشتقاق والمعاني والبيان والبديع والقراءات وأصول الدين وأصول الفقه وأسباب النزول والقصص والناسخ والمنسوخ والفقه والأحاديث وعلم الموهبة”. وقد تطول القائمة عند البعض الآخر. في مقابل هذا الرأي الذي لا يسمح بالتأويل إلا باستجماع شروطه ويعترف بضرورة وجود قواعد تنظم فعل التأويل، نجد رأيا آخر يرفض البتة قوننة التأويل بحجة أن “النص مقدس والتأويل حر”. أمام هذا التضارب في الآراء بخصوص قضية ضوابط وشروط التأويل، ما هو – في اعتقادكم – السبيل الأقوم لاستخراج المكنون القرآني، وتحقيق هدايته للناس عبر تنزيل قيمه إلى الواقع  وتفعيلها فيه؟

ج 2/ أولًا: إنَّ القرآن المجيد وصف من منزله (جل شأنه) بأنَّه ميسر للذكر، ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (القمر:17)، وأنه مبين: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا﴾ (النساء:174) ﴿.. قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ﴾ (المائدة:15)، وآياته بينات: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ ..﴾ (يونس:15)  ومبينات: ﴿رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ ..﴾ (الطلاق:11) وأنه نزل ليبين للناس الذي يختلفون فيه، وهدى ورحمة. وقال (جل شأنه): ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا﴾ (مريم:97). وأكد الله (تبارك وتعالى) تيسيره للقرآن الكريم؛ ولذلك فقد اختلف العلماء قديما وحديثا فيما إذا كان القرآن يحتاج التفسير أو لا يحتاجه، فهو المفسر لغيره، والمبين لسواه، لكن اختلافات المسلمين وظهور الفرق والطوائف، ومحاولة الكثيرين من رجالات الفرق الانتصار لأنفسهم وفرقهم على غيرها جعل الجميع يضعون شروطا يتشددون فيها في الكثير الأغلب ويتساهلون أحيانا ليحدوا من قدرة مخالفيهم على الرجوع إلى القرآن المجيد، والاستنصار به على الطوائف الأخرى، فظلوا يضعون في شروط المفسر والتفسير ويزيدون فيها، وينقصون منها تبعا لذلك.

 وأوردت أحاديث وآثار وأخبار في التحذير من تدبر القرآن والتفكير به، حتى كادوا يحرمون أو يمنعون الرجوع إليه وتدبره وتلاوته إلا على أنفسهم وعلماء طوائفهم. وتجاهلوا الشروط التي وضعها القرآن نفسه لتيسير تدبره، وفهمه، ومنها: تطوير وتزكية قوى الوعي لدى القارئ، بحيث لا يكون في آذانه وقر، ولا على قلبه غشاوة، ولا على سمعه وبصره من أغطية الذنوب والمعاصي ما يحول بينه وبين فهم القرآن وتدبر آياته، فأهملوا ما أمروا به، وانشغلوا فيما ابتكروه وابتدعوه من شروط، وذلك قد حال دون العناية بتدبر القرآن المجيد حق التدبر ومحاولة الوصول إلى معانيه، والغوص وراء لآليه.

س3: في إطار الحديث عن ضوابط التأويل، ألا ترون – أستاذي الفاضل – أنه لا ينبغي اقتصار الحديث فيها على شروط المفسر فحسب، بل يجب أن يوجد إطار عام لممارسة التأويل، لأن الاقتصار على المفسر ووضع شروط له لا يضمن بالضرورة انضباط التأويل، إذا لم يلزم بمنهجية أصيلة تقوم على أصول راسخة وقواعد ثابتة، فينضبط بها التفسير من دون وقوع أخطاء تفسيرية. السؤال يكتسب شرعيته بالنظر إلى أن هناك العديد من المفسرين الأجلاء الذين توافرت فيهم شروط المفسر، لكن نظرا لافتقادهم منهجية في التفسير جانبهم الصواب وكانت لهم بعض الهفوات، “وهفوات الكبار على أقدارهم”.

ج3/ ليس هناك أحد لا في القديم ولا في الحديث اقتحم ساحة التفسير أو التأويل دون وجود أية مؤهلات لديه، أو دوافع، بقطع النظر عن اختلاف الآخرين معه أو اتفاقهم وإياه، فالتفسير والتأويل مثلهما مثل أي عمل فكري أو معرفي يتوقف على مؤهلات وطاقات ومقدمات تسمح له بممارسة محاولات التأويل والتفسير، والأمة لها مصاف كثيرة وغرابيل أكثر تستطيع بها أن تميز بين المقبول والمردود، وما يستحق أن يسلك في عداد تفسير أو تأويل وما لا يستحق أن يدرج تحت أي منهما، لكن العقلية الذرائعية خلقت في الناس حذرا لبعضه ما يبرره وما لا يبرره، فجعلتنا دائما قبل أن نفعل شيئا نهرع إلى الشروط والضوابط لنوقف أي اتجاه يمكن أن يسمح أو يؤدي إلى ظهور أفكار تخالف آراءنا أو أفكارنا.

إن الأمة بفضل الله ذكية واعية، حتى في عصور الظلام، فحين يفسر مخبول من غلاة الروافض قول الله (جل شأنه): ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً ..﴾ (البقرة:67)، بأن المراد أم المؤمنين عائشة، فالأمة كلها من أصغر جاهل وعامي فيها إلى أكبر عالم تستهجن هذا التفسير وترفضه ولا تقبله بحال من الأحوال. وحين يقول المفسر في قوله (تعالى): ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا .. (البقرة:143) أنه أراد وجعلناكم أئمة وسطا، لتكونوا شهداء على الناس، فإنَّ الأمة ترفض مثل هذا التفسير، وتلقي به خارجا بعيدا عن ساحة التداول المعرفي، دون حاجة إلى أن نقول إن هذا المفسر لم يكن مؤهلا ولا مستوفيا لشروط التفسير، أو ضوابطه.

إن كثرة الضوابط والشروط والذرائع وسد الذرائع أدت بنا في مراحل كثيرة إلى هجر القرآن الكريم والامتناع عن تدبره، والاتكال على المتدبرين بالوكالة من مفسرين ومؤولين ومن إليهم. وقد آن الأوان أن نخلي بين الناس وبين كتاب الله ربهم المبين البين، ذي الآيات المبينات البينات، ليتلوه حق تلاوته، ويتدبروه حق التدبر، فسيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين أخبره عدي بن حاتم الطائي أنه حين قرأ آية الصيام: ﴿.. حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ..(البقرة:187) قد اشترى حبلين أبيض وأسود ووضعهما تحت وسادته وصار ينظر إليهما بين الحين والآخر منتظرا أن يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود؛ لكي يمسك عن الطعام والشراب والشهوة، ويبدأ الصيام. لم يقل له أكثر من: إنك لعريض الوسادة، ولم يقل له: ما دمت في هذا لمستوى ولم تستوف شرائط المفسرين فلما تسمح لنفسك أن تقتحم ساحة لست من أهلها، ولم يمنعه ولم يفعل ذلك مع عمار في قضية التيمم ولا سواهم؛ لأن من المعلوم أن الفهم الفردي الخاص سيقف عند صاحبه لا يتجاوزه، ولكن الفهم المنسجم مع كتاب الله وفقه رسول الله في كتابه هو الفهم الباقي، الذي يستفيد الناس به ويبقى على الزمن، ويتأثر الناس به.    

س4: المطلق والنسبي مفردتان شائعتان في العلوم والفلسفة، ويعرف الدارسون معانيهما غالبا، فإذا كانت القضية بلا حدود ولا تخوم وحكمها سار في كل الأزمنة والأمكنة فهي قضية مطلقة، وإذا كانت القضية محطة اختلاف وتتغير بتغير الزمان والمكان والحال فهي نسبية. إذا أردنا ان نُخضع القرآن (النص المفسَّر) والتفسير (النص المفسِّر) إلى هذين التعريفين استنتجنا بلا عناء أن القرآن مطلق والتفسير نسبي، وذلك لأن القرآن لسائر العصور وللعالمين كافة ولجميع الأزمنة ومختلف الأمكنة، فحقيقة القرآن مطلقة وخطابه واحد لا اختلاف في ألفاظه. والتفسير عمل بشري والإنسان نسبي محصور في حياته بين طرفي “ولد في” وتوفي في” وما دام أنه بشري فالاختلاف سمته، فالتأويل يختلف من أمة إلى أمة ومن جيل إلى جيل ومن فرد إلى فرد  داخل الأمة نفسها، وهو اختلاف مشروع إذ يعد دليلا على نسبية التفسير، ومن ثم كثرة المفسرين وتنوع كتب التفسير فهي ذات مشارب مختلفة منها ما يشبع القول في مسائل الأحكام والقضايا الفقهية، ومنها ما ينشغل بالدقائق الكلامية ومنها ما يفيض القول في شؤون البلاغة والبيان والبديع وقضايا النحو واللغة، ومنها الصوفي المتبحر في فهم الإشارات ومنها التفاسير العقلية والتفاسير المذهبية. أمام هذه الحقيقة، هل ينظر المسلمون إلى القرآن باعتباره مطلقا وإلى تفاسير أسلافهم باعتبارها نسبية؟ بتعبير آخر ما الذي حدث طيلة القرون السابقة في علاقة المسلمين بقرآنهم وعلاقتهم بتفاسير أسلافهم؟ وما تأثير هذه العلاقة على فهم المسلم للقرآن؟

ج4/ القرآن خطاب مطلق ولا شك، وكل تفاسيره تندرج تحت النسبي المتغير في الزمان والمكان، وإن كتب التفسير قد وقفت بين المسلمين وبين تدبر القرآن وكد أذهانهم في الوصول إلى معانيه؛ لأن شيوع اتجاهات التقليد منذ القرون الأولى جعل الناس يبحثون عن الراحة، وتجنب بذل الجهود اللازمة بتدبر القرآن المجيد، والغوص وراء معانيه، والاعتماد على أنه بين ذو آيات مبينات وميسر للذكر من كل من يقبل عليه، هذه المسلمة التي صنعها القرآن لنفسه تجاوزها الناس، وأوجدوا لأنفسهم مسلمة أخرى بديلة وهي مسلمة العالم العلامة، والحبر الفهامة، والجهبذ الذي لم يرى مثل نفسه، ولم يرى الكون له نظيرا، لينوب هذا العلامة الفهامة عن الأمة بالتفيسير والفهم والفقه والتأويل، فصار بذلك ما يقوله المفسر حاجزا وحائلا وعائقا يعوقهم عن تدبر القرآن والعناية المباشرة به، والاستنارة بأنواره.

إن من المعلوم بالضرورة أن للقرآن أنوارا، وتأثيرات لا يمنحها لأحد بحيث ينوب عن الآخرين بتدبره ومعرفته والعناية به، وحين حرم العامة من الاتصال بأنوار القرآن والاستضاءة بها زاد هؤلاء العامة جهلا، وقصورا، واستعدادا للتبعية، وللتعايش مع عقلية العوام وطبيعة القطيع، في حين أن الجيل الأول الذي رزقه الله (جل شأنه) الاستنارة المباشرة بأنوار القرآن قد بنى عقليته ونفسيته بناء آخر، كان له أثره البالغ في بناء الشخصية الإسلامية لدى السلف، فكانت شخصية قوية متوازنة، قادرة على مواجهة سائر التحديات، يستطيع أن يدرك ذلك كل ناظر في سيرة أولئك الذين قال الله فيهم: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ (الفتح:29)، ونحن في أيامنا هذه أحوج ما نكون إلى أن نوصل الناس بكتاب الله، ونحضهم على تدبر آياته، وعدم وضع أية حواجز بينهم وبينه، والله أعلم. 

 

س5: يمكن القول إن الفكر الإسلامي الحديث شهد انتقالا من مستوى  التفسير النصي إلى مستوى تحليل الخطاب، لأدل على ذلك انتشار ما يعرف بالتفسير الموضوعي، كما شهد الفكر الإسلامي الحديث انتشار قراءات جديدة للقرآن الكريم معتمدة على مناهج حديثة تتغيا فهما جديدا للخطاب القرآني. ما هي الإضافات الحقيقية التي قدمتها القراءات المعاصرة للقرآن سواء من حيث المقاربات المنهجية أو من حيث الكشوفات المعرفية؟

ج5/ القراءات المعاصرة لا أستطيع أن أجد فيها فيما اطلعت عليه قراءات أصيلة خاصة، فهي قراءات اعتمدت تقليد أهل الكتاب الذين درسوا كتبهم السماوية بطرقهم، مخضعين قراءاتهم ودراساتهم إلى تلك الأساليب، فجاء كثير من أصحاب القراءات المعاصرة ليقلدوا بعض اللاهوتيين الذين وظفوا الهرمونيطقيا وما إليها في إعادة قراءة اللاهوت المسيحي واللاهوت اليهودي، فحاول بعض المطلعين على تلك القراءات تقليدهم وإخضاع الخطاب القرآني لمناهج تلك القراءات اللاهوتية، فضعيوا المشيتين، مشية المفسر التقليدي التراثي، ومشية الناقد اللاهوتي المعاصر؛ لذلك فإنني أستطيع أن أقول بطمأنينة تامة إن ما اطلعت عليه من تلك القراءات التي لا أريد أن أسمي أصحابها لم يزدني شيئا منها إلا قناعة بأن عقلية العوام وطبيعة القطيع والتقليد والتبعية ما تزال في بيئاتنا الثقافية والعلمية ذات كلمة عليا.

أما ما أشرتم إليه من التفسير الموضوعي فهو قديم حديث، فالفقهاء هم الذين ابتكروا عملية التفسير الموضوعي، وجمعوا آيات الأحكام، ووزعوها مقسمة على شئون وشجون الحياة، فذكروا عددا معينا منها، باعتباره آيات تتعلق بأحكام الأسرة، وعددا آخر في قضايا العبادات، ونحوه في قضايا السير والجهاد، وهكذا، والذين تحدثوا في التفسير الموضوعي ما زادوا كثيرا عن ذلك إلا بأن وظفوا بعض رؤوس الموضوعات التي استفادوها من معارف المعلومات ونظم المكتبات وما إليها، ليتوسعوا في الموضوعات القرآنية التي ذكروا أن القرآن تناولها في معالجاته، والله أعلم.

س6: يجمع أصحاب القراءات الجديدة أو ما يعرف بالقراءة الحداثية للنص القرآني على أن ما أصاب الكتب المقدسة من تحريف مصيب للقرآن، أي الحكم بتاريخية القرآن الكريم. ونزع القداسة عن النص القرآني ليصبح نصا كباقي النصوص الأدبية من نثر وشعر، أي أنسنة النص القرآني. ما هي الخلفيات الفكرية والإيديولوجية لهذه القراءات الجديدة؟

ج6/ من المؤسف أن الخلفيات التي استند إليها هؤلاء لها جذور تراثية راسخة، تكمن في قضايا الناسخ والمنسوخ خاصة، ثم في المحكم والمتشابه وما إلى ذلك من أمور مر عليها المفسرون مرورا سريعا، ولم يولوها من العناية ما تستحق، لكي يفندوها ويخرجوها من ميادين التداول المعرفي، وفي مقدمة ذلك نجد النسخ بأنواع الثلاثة: نسخ الحكم والتلاوة، ونسخ الحكم وبقاء التلاوة، ونسخ التلاوة وبقاء الحكم. وجميع الأمثلة التي ذكرها الأصوليون وأصحاب علوم القرآن في كتبهم، وكذلك قضايا الإحكام والتشابه، والمجمل والمبين، والحقيقة والمجاز، كل هذه الأمور شكلت منابع ثرية لأصحاب هذه القراءات المعاصرة جعلهم قادرين على أن يقولوا: إن في القرآن نسخا وفيه تشابه،  وفيه لحن وشذوذ، وحذف وقطعي وظني، وما إلى ذلك.

 وقد حاولنا في دراساتنا أن ننبه إلى هذه الكوارث التي سمحت لهؤلاء أن يرموا القرآن بمثل هذه الأكاذيب والافتراءات التي سوغتها روايات باطلة، بقيت كتبنا تتداولها حتى أيامنا هذه، وقد آن الأوان لنتحرر منها ونحرر القرآن المجيد من إيسارها، ولعل طلبة العلم الجادين يوجهون بعض رسائلهم ودراساتهم نحو هذه الأمور ليقتلعوها ويغلقوا هذه النوافذ المعيبة التي فتحها متقدمون بحسن نية أو سوء نية، فالمهم أن ننزه القرآن عن المطاعن، ونباعد بين هؤلاء وبين النيل منه بتلك الوسائل الرخيصة.

وهناك كتاب لأحد متأخري الشيعة مات في القرن الثالث عشر الهجري سماه (فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب أو فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب الأرباب) جمع فيه كل تلك الأخبار والآثار العفنة، التي استدل بها المستدلون على جواز ووقوع أنواع النسخ الثلاثة، التي ذكرناها، والله أعلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *