Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

الحرية وأبعادها من منظور قرآني

حوار بين محمد الناصري ويجيب عليه أ.د/ طه جابر العلواني

س1: لاشك أن قضية الحرية هي واحدة من أكثر المفاهيم الفلسفية أهمية في التطور العام للتاريخ البشري، إذ لا يكاد يوازيها في الأهمية والخطورة مفهوم آخر. ولخطورة المفهوم وأهميته فقد صار البحث فيه معقدا لحدود قصوى، وذلك راجع بالأساس لاختلاف أنظار الفلاسفة عبر التاريخ الإنساني الطويل حول حده وتعريفه وتعيين مستوياته ومجالاته وضوابطه وصوره المختلفة. وعليه، أستاذي الفاضل، يهمنا تحديدكم لمفهوم  الحرية من منطلق قرآني.

ج1: إنَّ تحديد مفهوم الحرية في مجالنا التداولي العربي الإسلامي، يختلف عنه في المجال التداولي الآخر، عنينا الغربي؛ فبينما يسعى هذا الأخير لمفصلة مفهوم الحرية في ضوء قوانين الطبيعة وإكراهاتها، وقوانين التاريخ والبحث عن مساره والتساؤل عن الحتمية والتقدم والهادفية، والعلاقة بين الفرد والمجتمع والبحث في علاقات السُلطة، ينظر المُسلم لمفهوم الحرية الإنسانية وهو يأخذ في اعتباره – إضافة لهذه المعاني – الفعالية الإلهية في الكون، فحتّى الخلاف الشهير بين المعتزلة والأشاعرة في قضية خلق الأفعال لم يُلغِ فيه أي من الطرفين الفعالية الإلهية في الكون، كما أكدت جميع الفرق الكلامية على أهمية هذه النقطة. قصدنا بذلك أن تخريج مسألة الحرية إسلاميا ينبغي أن يؤطر ضمن عناية الله بالكون، وهذا فرق جوهري يتوضح في آيات القرآن التي تتحدث عن الاستخلاف والدعاء والأسماء الحُسنى. أيضا كما نؤكد على مركزية هذه النقطة نؤكد أنها قد تعرضت لتطرفات تأويلية من قِبل العديد من الفِرَق، وقد كان نقاشنا لمسألة الحاكمية، في أحد مؤلفاتنا، من أجل تبيين الأمر على أحسن وجه ظهر لنا. من ثم يُعالج مفهوم الحرية في ضوء العلاقة الجدلية بين الفعالية الإلهية في الكون وإكراهات القوانين الطبيعية و”القوانين التاريخية” التي أكد عليها القصص القرآني وعرفتها البشرية من خلال تجربتها الطويلة؛ فحين نقول: “إنَّ الله قد استخلف الإنسان في الكون”، فهذا يعني وجود علاقة جدلية تفاعلية، وهو المستوى الجدلي المركزي في التعاطي مع هذه الإشكالية.

قال تعالى: ﴿ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (النحل:75-76) في هاتين الآيتين يبين لنا الله (جل شأنه) كيف يحرر الإنسان بتوحيده والإيمان به اقتصاديًا، بحيث يتصرف في المال كسبًا وإنفاقًا وادخارًا وامتلاكًا وغير ذلك إذا كان عبدًا لله، وكيف يكون كسبه لنفسه لا لإلهه وربه، كما يبين لنا كيف تحرر العبودية لله الإنسان من كل ما يؤثر على حريته في التعبير، وليس كذلك يفعل المستبدون الذين إذا استسلم الإنسان لهم وأعطاهم زمام نفسه يتحول إلى أبكم تستأصل منه حرية التعبير تمامًا، فلا يقدر على شيء، وكيف يتحول إلى كَلٍ على مولاه، وكيف يفقد إنسانيته، ويتحول إلى إنسان يمشي مكبًا على وجهه أينما يوجهه صاحبه لا يأتي بخير، وكيف يمنح الله (جل شأنه) عباده حريات التعبير فيأمر بالعدل، والقسط، ويعلي من شأن القيم، ويتمسك بها، ويستخدم سائر قوى وعيه من سمع وبصر وفؤاد، دون أية قيود، وتتضافر مئات الآيات في كتاب الله (جل شأنه) لتكريس مفهوم الحرية، وحمايته، بما في ذلك حرية الاختيار بين الإيمان والكفر، وبين الاستقامة والانحراف، وبين الطاعة والمعصية، وكيف يعلن (جل شأنه) أن: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ..﴾ (البقرة:256)، ويكفي أن يبين للإنسان الرشد، ويوضح له الغي، ويؤمر بسلوك سبيل الرشد، وتنكب طريق الغي.

 ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجه الله (جل شأنه) إليه في آيات عديدة أن يضع خطًا فاصلًا بين حرصه على إيمان الناس وقبولهم لدعوته، وبين حريتهم، فيقول له (جل شأنه): ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة:256)، ﴿.. أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس:99)، ﴿.. أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ (هود:28)، ﴿لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ (الغاشية:22)، ﴿.. وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ (ق:45)؛ ولذلك حين تناول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قضية الحرية تناولها بحذر شديد، فضرب لها مثلا هو الوارد في قوله: “مثلُ القائمِ على حدودِ اللَّهِ والواقعِ فيها كمثلِ قومٍ استَهموا على سفينةٍ فأصابَ بعضُهم أعلاَها وبعضُهم أسفلَها فَكانَ الَّذينَ في أسفلِها إذا استقوا منَ الماءِ مرُّوا على من فوقَهم فقالوا لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ من فوقنا فإن يترُكوهم وما أرادوا هلَكوا جميعًا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا”[1].

 وحين انحرف الفكر الإسلامي في بعض المراحل بترويج من القائمين على السلطة لإنماء وتعزيز اتجاهات الجبر؛ رد القرآن المجيد عليهم بكلمته الخالدة: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (الأنعام:148-149)، فأوضحت أن الذين يحتجون بالجبر والذين يفسرون القدر به مشركون أو مقلدون للمشركين أمَّا المؤمنون فإنَّهم يؤمنون بأنَّ الله (جل شأنه) قد استودع أمانة الحرية لدى الناس، وخلقهم أحرارًا؛ ليستطيعوا الاختيار في حرية تامَّة بين الوفاء بالعهد الإلهي، أو عدم الوفاء به، وبين القيام بمهام الاستخلاف أو عدم القيام بها، وبين حفظ الأمانة أو التفريط بها، وبين اختيار الحسن والأحسن في عملية الابتلاء ليجاز الإنسان بعد ذلك الجزاء الحسن في الدنيا والآخرة، وتعبير سيدنا عمر بن الخطاب وهو يعنف عمر بن العاص على إهانة ابنه لقبطي من عامة أقباط مصر: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار” كان تعبيرًا دقيقًا عن اتجاهات الحريَّة، وتدعيمها بالكتاب الكريم، وفي هدي وسلوك وتعليم وتزكية النبي العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان على المسلمين أن يدركوا أنَّ الحرية مثل المعرفة الواجب المقدم الذي يسبق سائر الواجبات ويؤسس للقيام بها (free request) لكل شأن من شئون الدين، فهي قيمة عليا ومقصد أساس وصفة لا غنى عنها بحال من الأحوال، ولا يستطيع من لا يؤمن بالحرية ولا يبنى ويؤسس عليها أن يؤسس للتوحيد ويبني الإيمان أو يحكم الشريعة.

 وحين يقوم الباحثون المسلمون، المدركون لطبيعة رسالة الإسلام بمراجعات جادة لتراثنا الفقهي والأصولي والتفسيري فسيجدون كثيرًا من الأمور تنافي هذه الرؤية وهذا الموقف وتتعارض معه، وعلينا أن ننزع من تراثنا ذلك كله ما يلقي بأي غبش على أصالة مفهوم الحرية وإعلاء شأنها في إطاره القرآني النبوي.

س2: انطلاقا من تحديدكم هذا، ما هي برأيك نقاط الالتقاء والاختلاف لمفهوم الحرية من وجهة نظر القرآن مع مفهومها من وجهة نظر المرجعيات الوضعية الأخرى؟

ج2: كما ذكرتُ آنفًا لا يأخذ المُنظّر الغربي في اعتباره معالجة مسألة الحرية في ضوء العناية الإلهية ومفاهيم الاستخلاف، وهذا ما أدّى بكثير من الفلسفات الغربية إلى القول بهادفية الحياة من خلال نظرة حلولية، حيث يحل الإله في التاريخ، فكما أنَّ التاريخ في حالة تشكل دائم فالإله أيضا في حالة تشكل دائم وهذا التشكل نتيجته هي التقدم، وهو التصور الذي عبّر عنه الفيلسوف الألماني فريدريش هيغل. وهو التصور نفسه الذي تعرض لهزة عنيفة بعد الحرب العالمية حيث ظهرت المدارس الفلسفية العدمية والتيارات الأدبية العبثية التي رفضت فكرة هادفية الحياة واتجاهها للرقي والتقدم، وقد كان الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه قد وجّه النقد لأفكار هيغل قبل ذلك. ولو بحثنا في اتجاهات الفقهاء والأصوليين والمفسرين من مختلف الطوائف الإسلامية لوجدنا مقولات كثيرة في تراثنا تماثل تلك المقولات الفجة التي برزت في بعض المدارس الغربية حول ذلك المفهوم.

س3: من أهم الحريات التي يحتدم النقاش حولها في زماننا المعاصر، حرية الاعتقاد، والتي تعني: “حرية الاختيار في أن يتبنى الإنسان من المفاهيم والأفكار ما ينتهي إليه بالتفكير، فتصبح معتقدات له، يؤمن بها على أنها هي الحق، ويكيف حياته وفقها دون أن يتعرض بسبب ذلك للاضطهاد أو التمييز أو التحقير ودون أن يكره بأي طريقة من طرف الإكراه على ترك معتقداته أو تبني معتقدات أخرى مخالفة لها”. بالإضافة إلى هذا العنصر الأساسي في حرية الاعتقاد فإن العنصر الثاني من عناصرها هو الإعلان عن ذلك المعتقد والتعبير بيانا لحقيقته وشرحا لمفهومه واستدلالا عليه ومنافحة عنه. ومن عناصرها أيضا حرية الممارسة السلوكية من قيام بالشعائر التعبدية، مثلا، وإقامة للاحتفال بالمناسبات والأعياد الدينية وما إلى ذلك من مظاهر التطبيق السلوكي. ولعل من أهم عناصر حرية المعتقد الحرية في الدعوة إليه والسعي في نشره بين الناس  ليصبح معتقدا لهم مع ما يقتضيه ذلك من حرية إعلامية بوسائلها المختلفة في البلاغ والنشر، ومن حرية في تجمع الناس وتجميعهم من أجل تبليغ المعتقد إليهم وشرحه لهم… إنّ هذه العناصر المكوّنة لحرية الاعتقاد إذا ما اجتمعت اكتملت بها تلك الحرية، وأيما خلل في واحد منها يفضي إلى نقصان فيها حتى ينتهي أمرها إلى الزوال. بناء عليه ما موقف القرآن من هذا الفهم؟ وما هي الضمانات التي أحاطها الإسلام بها لضمان سيرورتها الفعلية في المجتمع والحيلولة دون إهدارها واقعا بأي سبب من الأسباب وأي تأويل من التأويلات؟

ج3: أكد القرآن مسؤوليَّة الإنسان تجاه أفعاله، وجاء معنى التكليف من اعتقاد مسبق في المسؤوليَّة، وهذا مستوى جدلي آخر في فهم مُشكِل الحريَّة، من المنظور الإسلامي، فهي تشتبك مع المسؤوليَّة وكلاهما يدور عليه التكليف. وفي السياق الغربي، كما تفضلتم، يدور النقاش – في المساحة السائدة منه – على فكرة الحقوق الأساسيَّة، حرية الضمير والحق في التعبير..، المكتسبة من فكرة “القانون الطبيعي”. وفي النقاش الفلسفي يمثّل كانط، في كتابه “نقد العقل العملي”، بداية لأغلب النقاشات المعاصرة في فلسفة الأخلاق والتشريع.

ووفقًا للكليَّات الخمس، التي استنبطناها من علاقتنا مع القرآن الكريم، والتي هي: التوحيد والتزكية والعِمران والدعوة والأمة، فإنّ مفهوم الحرية ينبغي أن يُخضع لهذه الكليات ويتخلّق بها؛ فمثلا، للإنسان الحرية في ابتكار الآلات التي تسمح له بتزويد الكشوفات العلمية لكن عليه أن يدرك أنه مُستخلف ومُعمِّر وليس مُسيطرًا أو إلهًا أو مركزًا للكون، وأنَّ علاقته بالأرض علاقة تقوم على الإعمار والتزكية لا الإخضاع والهتك.

س4: إذا كان الأمر كذلك، – وهو مما لا شك فيه –  فكيف يمكن فهم دواعي التنافي والتضاد بين سمو المرجعية القرآنية المعصومة لتلك الضمانات والقواعد. وتدني الواقع المشخص في التاريخ السياسي للإسلام قديما وحاضرا، والذي يعكس موجات متكررة وحالات سلبية شائنة من الارتداد المزري عن تلك الضوابط والقواعد بمرجعيتها القرآنية، ونكوصا عنها، وترديا في ظلمات القهر والهيمنة والقسر والإكراه والعبث بكرامة الإنسان وهدر ستار حرماته حد الاستعباد؟ بتعبير آخر، كيف يمكن تجاوز حالة التنافر البغيض والتضاد المنكر بين  المُثُل العليا القرآنية في مجال الحريات، وبين الواقع المضاد حد المنافاة لتلك المثل السامية؟

ج4/ حصل فصام نكد بعد الفتنة الكبرى بين السلطة السياسيَّة وبين حملة الدعوة والرسالة أدت إلى صراع بين أهل السيف وأهل القلم أو بين طرفي أولي الأمر كما هو معروف وما يزال هذا الصراع قائمًا حتى يومنا هذا، والنتائج التي نجمت عن ذلك الانحراف المبكر في الواقع التاريخي كانت انحرافات خطيرة جدًا، أثرت في اختفاء مفاهيم الخلافة على منهاج النبوة لصالح سلطة تقوم على مدى التزام الخليفة أو صاحب السلطة بالتقوى، واختفاء مفهوم الدعوة لصالح الفتح والغزو، واختفاء مفهوم الأمة لصالح العائلة والطائفة والفرقة، أمويون عباسيون علويون طالبيون سلاجقة بوهيون عثمانيون إلى بقية العوائل السائدة الآن، واختفى مفهوم التزكية لصالح مفهوم الولاء لهذه العائلة أو تلك، وخدش مفهوم التوحيد حتى حق علينا قول ربنا: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾ (يوسف:106)، ليحل محله تعظيم المستبد، والخضوع له، وقديمًا قالوا:

السيف أصدق إنباء من الكتب *** في حده الحد بين الجد واللعب.

فلا يمكن أن يعتبر هذا الواقع التاريخي أو المعاصر واقعًا يمثل ما جاء في القرآن من مقاصد، أو قيم عليا بأي حال من الأحوال، على أنَّ منهج النبي في الدعوة منهج ما يزال معروفًا في سيرته التي اشتمل القرآن عليها، وهديه خلال اثنين وعشرين عامًا وخمسة أشهر واثنين وعشرين يومًا، عاشها النبي الرسول البشر البشير النذير، يدعو إلى الله على بصيرة هو ومن اتبعه، ولعل الإمام مالك حين قال: “لا يصلح آخر هذه الأمَّة إلا بما صلح به أولها” كان يريد هذا الذي ذكرنا، والله أعلم.   

س5: في إطار سؤال سابق والذي أكدتم فيه على أن الإسلام قد أعلى من شأن حريية الاعتقاد وأحاطها بضوابط تضمن سيرورتها الفعلية في المجتمع والحيلولة دون إهدارها. يصادمنا موقف الغرب اتجاه الإسلام في ارتباط بهذه القضية، فالغرب يعتبر الإسلام معتديا على أعلى قيمه، وهي قيمة الحرية انطلاقا من إقرار فقهائه لحد الردة، القاضي بإجبار المرتد بالقوة على العودة إلى الإسلام أو قتله إذا أصر على عدم الرجوع إليه، حماية للدين من أية محاولة للاستهانة به. فهل هناك تعارض بين الاعتراف بحرية التدين وأنه لا إكراه في الدين، وبين الاعتراف بشرعية حد الردة؟

ج/ إنَّ القرآن المجيد حصر حق التشريع بالله (جل شأنه): ﴿.. إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ..﴾ (الأنعام:57)، ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ﴾ (آل عمران:23)، وهناك مائتى آية واثنتى عشرة آية أخرى في القرآن المجيد تحمي حرية الكفر كما تعزز حرية الإيمان، وتسوي بينهما، ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ..﴾ (الكهف:29)، والردة لو اقتصرت على تغيير إنسان فرد لمعتقده دون أن يتبع ذلك بجرائم ضد الجماعة، أو تصاحبها خيانة عظمى، أو محاربة لدين الجماعة؛ فلا إكراه في الدين، ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة:256)، وليس لنا أن نلزمه بالإسلام، ولا أن نحمله عليه، وربنا (جل شأنه) قد ذكر ذلك بصراحة ووضوح، وتضافرت الآيات على ذلك، وهناك خلط قديم حديث حصل بين الردة بوصفها جريمة مركبة تصاحبها الخيانة العظمى ومفارقة الجماعة والانضمام إلى أعدائهم، وبين جريمة بسيطة تبقى بين الإنسان وربه إذا لم يرتكب الإنسان الذي تغير معتقده أيَّة جريمة أو جناية ضد الجماعة وحقوقها، وضد البلاد ومقوماتها ومقدراتها، فإذا لوحظ هذا الفرق نستطيع أن نفهم آنذاك أنَّ تلك الجريمة المركبة لا حد في الدين عليها إلا بالنظر لما يصحبها ويخالطها، أمَّا لو فرضنا وقوعها بدون شيء من ذلك فلا حد فيها، ولنا نقاش طويل عريض لهذا الموضوع لابد لمن يريد معرفة الموقف القرآني والإسلامي من قراءته من الغلاف إلى الغلاف؛ لكي يتفهم هذا الأمر على حقيقته، ومن مصدر قضينا في تأليفه ودراسة جوانبه المختلفة ما يزيد عن اثني عشر عامًا، وعنوانه: لا إكراه في الدين إشكالية الردة والمرتدين من صدر الإسلام إلى يومنا هذا. وشكرا.

س6: نتفق معك شيخنا فيما ذهبت إليه، ونعلم ذلك من خلال اطلاعنا على كتابكم القيم الموسوم بـ: “إشكالية الردة”، لكن أستاذي الكريم هناك أحاديث نبوية يؤكد أصحاب الاتجاه القائل بحكم الردة صحتها؛ أشهرها حديث: “من بدّل دينه فاقتلوه”، ماهي مناقشتكم لمثل هذا الحديث؟.

ج6/ ارجع إلى الكتاب المذكور، فقد ناقشنا هذا الحديث وغيره فيه وبقيَّة الأحاديث الأخرى فيه، مناقشة علميَّة وفق قواعد المحدثين، وبيَّنا ما فيها من علل في أسانيدها ومتونها، كما استعرضنا مذاهب الفقهاء في الأمر ونقدناها وبينا ما فيها، فاقرأوا يرحكم الله. ولا تكونا كما قال فيكم ديان: “العرب لا يقرؤون”.

[1]  الراوي: النعمان بن بشير المحدث: البخاري     – المصدر: صحيح البخاري – الصفحة أو الرقم: 2493

خلاصة حكم المحدث: [صحيح]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *