بسم الله الرحمن الرحيم
أ.د.طه العلواني
قد استغرب العالم –كلّه- تلك القسوة المفرطة التي استعملتها إسرائيل في حربها على غزَّة، كما استغرب صمود أبناء غزة، وعدم ظهور مظاهر تفكك في مجتمعها أو احتراب داخليّ، أو تمرّد على الحكومة التي صارت لا تذكر إلاّ مقرونة بوصف “المقالة”، ومع ذلك فأهل غزَّة الذين تحملوا تلك القسوة المفرطة، والتدمير الشامل لم تتفرّق كلمتهم، ولم تتمزق صفوفهم ولم يغادروا أرضهم، ولم يتركوا ديارهم ولازموا بقاياها المهدّمة وهي تهدم على رؤوسهم، وتسحق تحت ركامها جثث أحبابهم وأبنائهم. فكانت الأسئلة تتعدّد وتتزايد حول أسباب القسوة المفرطة التي تجاوزت كل الحدود من جانب يهود. وذلك الصمود العجيب الذي تجاوز حدود الطاقة البشريَّة العاديَّة على الصمود.
مع أن الأفق مغلق حيث لم يكن هناك أمل في الغلبة والنصر بين صواريخ أشبه بمواسير البارود في بداية عصر البارود والأسلحة الكيماويَّة والبيولوجيَّة والانشطاريَّة الحارقة والطائرات بدون طيار والدبابات المطوّرة التي تحتل أعلى المراتب بين الأسلحة المعاصرة، وأكثر الأسلحة مناعة وفتكًا في الوقت نفسه. وقد أكثر المحلّلون من تحليل الظاهرتين المتقابلتين، فقال قائلون منهم: إنَّ يهود قد ألفوا هذا النوع من القسوة منذ أن قرّروا اغتصاب فلسطين، وإخلاءها من أهلها ليقولوا لأجيال قادمة يمكن أن تستهلك التاريخ المغشوش أو الكاذب. إنّهم وجدوا أرضًا مباركة مقدسة بدون شعب فاستوطنوها ليعمروها، ولذلك بدأت عصاباتهم الإرهابيَّة الأولى شتيرن والهاجاناه. والإرجون ورقاي وغيرها بترويع الفلسطينيين بمجازر قبية وجنين ودير ياسين وكفر قاسم ثم صبرا وشاتيلا وجنوب لبنان … و و. فإنَّ الإفراط في القسوة، والخروج عن سائر الأعراف وعدم التفريق بين شيخ وطفل ومدنيّ وعسكري، ومقاتل ومسالم صار ذلك –كلّه- جزءً من “العقيدة العسكريّة الإسرائيليّة” في داخل الأرض الفلسطينيَّة وخارجها، لا فرق بين مدارس الأمم المتحدة في غزّة أو في القدس أو بحر البقر أو الجولان أو جنوب لبنان. وأنَّ “عقدة الخوف” من “الآخر هي التي تحرك المستوطن والمقاتل اليهوديّ لإبادة عدوه؛ لأنّه قد اعتقد من قديم أن من لا يبيد أعداءه لن يسلم من شرورهم، فإمّا أن يبيد اليهوديّ الآخر، وإمّا أن ينتظر منه أن يبيده.
و”عقدة الخوف” قد تصلح تفسيرًا على المستوى الفرديّ أمّا أن تكون محرّكًا لشعب كامل بكل مؤسّساته العسكريّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة والإعلاميّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة فذلك أمر يحتاج إلى دراسات تتجاوز الدراسات القائمة على الحالات الفرديَّة.
وهناك من فسّر “القسوة المفرطة” من جانب يهود بـ”المعاناة الطويلة من عقدة الاضطهاد” وأنّ المضطهد عندما يتمكن فإنّه يحب أن يتقمّص أدوار جلاّديه فيفتك بأعدائه بأشد وأقوى ما يستطيع. ويعزّز هؤلاء تحليلهم هذا بثورة الغضب والنوبات الهستيريَّة التي تصيبهم إذا ما شكك أحد “بواقعة الهولوكوست” باعتبار أنّ العقل الباطن اليهوديّ يعتبر “الهولوكوست” مسوّغًا “لعقدة الاضطهاد” بحيث يفعل كل ما يعن له من صنوف الفتك والتدمير لأعدائه، أو من يجعل منهم أعداءه بتصرفاته، ولكي يقنع نفسه بأنّه ما زال دون مستوى الفتك الذي بلغه أعداؤه في “محرقة الهولوكوست”!! لكنّ جلاديهم أمثال هتلر لم يسوّغوا إحراقهم وتدميرهم بمسوّغات دينيَّة أو أخلاقيَّة. أما يهود فقد سوّغوا ترحيل سكان فلسطين وإجلائهم، وتدميرهم بمسوغات دينيَّة، فقد زعموا أنَّ إقامة الدولة على أرض فلسطين ارتبط بوعد إلهيّ لإبراهيم أن يورث ذريّة إسحاق ويعقوب الأرض المقدسة، ومن يدعي مثل هذه الدعوى … يفترض أن يلاحظ القيم الدينيّة، ويخشى الله ويتقيه في عباده. فالأنبياء –جميعًا- ما كانوا جبابرة ولا مدمرين ولا يعيثون في الأرض فسادًا، ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلا بالحق.
وهناك من يرى أنَّ “الدولة العبريَّة” لابد لها أن تأخذ بكل أسباب العنف الذي يجعل البحر العربيّ المحيط بها يخافها ولا يقترب من حدودها، ويفكر ألف مرة قبل أن يؤيّد مطالب الفلسطينيين بحق البقاء للموجودين، وحق العودة للذين تشردوا في سائر أنحاء الأرض، فضلاً عن المطالب الأخرى، فذلك –كلّه- يشكل خطرًا على أمن الدولة العبريَّة، المحاطة بالعرب والمسلمين الكارهين لها ولوجودها. وتستمر هذه التحليلات التي لا تقنع، ولا توقف نزعات التساؤل.
أمّا على الجانب الفلسطينيّ فهناك من يفسّر ذلك الصمود الذي ذكرنا تفسيرًا ثقافيًّا، فالفلسطينيّون مثل غيرهم من المسلمين يحملون “ثقافة الاستشهاد” التي تجعل الإنسان يؤمن أن من يستشهد يذهب إلى الجنّة والحور العين والقصور الفارهة … و… و..
يقولون: إنّ معظم الفلسطينيّين خاصّة أهل غزّة بعد الحصار الطويل وسوء الأوضاع الاقتصاديّة صارت الغالبيَّة العظمى منهم تفضل الموت على الحياة!! فتقدم على مغامرات ومحاولات استدراج إسرائيل والتحرش بها لتقتلهم فيموتوا شهداء!!! وهذا تحليل يضع الموت إلى جانب البضائع الاستهلاكيَّة؛ وهم بذلك يريدون أن ينبهوا إلى أنّهم يقدمون الموت على أنواع، منها هذا النوع الذي يدخرونه للفلسطينيّين والعرب الذي يعتبر بمثابة رصاصة الرحمة لديهم، فكأنّهم يبيدون من يبيدونهم من نساء وأطفال وشيوخ ومدنيّين ومرضى في المستشفيات وأطباءهم إضافة إلى المقاومين رحمة بهم، وتلبية لأمنياتهم ورغباتهم؛ ليجعلوا -عاملهم الله بعدله- أنفسهم متفضلين عليهم بذلك الموت وبتلك الإبادة، فهل شهدت البشريَّة في أيّ عصر من العصور منطقًا مثل هذا المنطق المعكوس؟!!
إنّ سائر تلك التحليلات انبثقت عن فكر وضعيّ لا يرى أيّ علاقة بين المطلق والنسبيّ، وبين الغيب والواقع. ولذلك فإنَّنا لا نجد للمطلق أو للغيب بعدًا ملحوظًا في سائر تلك التحليلات، وإذا أشير على شيء منه فإنّما يشار إليه باعتباره قدرًا مقدورًا، لا باعتباره مدخلاً من مداخل الفهم والتحليل المعرفيّ الذي يساعد الباحث على الإلمام بسائر أبعاد وجوانب الموضوع ممّا يجعل الفهم أدق، والتحليل أشمل. ولذلك فإنّ دراسة د. منى –يرحمها الله- في بيان “خلاص العالم بين قطبي المطلق: الإسلام والغرب” ودراستي التي جاءت تعليقًا على أحداث غزَّة في غمرة الانفعال بتلك الأحداث، والبحث في الوحي الإلهيّ النازل على موسى –عليه السلام- وعلى محمد –صلى الله عليه وآله وسلم- عن تفسير أو إضاءة لتلك الأحداث التي تقع بين أمّتين، لكل منهما نصيب في الوحي الإلهيّ، أمَّة حمّلت “التوراة” وأمّة حمّلت “القرآن”، وكلاهما يدلي بنسب وسبب إلى سيدنا وأبينا إبراهيم –عليه السلام- فبنو إسرائيل أي: يعقوب جدهم إبراهيم، وبنو إسماعيل –وهم العرب- جدُّهم إبراهيم –أيضًا- فمن أين جاء بني يعقوب بتلك القسوة البالغة التي شملت الأطفال والنساء والمقاتلين وغير المقاتلين والجرحى والأطباء؟. من أين جاءت تلك المشاعر الهابطة اللاإنسانيّة على بني يعقوب –عليه السلام- ضد من؟ ضد بني عمّهم إسماعيل، فهل جاءت هذه القسوة، واعتبار الفلسطينيّين العرب “حشرات ضارَّة” كما كتب بعض الكتاب الصهيونيّين من إساءة فهم التوراة أو شروحهم عليها، من انحراف في النظرة على الإنسان، وما مصدر الانحراف في هذه النظرة؟
إنّ بحث د. منى –يرحمها الله- المنبثق عن منظور حضاريّ كان يقود خطاها في سائر بحوثها ودراساتها، وأوصلها إلى نوع من الفهم والتحليل لـ” ظاهرة الإفراط الإسرائيليّ في استخدام القوة ومقاومة الضعف العربيّ الفلسطينيّ”، بل الإفراط الغربيّ عامَّة في استخدام القوة ومقاومة الضعف الإسلاميّ” في العراق وأفغانستان ومناطق القبائل في باكستان وغيرها. لقد قرأت منى بمنظورها الحضاريّ ما وراء المشهد فخرجت بنتيجة مفادها: أنَّ هذا الذي يعبر عنه المشهد الظاهريّ الغامض إنّما هي “حروب حضاريَّة ثقافيَّة” يحركها “مطلق” يتجاوز أبعاد الزمان والمكان، ويمتد على ماض بعيد … .
وتأتي دراستي من منظور فقه وفهم “النصّ الدينيّ التوراتيّ” وقراءة المشهد الظاهريّ ببيان الانحراف في “فقه التديّن” وفهم التنزيل في الواقع، وجدليَّة النصّ والواقع لتؤدي لتفسير مماثل بحيث تنبّه الدراستان متضافرتان إلى جدليَّة قلَّ أن يلتفت إليها إلا فلاسفة الأديان والحضارات ألا وهي “جدليَّة الدين والحضارة” التي كثيرًا ما أشار إليها “توينبي ويل ديورانت وسبيلنجر” بإشارات محمّلة بالتحيُّز، ولا يؤثر ذلك التحيُّز على حقيقة وجود الظاهرة نفسها. ظاهرة وجود “جدليَّة بين الدين والحضارة”.
إنّ المسلمين حينما يستحضرون المطلق يقال لهم: إرهابيّون غيبيّون رجعيّون ظلاميّون. وحين يستحضره غيرهم يقال: ذلك علم وتحليل وتقدم وتحديث وتخليص تغتفر في سبيله عمليّات العنف والإفراط في استعمال القوة في مقاومة ضعف الضعفاء وعدم قدرتهم على اللحاق بالركب “ركب المطلق الحضاريّ” الذي بلغ من عطفه وحبّه لضحاياه العرب والمسلمين أن زرع لهم واحة حضاريّة ديمقراطيّة تذكرهم إذا نسوا ولو بمثل ذلك الإفراط في استخدام العنف.
“نحو فهم قرآنيّ لطبيعة العلاقة بين يهود والعرب اليوم”
أو ملحمة غزّة نهاية أم حلقة من سلسلة؟
شيء من التاريخ:
كان اليهود قد قررّوا التجمُّع في الحجاز: في المدينة المنوّرة بصفة خاصّة التي كانت تعرف بـ”يثرب” ومكة المكرمة والقرى الواقعة بينهما كان ذلك قبل سبعة قرون من بعثة رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلّم- (يعني بعد الهدم الثاني للهيكل الذي حدث سنة (75) قبل الميلاد)، وذلك لوجود بشائر بقرب ظهور النبيّ الخاتم في التوراة، والبشائر حدَّدت مكان ظهوره، ومهجره وأنّه من ذريَّة إبراهيم، فكانوا يطمعون بأن يكون منهم و”فقههم البقريّ” و”حملهم الحماريّ للتوراة” جعلهم يرجّحون أنَّ هذا النبيّ الخاتم يمكن أن يكون منهم لو سكنوا أماكن ظهوره ومهجره التي هي جزء من “منطقة التجوال الإبراهيميّ” فاستوطنوا الحجاز، وصاروا يستفتحون على الذين كفروا والمشركين العرب، ويهدّدونهم بأنّهم ينتظرون النبيّ الخاتم ليقودهم –كما قادهم موسى ويحرّرهم، ويجعل منهم أسيادًا لسائر الشعوب الأخرى، وكانت طائفة منهم قد سبقت إلى اليمن واستوطنتها، وتهوّد بتأثيرهم بعض العناصر المحليَّة ليتَّسع نفوذهم، ويكثر عددهم. وقد استطاعوا أن يحولوا دون انتشار النصرانيَّة في اليمن والجزيرة، وكانوا وراء إبادة من تنصّروا في قصَّة “أصحاب الأخدود” التي سجّلها القرآن الكريم في سورة “البروج” ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ﴾ (البروج: 1-5) واتل السورة كاملة وتأمّل فيها. والذين أفلتوا من تلك المحرقة استقروا في نجران وما حولها، وصاروا يعرفون “بنصارى نجران”.
كان اليهود في شبه الجزيرة العربيَّة ذوي وجود منتشر وفاعل في التجارة والزراعة والربا وصناعة الأسلحة. وقد امتزجوا مع القبائل العربيَّة، وتحالفوا مع الكثير منها، وأصهروا إليها وحمل مواليدهم أسماء عربيّة، ولولا تجمعاتهم التي كانوا يحرصون على الانحياز إليها “الجيتو”، والتميّز فيها لانصهروا في البيئة العربيّة، لكنَّهم فضلوا المحافظة على تجمعاتهم الخاصّة فعاشوا بين العرب متَّصلين ومنفصلين في الوقت ذاته. وفي العقود القليلة التي سبقت بعثة رسول اله –صلى الله عليه وآله وسلّم- كان نفوذهم ظاهرًا، وكانوا يمثّلون إضافة إلى ما ذكرنا مستشارين لزعماء القبائل، ومموّلين لبعضهم وباعة سلاح في الحروب بين القبائل.
كان العالم عندما أظل زمان بعثة النبيّ الخاتم –صلى الله عليه وآله وسلّم- تتقاسمه قوّتان عظيمتان فارس وكانت على المجوسيَّة، والروم وكانوا على النصرانيَّة. والعرب على أطراف شبه الجزيرة العربيّة وبعض أقطارها الداخليّة منقسمون، فالمناذرة منهم تحت سلطان فارس متعاونين معها يعملون للتاج الكسرويّ. والغساسنة منهم يعملون للروم تحت سلطان العرش القيصريّ. وكان اليهود يتوقعون أن يسيطروا على ذلك العالم، وينهوا سلطان قوتيه العظميين إذا ما جاء “المشايا” والنبي الخاتم منهم الذي أسقطوا عليه صفات “المشايا” المنتظر –ولما جاء النبيّ المنتظر النبيّ الخاتم والأخير من ولد إسماعيل لا من ولد إسحاق أو يعقوب –كما كانوا يتمنّون- قامت قيامتهم، وتغيَّر كل شيء فيهم، وتنكروا لبشائر أنبيائهم التي وصفت لهم رسول الله–صلى الله عليه وآله وسلّم- وصفًا دقيقًا، حتى صاروا “يعرفونه كما يعرفون أبناءهم”؛ فكابروا واستكبروا، ولجوّا في طغيانهم وكبريائهم، ولم يكفهم رفض الإيمان به وتصديقه بل قرّروا محاربته، والانضمام إلى صفوف المشركين في محاربته. لأنّ توقعهم كان قد ارتبط بتجربتهم، فكانوا يتوقعون أن ما يأتي به الرسول الخاتم لا ينبغي أن يخرج قيد شعرة عن اليهوديَّة وتعاليمها: والتجربة اليهوديّة تجربة إيمانيَّة حسِّيَّة، وعلاقتها بالغيب الإلهيّ علاقة مباشرة ومحسوسة؛ فموسى يوحي الله –تعالى- إليه بكلام مسموع، أي صوتًا مسموعًا، ويخاطب من شجرة ملتهبة يراها ويسمع الصوت، وترافقه المعجزات الحسِّيَّة في صالح قومه وفي التعامل معهم من شق البحر إلى تشقق الصخر بضربه بعصاه ليتفجر منه الماء، وتظليلهم بالغمام لحمايتهم من حرارة الشمس، وإنزال المن والسلوى عليهم طعامًا جاهزًا، إلى منحهم الأرض المقدسة موطنًا لهم بديلا عن مصر التي استعبدوا واستذلوا فيها. وحصر الخطاب الإلهيّ فيهم –وكذلك تسليط آيات حسِّيَّة على أعدائهم من الطوفان والجراد والقمل والدم والضفادع والقحط آيات حسيَّة مفصّلات، وتأتي التوراة “بعهد وقانون ووصايا عشر، وتكون الحاكميَّة المطلقة على هذا الشعب لله فلا اجتهاد ولا تصرف بشريّ ولا استخلاف بل كلّما مات نبيٌّ أو قتل خلفه نبيّ آخر لينقل تعليمات الله المباشرة إلى شعب إسرائيل، وينقل طلبات الشعب إليه –جل شأنه.
فهي منظومة حسيّة تهيمن عليها “الإرادة الإلهيَّة” بشكل ظاهر.
والشريعة التي شرعت لهم شريعة إصر وأغلال حسِّيّة غليظة في مقابل معجزات حسيّة خارقة أحاطت بحياتهم –كلّها- وتجربة إيمانيّة حسيَّة كذلك “فالحسُّ أمر أساسيّ لهذا الشعب”. ولذلك وصفهم السيد المسيح –عليه السلام- -“بغلاظ الأكباد” أمَّا الرسالة المحمديَّة فقد نسخت “المنظومة الحسِّيَّة” وأبطلت بذلك “التجربة الحسيَّة اليهوديّة” وقدمت البدائل الملائمة عنها. فنسخ الخطاب القوميُّ الحصريّ الخاصّ ببني إسرائيل بخطاب عالميّ: ﴿قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (الأنعام:158)، ونسخت الحاكميَّة الإلهيّة بحاكميّة الاستخلاف القائمة على “حاكميَّة الكتاب” بقراءة وفهم وتدبّر بشريّين ونسخت “شريعة الإصر والأغلال بشريعة التخفيف والرحمة. وحلّت الأرض المحرمة محل الأرض المقدّسة في احتضان الرسالة الخاتمة، وانطلاقهًا منها.
نحو مزيد من الفهم:
إنَّ عظمة القرآن المجيد التي تبهر باحثًا مثلي لا تبدو فقط في أوجه إعجازه، ولا فيما يتيحه “الخطاب القرآنيّ” لمتدبُّره من طاقات وقدرات على التفسير والتأويل للقضايا التي ألف الناس وصفها “بالقضايا الدينيَّة” و”الغيبيَّة”.
بل هي تظهر –عندي- فيما ينطوي عليه خطابه المكنون من طاقات متنوّعة، بعض تلك الطاقات القدرة التي يمنحها خطابه لمن يحسن “التدبُّر” في آياته. فكلماته الثابتة التي “لا مبدّل لها..” والتي تمت “صدقًا وعدلاً” تقدم للإنسان أنواعًا متعدّدة: لا تحصى من “أشكال الفهم والوعي تستجيب لتحديات الأزمنة والأمكنة، وفي ظل مختلف السقوف العقليّة والحضاريّة والثقافيّة.
إنّ القرآن المجيد ينفذ إلى صميم أوضاعنا الراهنة “بمنهجه ومعناه” الذي كان قبلاً مكنونًا، ونستطيع بتدبُّر القرآن المجيد تدبُّرًا سليمًا أن ننفذ إليه، ونثيره بمساءلات ملحة، ونستنطقه ليجيب بكشف شيء من مكنونه –مناسب لأوضاعنا الراهنة عن تساؤلاتنا: ما موقعنا نحن العرب (والمسلمون من ورائنا) في الحركة والتاريخ اليوم؟ ما موقعنا في الماضي وفي الحاضر؟ وما موقعنا في المستقبل؟ ما موقعنا في عالمنا الخاص وفي العالم الذي نشارك الآخرين فيه؟ وفي الكون؟ ما موقف العربيّ من نفسه ومن صراعه ضد إسرائيل وتطورات هذا الصراع في الحاضر والمستقبل؟ لماذا اختارت قيادات الصهيونيَّة وحلفاؤها الأوربيّون فلسطين وطنًا قوميًّا ليهود أوغندا ولا غيرها من بقاع الأرض؟ (إنّ من الخطورة بمكان أن يتوهم أحد بأنّنا بصدد تأويل نصوص القرآن تأويلاً عصريًّا مفتعلًا لنسقط، فذلك التأويل على أحداث اليوم ليس من مقصودنا ولا نقرّه، فضلاً عن أن نتبنّاه. لقد بلغنا –نحن المسلمين- قمة التفكك في مارس (1924م) بإلغاء آخر رمز لوحدتنا “الخلافة” والارتداد نحو العنصريّات ومقومات الانقسام والتحول نحو البدائل المستوردة الوضعيّة، وبعث واستحياء ما كنّا عليه قبل الإسلام وتكريس الإقليميّات، واستمرار حالة التشرذم بحيث كلما حاولنا وحدة أو اتحادًا سرعان ما تنفصم عراها، وسائر المنظمات الإقليميّة التي أقمناها انتهت إلى حالات تجمد أو احتضار “الجامعة العربيَّة” منظّمة المؤتمر الإسلامي” والوحدات والاتحادات العديدة التي فشلت: الثنائيّة منها والثلاثية وغيرها. إلخ. إلى أن تجاوزنا حالة التفكّك إلى حالة “التفسخ والتحلّل” بعد حرب الأيام الستة وسقوط القدس بأيدي يهود مرة أخرى لتعود حالة القبليَّة العربيَّة التي أنهاها القرآن ببناء الأمَّة الوسط، والتأليف بين العرب وتحويلهم إلى خير أمَّة أخرجت للناس. وهذه الحالة القبليّة أخذت من المعاصرة بعض الأشكال فسمّت نفسها دولاً، وإن كان كثير منها في حقيقته قبائل.
أما بنو إسرائيل الذين تكونوا في مصر الفرعونيَّة، وبعث فيهم رسول الله موسى –عليه السلام- لينقذهم من ذل العبوديَّة، وليجاوز بهم البحر بمعجزة خارقة، ويقودهم للاستقرار في الأرض المقدَّسة فيقيموا “النموذج الذي يبرز الفروق الهائلة بين العبوديَّة للعبيد، والعبوديّة لله –تعالى” فقد أصيبت تجربتهم بإخفاقات هائلة انتهت بالفشل التام، واستبدلوا بأمتنا التي أورثت الكتاب ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ (فاطر:32) ومرت هذه الأمَّة بأدوار وأطوار اتفقت في بعض الأحيان مع بعض أطوار “التجربة الإسرائيليَّة” واختلفت في أحيان أخرى. ولكنّها انتهت إلى حالة التشرذم والتفسخ الحاليَّة. وقد انكمش دور القرآن في حياتنا انكماشًا شديدًا. كما انكمش دور التوراة في حياة بني إسرائيل بحيث وصفهم الله –تعالى- بقوله: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (الجمعة:5) وحينما تحمل الأمم -التي تصطفى إلهيًّا لتلقّي- كتبه ورسالاته كتبها ورسالات ربها بتلك الطريقة تكون مثل ذلك الذي أمر الله رسوله –صلى الله عليه وآله وسلم- أن يضربه للبشريَّة مثلاً يتلوه كتاب الله عليهم: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ﴾ (الأعراف:175-177).
لكن حكمة الله ورحمته بعدم إخضاع هذه الأمّة “لسنة الاستبدال”، بل إخضاعها “لسنَّة البعث والتجديد” بحفظ القرآن وبقائه فيها أبقت في داخل أمتنا وضمن خصائصها إمكانيّات “الانبعاث والتجدّد” مرة أخرى ضمن آفاق جديدة، وطاقات متجدّدة؛ وذلك بناءً على “ختم النبوة” بمحمد –صلى الله عليه وآله وسلم- الذي يقتضي أن تتواصل رسالته ولا تنقطع لأنّها خاتمة الرسالات، ولأنّها عالميَّة؛ ولأنَّ حفظ القرآن وعصمته وحفظه من أن يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه يقتضي إطلاقيَّته في الزمان والمكان وعمومه وشموله.
فمقوّمات الوجود والبقاء والتجدّد ستبقى متوافرة في هذه الأمَّة إلى يوم الدين. فالعربيّ والمسلم سائران رغمًا عن سائر الظروف المحيطة بهما نحو عمليّات تحوّل خطيرة تأخذ بيدهما نحو “فهم منهجيّ للقرآن المجيد” بدأت إرهاصاته. سيتجاوز به حالتي التقليد والتبعيَّة والتاريخ وبعض مكوّنات التكوين الأولى ليرتقي إلى السقف المعرفيّ والمنهجيّ القرآنيّ الذي يستوعب ويتجاوز السقف الحضاريّ الراهن بكل مقوّماته، ويتجاوز بذلك حالة التخلّف الفكريّ وأزمته الفكريَّة.
ويتجاوز حالة اليأس التي يفرضها الواقع إلى حالة تفاؤل تقوم على معرفة أبعاد “سنّة التداول” و”حركة التاريخ”. إنَّ المخطّطات العربيَّة المعاصرة إن وجدت، والأفكار السياسيَّة للنظم وللأحزاب الحداثيَّة التي قامت على أفكار وضعيَّة بنيت على تصوير “الظاهرة الإسرائيليَّة” بأنّها “كيان استيطانيّ عنصريّ انبثق عن المنظومة الرأسماليَّة في أوربا وأمريكا”. وأنَّ أمريكا بالذات تدعمها لأنّها تنظر إليها على أنّها حاملة طائرات أمريكيَّة أرضيَّة مهمتها عزل المشرق العربيّ عن المغرب للحيلولة دون قيام تعاون بين العرب أو وحدة أو اتحاد، وحراسة المصالح الأمريكيَّة في المنطقة العربيَّة التي تحمل من الموارد والمصادر والإمكانات ما لا يمكن للغرب الاستغناء عنه!! وكل ما نسمعه صباح مساء من تحليلات وتعليقات ينطلق من هذه التصورات الخاطئة.
والذي ينبّه القرآن الكريم إليه أنّ التجمُّع اليهوديّ في أرض فلسطين وإقامة “دولة يهود” فيها، فيه فعل إلهيٌّ يتجاوز ما ذكروا، ثم جهد بشريّ، مؤيَّد بحركة تاريخ قائمة على “سنّة التداول” بين الأمتين الإسلاميَّة (العربيَّة) و”الصهيونيَّة اليهوديَّة” في هذه المنطقة.
إنّ تنادي اليهود منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى ما يقرب من نهاية النصف الأول من القرن العشرين وإعلان “الدولة العبريَّة” يمكن أن تلحظ في ذلك –كلّه- الأبعاد الثلاثة التالية: فعل الغيب في الواقع، ثم فعل الإنسان ثم استجابة الواقع أو الّلحظة التاريخيَّة بقوله تعالى: ﴿وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا﴾ (الإسراء:104) وحين نربط بين آيات سورة الحشر وآيات سورة الإسراء تتّضح الصورة الكاملة لحركة التاريخ بهذا الشعب: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ * وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ﴾ (الحشر:2-3) وآيات سورة الإسراء التي لابد من تدبُّرها هي قوله تعالى: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا * إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ (4-9). دون تجاوز لآيات سورة البقرة من (39-141) وسورة الأعراف وسورة الشعراء والقصص والجمعة حين نقرأ ذلك –كلّه- تبرز حالة التقابل بيننا وبينهم.
هذا التقابل بين الأمّتين العربيَّة المسلمة واليهوديَّة الصهيونيَّة في هذه المنطقة بالذات منطقة “التجوال الإبراهيميّ” التي هي منطقة الوسط من العالم – الذي ضم ما بين المحيطين الأطلسيّ غربًا والهادي شرقًا. يدل على أنَّ الله –جل شأنه- ما خلق السماوات والأرض إلاّ بالحق وأجل مسمّى، وهذا الحق لا يبرز في إطار غيب محض بل لابد من تدافع بشريّ يتمكّن الإنسان به من أداء دوره الاستخلافيّ، فكانت دورات المراحل الدينيَّة في التاريخ الإنسانيّ كما ذكرها القرآن الكريم، بدأت بدورة عائليَّه قامت على آدم وزوجه وبنيه، والتدافع كان بين هذه الأسرة والشيطان وجهًا لوجه. ثم دورة قامت على “ذريّة من حمل الله مع نوح” انبثقت عنها دورة قوميّة أو قبليَّة كان التدافع فيها بين بني إسرائيل وفرعون وقومه انتهت بانتصار بني إسرائيل، فقد استقر أبناء يعقوب في مصر من عهد يوسف –عليه السلام- ولم يكن ذلك مصادفة فقد كانت بداية ذلك بخارق للعادة قام على إنقاذ الصبي يوسف من الجبّ، وبيعه إلى عزيز مصر لا إلى غيره بتدبير إلهيّ، وتبنّيه له … وكانت نهاية وجودهم بقيادة موسى الذي نجى من قانون تقتيل بني إسرائيل الذكور بأمر فرعون، ولكن التدبير الإلهيّ حفظ موسى ونقله من اليم الذي ألقى فيه إلى قصر فرعون وحجر زوجه؛ ليعيش معزّزًا مكرّمًا كأمير من أمراء الأسرة الحاكمة، ثم جرى به التقدير والتدبير الإلهيّ ليصبح رسولاً نبيًّا، وقائدًا قوميًّا ينقذ قومه من بني إسرائيل من العبوديّة لفرعون بحماية إلهيَّة تنقذه بشق البحر من فرعون وجنوده، وتغرق فرعون وجنده. ثم يدخلون الأرض المقدسة، ثم ينتصرون على جالوت وجنوده برمية من داود لجالوت، ثم يُسبون وينفون إلى بابل ثم يعودون بعد (75) عامًا، ثم يتسلّط عليهم الرومان ويهدمون الهيكل قبل ميلاد المسيح ﺑ (75) عامًا، ثم ينتهون إلى الحجاز وشبه الجزيرة العربيَّة ويستوطنون ما حول المدينة ويقيمون مستوطناتهم في الطريق ما بين مكة والمدينة مرورًا بخيبر قبل بعثة محمد –صلى الله عليه وآله وسلم- الذي كانوا يطمعون أن يكون منهم من ذرية إسحاق ويعقوب، فلمّا كان من بني إسماعيل فقد ملأ الحسد والحقد والغضب قلوبهم على الله –تعالى- ثم على رسوله الكريم الذي كانوا يعرفونه كما يعرفون أبنائهم. فتنكروا له، وانكروا ما جاء به، وظاهروا المشركين عليه، ولم تتوقف مؤامراتهم ضده، إلى أن أمره الله –تعالى- بنفيهم بعيدًا عن المدينة وما حولها. فتم نفيهم خارج الحجاز لأول الحشر بتدبير وتقدير إلهيّ. وحافظوا خلال ثلاثة عشر قرنًا على خصائصهم التكوينيَّة التي خرجوا بها من مصر قبل آلاف السنين مع تفرقهم في سائر أقطار الأرض، وحُفظوا رغم الشتات، وتسلط كثير من شعوب الأرض عليهم ليستمروا إلى أجل هم بالغوه، إنّ بعض ما سلّط عليهم كان كافيًّا لإضاعة شعوب، وإفناء أمم وتغيير هُوِيّات، لكنّ الله أبقاهم رغم ذلك ليضعهم في مواجهة أمَّة حافظ الله على وجودها –كذلك- رغم كل محاولات القضاء عليهم فالغزوات الصليبية والحروب والاجتياحات المغوليّة، ثم الحروب الصليبيَّة الاستعماريَّة الحديثة كل ذلك لم ينه وجود العرب والمسلمين، ليضع الله الأمّتين وجهًا لوجه من جديد، أمَّتين متناقضتين ومتماثلتين: أمَّة حمّلت التوراة فلم تحملها إلا بطريقة حماريّة، وأمَّة حمِّلت القرآن فحملته كما ينبغي في بادئ الأمر ثم تغيّر حالها فلم تعد تحمله إلا بذات الطريقة. أمَّة حملت رسالة خاصة لتدخل الأرض المقدسة وتقيم فيها النموذج الإلهيّ المطلوب ففشلت، وأمَّة أخرجت للناس من الحرم لتحمل للبشريَّة رسالة عالميَّة خاتمة ملائمة لسائر شعوب الأرض قادرة على إدخال شعوب العالم كلّها في السلم كافة فلم تفعل وارتدت إلى العصبيات القبليَّة والإقليميّة، وأمة ألفت الغرور والاستعلاء وأكل الربا والمغالطة في التسوية بين الحلال والحرام أحيانًا والحق والباطل ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ (البقرة:275) يقتلون الأنبياء والذين يأمرون بالقسط من الناس، يحرّفون كلمات الله عن مواضعها إذا خالفت أهواءهم، أمَّة لا ترى أحدًا من البشر غيرها أهلاً لأيّ خير يتنزل عليهم ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ (آل عمران:75) كذبة ملتوون منافقون غشّاشون حقدة يجسِّدون كل أبعاد الشر والباطل في أساليبهم، يرون الأرض –كلّها- والناس كافَّة –مجرّد وسائل وأدوات لهم أن يعتصروها، ويأخذوا أي شيء مفيد ليختصوا به، فهم أبناء الله وأحبَّاؤه. يرون الحرب والقتل والتدمير كفارة لهم عن خطاياهم. وأمّا الآخرون فلهم أن يبيدوهم إن شاءوا ليكونوا وقود النار وفداءً لهم، لا يمكن لنسقهم وصفاتهم أن تتقبل أفكار السلام إلا إذا كان استسلامًا تامًّا لسلطانهم. فعلاقتهم مع الآخرين أيًّا كانوا هي علاقة نفي ونبذ وتضادّ؛ ولذلك كانت مقوّمات وجودهم تقوم على أفكار الصراع ومبادئه ومنهجيَّتة. وقد صادفت فترة قيام دولتهم في فلسطين فترة سيادة “منهجيّة الصراع والتنابذ والاستعلاء عالميًّا، وهي المنهجيّة” التي تقوم عليها الحضارة الغربيَّة المعاصرة؛ ولذلك فإنّ إسرائيل قد استطاعت توظيف سيادة “منهجيَّة الصراع” –التي هي منهجيَّتها- التي تلتقي بها مع الغرب، فجعلتها جسرًا لإقامة أقوى العلاقات مع العالم الغربيّ خاصَّة أمريكا وأوربا، وبذلك أصبحت “أكثر نفيرًا” وقادرة على التحرّك في وسط عالم يفهمها ويتجاوب معها. أكثر مما يفهم الأمَّة المقابلة لها التي تشكلت برسالة قامت دعائمها على قواعد “التوحيد والسلام والأمن والحق والهدى” فأعطتها قدرات الانفتاح على العالم –كلّه- والرغبة الحقيقية في عالم يسوده السلام؛ لأنّ الإسلام وإن كان غائبًا عن حياة الكثيرين منَّا إلا أنه غرس فينا اليقين بأنَّه لن يؤتى ثماره ولن تورق أشجاره إلاّ في عالم يسوده الأمن والسلام والحريَّة. و”التوحيد الذي هو جوهر ثمرته الأولى أن لا يتَّخذ البشر بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله، وأن لا يستعلي بعضهم على بعض. ولذلك فإنّ من المستحيل أن يتعايش هذان النسقان المتناقضان المتنافيان في بقعة واحدة من الأرض وبينهما كل هذا التناقض. إنّ الذين يحاولون فهم “الوجود الإسرائيليّ” من منطلقات وضعيّة بيننا هم أحوج ما يكونون إلى دراسة تاريخ الأمّتين دراسة دقيقة، والوقوف عند محطات التناوب في تاريخنا وتاريخ بني إسرائيل. والتصديق على ذلك بالتأريخ القرآنيّ للأمّتين ليكونوا قادرين على التحليل الدقيق للمواقف. كثيرًا ما كان يسألني بعض البسطاء الأذكياء: لماذا أكثر القرآن الكريم من ذكر تفاصيل تتعلق بشعب إسرائيل؟ حتى إنّ أحدهم قال لي مرّة إنّني ألاحظ أنَّ القرآن الكريم لكثرة ما ذكره عن بني إسرائيل كأنّهم الموضوع الأكثر أهميّة منّا فما ذكر عنَّا يكاد يكون أقل مما ذكر عنهم. إنَّ الله -سبحانه وتعالى- أكثر من ذكر إبليس في مقابلة آدم والحالة العائليَّة؛ لأنَّ التقابل كان بين الظاهرة الآدميَّة والظاهرة الشيطانيَّة. وأكثر من ذكر بني إسرائيل في مقابلة الأمّة المسلمة؛ لأنّهم الظاهرة المقابلة لهذا الأمَّة الموازية للظاهرة الشيطانيّة. لا يعني ذلك أنَّ الشيطان تخلى عن جهوده ضد أمّتنا لهم، بل لأنّه تظافر معهم، وضمّ جهوده إلى جهودهم في مواجهة هذه الأمة ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ (الأنعام:112) فالأمّتان العربيَّة بعمقها وامتدادها الإسلاميّ، والإسرائيليَّة بعمقها ونفوذها العالميّ صارا مرّة أخرى في مواجهة مغايرة لسائر المواجهات التاريخيَّة، وذلك لدفع العرب والمسلمين بالتحدي الإسرائيليّ إلى أحضان الآيات التي انسلخوا منها من جديد ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الأعراف:175-176)، وليخرج العرب والمسلمون من بطن الحوت الذي صاروا فيه بعد أن هجروا قرآنهم وتخلَّوا عن رسالة ربهم، وتجاهلوا ملّة أبيهم، وتخلّوا عن التأسّي بنبيّهم ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ (الصافات:139-148) وقد نهى نبيّنا –عليه وعلى يونس الصلاة والسلام- أن يكون مثله: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ (القلم:48-50). فالمعركة طويلة بيننا وبينهم حتى تصل إلى نهايتها، ونهايتها أن تكون الأرض المقدّسة التي جيء ببني إسرائيل إليها لفيفًا مقبرة كبرى لهم يتوقف تاريخهم على شواهد قبورها إن حظيت تلك القبور بالشواهد وتنتهي بأن تستأنف أمّتنا علاقتها بالقرآن وتحمله إلى العالم من جديد بعد طول توقف وانقطاع، وتسترد مع الخيريَّة الوسطيَّة والشهادة لينتهي ذلك الصراع الدائم الذي مثّل ولا يزال يمثل جوهر علاقة الأمتين باعتبارهما نقيضتين. ستستمر “الدولة العبريَّة اليهوديّة” سائرة بمنهجيَّة الصراع مستظهرة بقدراتها الاستنفاريّة وأموال الربا ووسائل الدس والتآمر، تؤججها نزعات الاستعلاء والاستكبار، والأجزاء المتفرقة المتشرذمة من الأمَّة الإسلاميَّة تدفعها آمال السلام، وتجنّب الصدام حتى تكتشف الحقيقة، وتعي ذاتها، وتستيقظ من أحلامها على حقيقة دورها. وحقيقة عدوها.
في الحالة الراهنة يشبه العرب إلى حد كبير آخر خلفاء بني العباس الذي بلغ تهديد التتار للأمَّة المسلمة في عهده غايته، وكلّما أبلغوه باحتلال التتار لإقليم من أقاليم الدولة قال: “بغداد تكفيني ولا يستكثرونها عليّ إن أنا تركت لهم الأطراف” وظل في ذلك الخيال المريض لأنّه لم يكن يعرف عدوّه على حقيقته حتى دخل التتار بغداد ودخلوا قصره، ثم قتلوا أبناءه وحريمه أمام ناظريه ثم سملوا عينية واستولوا على ذهبه ونفائسه وتركوه يموت صبرًا.
إنّ إسرائيل قد تآمرت على فلسطين طويلاً إلى أن تسلمتها من يد الاحتلال البريطانيّ، وظنّت أنّها قد تخلّصت من ورثة شعب “الجبَّارين –الكنعانيّين” وأرادت أن تقضي بعدهم على الشعبين المصريّ والعراقيّ: فمصر أرض عبوديَّتهم وذلّهم، أخرجوا منها بإرادة إلهيّة منحتهم كثيرًا من الخوارق لتحميهم من فرعون وجنده. والعراق موطن سبيهم وبلد “نبوخذ نصّر”. وهذا الذي نقوله ليس تحليلاً أو خيالاً، فاقرأ معي هذه النصوص من توراتهم لتدرك أهميَّة وخطورة ما نقول في سفر أشعياء الإصحاح التاسع عشر: “.. هُوَذَا الرَّبُّ رَاكِبٌ عَلَى سَحَابَةٍ سَرِيعَةٍ وَقَادِمٌ إِلَى مِصْرَ، فَتَرْتَجِفُ أَوْثَانُ مِصْرَ مِنْ وَجْهِهِ، وَيَذُوبُ قَلْبُ مِصْرَ دَاخِلَهَا. وَأُهَيِّجُ مِصْرِيِّينَ عَلَى مِصْرِيِّينَ، فَيُحَارِبُونَ كُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ: مَدِينَةٌ مَدِينَةً، وَمَمْلَكَةٌ مَمْلَكَةً وَتُهْرَاقُ رُوحُ مِصْرَ دَاخِلَهَا، وَأُفْنِي مَشُورَتَهَا، فَيَسْأَلُونَ الأَوْثَانَ وَالْعَازِفِينَ وَأَصْحَابَ التَّوَابعِ وَالْعَرَّافِينَ. وَأُغْلِقُ عَلَى الْمِصْرِيِّينَ فِي يَدِ مَوْلًى قَاسٍ، فَيَتَسَلَّطُ عَلَيْهِمْ مَلِكٌ عَزِيزٌ، يَقُولُ السَّيِّدُ رَبُّ الْجُنُودِ. وَتُنَشَّفُ الْمِيَاهُ مِنَ الْبَحْرِ، وَيَجِفُّ النَّهْرُ وَيَيْبَسُ. وَتُنْتِنُ الأَنْهَارُ، وَتَضْعُفُ وَتَجِفُّ سَوَاقِي مِصْرَ، وَيَتْلَفُ الْقَصَبُ وَالأَسَلُ. وَالرِّيَاضُ عَلَى النِّيلِ عَلَى حَافَةِ النِّيلِ، وَكُلُّ مَزْرَعَةٍ عَلَى النِّيلِ تَيْبَسُ وَتَتَبَدَّدُ وَلاَ تَكُونُ. وَالصَّيَّادُونَ يَئِنُّونَ، وَكُلُّ الَّذِينَ يُلْقُونَ شِصًّا فِي النِّيلِ يَنُوحُونَ. وَالَّذِينَ يَبْسُطُونَ شَبَكَةً عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ يَحْزَنُونَ. وَيَخْزَى الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الْكَتَّانَ الْمُمَشَّطَ، وَالَّذِينَ يَحِيكُونَ الأَنْسِجَةَ الْبَيْضَاءَ. وَتَكُونُ عُمُدُهَا مَسْحُوقَةً، وَكُلُّ الْعَامِلِينَ بِالأُجْرَةِ مُكْتَئِبِي النَّفْسِ …” فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَكُونُ مِصْرُ كَالنِّسَاءِ فَتَرْتَعِدُ وَتَرْجُفُ مِنْ هَزَّةِ يَدِ رَبِّ الْجُنُودِ الَّتِي يَهُزُّهَا عَلَيْهَا وَتَكُونُ أَرْضُ يَهُوذَا رُعْباً لِمِصْرَ كُلُّ مَنْ تَذَكَّرَهَا يَرْتَعِبُ مِنْ أَمَامِ قَضَاءِ رَبِّ الْجُنُودِ الَّذِي يَقْضِي بِهِ عَلَيْهَا. وفي الإصحاح الثالث عشر من سفر أشعياء نبوءة باجتماع الجيوش على بابل … نبوءة بخراب بابل خرابًا تامًا.. “وبابل عنوان للعراق في أسفارهم”.
“… كُلُّ مَنْ وُجِدَ يُطْعَنُ وَكُلُّ مَنِ انْحَاشَ يَسْقُطُ بِالسَّيْفِ. وَتُحَطَّمُ أَطْفَالُهُمْ أَمَامَ عُيُونِهِمْ وَتُنْهَبُ بُيُوتُهُمْ وَتُفْضَحُ نِسَاؤُهُمْ. بأيد شبّان لا يرحمون ثمرة البطن. … .لا يرحم الطفل في بطن أمه ….ولا يُشفق على الأطفال.
وفي الإصحاح الرابع عشر من السفر نفسه: في بابل وأهلها –أيضًا- (العراق: “… هيّئوا لبنيه قتلاً بإثم آبائهم، فلا يقوموا، ولا يرثوا الأرض، ولا يملأوا وجه العالم مدنًا، فأقوم عليهم بقول رب الجنود: وأقطع من بابل اسمًا وبقيَّة ونسلاً وذريَّة يقول الرب، وأجعلها ميراثًا للقنفذ وآجام مياه واكنسها بمكنسة الهلاك يقول رب الجنود.
وأمّا عن فلسطين فتقول التوراة!! في إصحاح (29) من سفر أشعياء: “لا تفرحي يا جميع فلسطين … اصرخي أيّتها المدينة قد ذاب جميعك يا فلسطين؛ لأنّه من الشمال يأتي دخان وليس شاذ في جيوشه.
وفي الإصحاح السابع عشر من سفر أشعياء: نبوءة على دمشق / وحي من وجهة دمشق:”… هو ذا دمشق تزال من بين المدن وتكون رجمة ردم”.
وفعلاً تمكّنوا من القضاء على العراق، ونهبوا تاريخه ومتاحفه وذاكرته التاريخيّة ولم يشفوا غليلهم منه، وهم بذلك يرون أنّهم يحققون بما يصنعون من تدمير نبوءات توراتيَّة. أمّا مصر فليكون تآمرهم عليها مباركًا فينبغي أن يكون التدمير تدريجيًا بنشر الأمراض وتلويث البيئة والأسمدة المسرطنة ففي الماضي حين كان موسى وهارون يجاهدان لإخراجهم من مصر أرسل على المصريّين أنواعًا من العذاب: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾ (الأعراف:133).
إنّ المعارك المنتظرة بين العرب واليهود أكثر بكثير من المعارك التي مرت، ولعل أعنفها ستكون على “محور ما بين دمشق والمدينة المنورة التي إليها يأزر الإيمان” والجسد العربيّ سوف يستمر في المرحلة الراهنة بالتمزّق؛ لأنّ هذا التمزّق لم يصل غايته بعد وهي الغاية التي تحاول إسرائيل إيصال العرب إليها، موظفة كل ما أحدثته عمليّات التحديث القسريَّة التي فرضتها الأنظمة الدكتاتوريّة بالقوة، وفرضت معها “منطق الصراع” و”المنهجيَّة الصراعيَّة” التي استوردتها من الحضارة الغربيَّة، وهي المنهجيَّة الصراعيَّة” التي علّمت العرب والمسلمين أفكار التصنيف التي أسقطها العربيّ المسلم على انقساماته التاريخيَّة المذهبيَّة والطائفيّة وانقساماته المعاصرة الحزبيّة، والحركيّة؛ ولذلك لم يعد إنساننا اليوم قادرًا على أن يرى أرضيَّة مشتركة بينه وبين أخيه، وإن رآها على المستوى النظريّ فإنّه لا يجد في نفسه الدافعيَّة الكافيّة التي تحركه للوقوف عليها إلى جانب من يدعي بأنّه أخوه.
إنّ الله بالغ أمره، والمخرج من هذه الدوّامة لن يكون سوى القرآن المجيد، فهو الذي سيقود العربيّ والمسلم في هذه المعركة الشرسة الطويلة المفروضة عليه حتى يكتشف أنّ كل ما كان يمنّي نفسه به من عيش مرفَّه آمن مسالم في ظل ما استورده أو فرض عليه من حضارة الصراع لم يكن إلاّ سرابًا خادعًا، وأنَّ عليه أن يكابد ويكد ويجتهد ليكتشف من داخل البنية القرآنيَّة “المنهج البديل” لنفسه وللعالم على مستوى التحديّات المعاصرة ليتحقق السلم، ولتشرع أبوابه بمنهج القرآن لا بسواه: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ﴾ (الرعد:14).
إنّ حملة القرآن الذين سينقشع عنهم غبار المعارك ضد العالميَّة الوضعيَّة “عالميَّة العجل الذهبيّ الذي له خوار” سوف لن تبحث عن معاني القرآن في كتب المفسّرين والمؤولين فتضيع بين تفسير آثاري، وتفسير إشاري، وثالث باطني ورابع بياني، بل سيتجهون إلى مكنون القرآن ذاته، بحثًا عن “المنهج القرآنيّ البديل” في بناء الأمم وإقامة الحضارات وكيفيَّة “الجمع بين القرائتين” لمعرفة الخطوط المميّزة بين فعل الغيب وفعل الإنسان واستجابة الطبيعة المسخّرة وكيفيَّة الإمساك بنواصي السنن والقوانين التي تقود عمليّات التسخير وتحددها. سيوجد –آنذاك- العلماء الذين لا يقتصرون على علم سطحيّ ظاهريّ ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ (الروم:7) فيملؤهم ذلك العلم الظاهراتي غرورًا واستعلاءًا واستكبارًا في الأرض ومكر السيء، ليرفع أحدهم عقيرته بقوله: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ (القصص:78) بل ذلك العلم الذي كلما ازداد العالم فيه رسوخًا ازداد لله خشية: ﴿كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (فاطر:28).
“علم قرآنيّ سوف يضيّق الشقة بين مكنونات المنهج القرآنيّ وعقليّة الإنسان المعاصر الذي يعيش واقعًا له مكوّناته وشروطه الاجتماعيّة والفكريَّة والحضاريَّة والثقافيَّة، وسوف يرتقي ذلك النوع من العلم بالإنسان ليجعل منه كائنًا كونيًّا؛ فقد كان الإنسان ذرّة في هذا الكون الفسيح ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ (الإنسان:1-2)، ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾ (نوح:14)، ﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا﴾ (نوح:17)، ﴿خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ﴾ (الرحمن:14) فهو أن الكون تخلق أولاً في رحم “البيئة الكونيَّة”، ثم انتقل إلى أرحام الأمَّهات وبالتالي فإنّه مؤهل بنشأته تلك للالتزام “بالمنهج الكونيّ القرآنيّ” وبذلك سوف يصل بالتدبُّر والتفكّر الدائمين إلى مستوى الحكمة ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ (البقرة:269).
إنَّ ما نقوله لن يعجب الوضعيّين؛ لأنّهم سيرون فيه اقتحامًا دينيًّا أو غيبيًّا لاهوتيًّا لتخصّصات كانوا يرونها مغلقة على “العلمويَّة الوضعيّة المجرّدة”. وفي الوقت نفسه قد لا يريح أولئك الذين اتخذوا من الإسلام إطارًا أيديولوجيًّا لتجمّعات أقاموها لتكون أوعيّة ضيّقة خاصّة تستوعب الإسلام بطريقتها ومنهجيّتها، وتطرحه بالشكل الذي تريد. فتكون هي المهيمنة عليه، لا هو. وكل ما نتمنّاه للفريقين هو ما تمنّاه رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- لقومه: “ربّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون” سائلين العليّ القدير أن يعلموا قبل فوات الأوان.