بقلم أ.د: طه جابر العلواني
2 فبراير 2012
نحن أمَّة عرفت الرياضة والفروسيَّة وأنواع الفنون التي تستثمر طاقات الجسم الإنسانيّ وتساعد على إنمائها منذ حضاراتنا القديمة من فرعونيَّة وبابليَّة وفينيقيَّة، والعناية بتقوية الجسم كانت فنًا من فنون هذه الحضارات كلها توظفه غالبًا للانتصار في الحروب وكسب احترام الأمم وحماية الذات ومقدرات الأمَّة من العدوان أو التفكير به، وابنة شعيب الحكيمة حين رشَّحت موسى إلى والدها ذكرت أهم أمرين يمكن أن يقنعا الوالد بقبول استخدام سيدنا موسى وتوظيفه لديه فقالت: ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ (القصص:26)، فالقوة والأمانة هما المؤهلان الأساسيَّان لبناء الأمم، وإعمار الأرض.
وقد جعل الله –سبحانه- فترة الشباب لدى الإنسان فترة قصيرة بمثابة تفتح الورود التي لا تلبث أن تذبل بسرعة؛ لأنَّ هذه الفترة فترة تقع بن ضعفين: ضعف الطفولة، وضعف الشيخوخة والكهولة، وهي فترة لا تجاوز خمسة عشر عامًا إلى عشرين في الحد الأقصى، وإذا لم تستطع الأمم أن توظف هذه الفترة أحسن توظيف لبناء شخصيَّات شعوبها فإنَّها أمم فاشلة لا يمكن أن تبني حضارة ولا أن تقيم عمرانًا، ولا تحقق أهدافًا، وقد ألفت النظم العربيَّة اصطناع القضايا المختلفة، والمناسبات؛ لتبديد طاقات شبابها وتجهيلهم ودفعهم إلى مهاوي التدخين والمخدرات والمفترات، وما يساعد على انغماسهم وغرقهم فيها؛ لأنَّ أغلب تلك النظم نظم فاسدة، تخشى على شبابها من التعلم الناجح والتعليم السليم؛ فتفسد نظم التعليم فيها، وتخشى من طاقات أولئك الشباب؛ فتعمل على تبديدها بكل ما تستطيع، لم يكن ذلك عفوًا ولا عبثًا ولا خضوعًا لتغيُّرات الأزمان، فالنظم العربيَّة والفاسدة شهدت كيف أطاح شباب فرنسا في الستينيَّات بجمهوريَّة بطل فرنسا غير المنازع “شرل ديجول” بعد أن بدأت تظهر على نظامه ملامح استبداد الشيخوخة والبطولة المستصحبة، فما من دكتاتور أو مستبد في العالم إلا وبدأ في طاقات الشباب، كيف يمكن تبديدها والتخلص منها بعد أن أصبحت أجهزة الأمن الملغومة -التي انحرفوا بها عن أمن الشعب والمواطن؛ ليجعلوها من وسائل أمن النظم فقط على حساب الشعوب وشبابها وطاقاتها- لتخطط تلك الأجهزة مع الأجهزة السياسيَّة الفاسدة والتعليميَّة المنحرفة لتبديد طاقات الشباب؛ فأتحفها الشيطان بفكرة صناعة الصنم الرياضيّ بعد صناعة الأصنام السياسيَّة ثم الفنيَّة، فالأصنام السياسيَّة استطاعت أن تجعل من كمال أتاتورك صنمًا قال شوقي -يرحمه الله فيه:
رفعتك كالصنم المؤله أمة *** لم تسل بعد عبادة الأصنام
وأذكر مقالة قرأتها للرئيس الراحل السادات حين كان يدير جريدة الجمهورية سنة 1954 بعنوان: ليمومبا نبي القرن العشرين -أي باتريس لمومبا؛ لابتذال مفهوم النبوة وتسيله وفصله عن جميع الإيحاءات الإلهيَّة، وذلك أتاح فيما بعد لنزار قباني أن يقول في رثاء عبد الناصر: قتلناك يا آخر الأنبياء، ولا أذكر أنَّني سمعت احتجاجًا لا من الأزهر ولا من سواه على تلك الجرأة الداعرة الكافرة على مقام النبوة، ثم استسهل الناس ذلك حتى قال ميشيل عفلق لشباب حزبه: “كان محمد كل العرب فليكن اليوم كل العرب محمدًا”؛ لكي تذوب الفوارق بين النبوة وغيرها، ويصبح في مقدور السياسيّين أن يضفوا على أنفسهم ألقاب التأليه والنبوة والرسالة؛ إمعانًا في خداع الجماهير، وتجهيلها، وقيادتها إلى المصائر المجهولة بأيدي تلك الأصنام المتألهة، واستمرأ الناس ذلك وابتلعوه، فأضفوا على صدام الزعيم الضرورة وعلى حافظ الأسد ومعمر القذافي، ولم يبخل بعض محترفي الكتابة الصحفيَّة من إضفاء ألقاب مماثلة على آخرين، وبعد أصنام السياسة جرى الاهتمام بأصنام الفن، وبدأ يشيع بين أبناء الأمَّة التي تنسب إلى الإسلام “فلانة معبودة الجماهير” لجمال ساقيها، وإتقانها حرفة التعري، وإبراز ما في جسدها الفاني من جمال، وأصبحت أفيشات السينما لا تتردد من إضفاء هذه الألقاب على ذلك النوع من المنحرفات، كما أنَّ لقب بطل نُقل من مفهومه القتاليّ الذي يتضمن معاني الشهامة والفروسيَّة والإقدام والتضحية وما إلى ذلك إلى من يطلق عليهم “الفنانين” الذين كانوا أجدادنا يطلقون عليهم “المشخصتيَّة”، ولم يعد منكرًا أو زورًا من القول والفعل أن يقدم المخنثون والمنحرفات لشبابنا باعتبارهم النماذج والقدوات التي ينبغي التأسي بها والنسج على منوالها؛ لتصبح الفنانة فلانة نموذجًا أمام كل فتاة في عالمنا فتقلد في كل شيء، في عريِّها وتهتكها أحيانًا وقصة شعرها ونفخ أثدائها … إلخ، بل تقلد حتى في إسرافها في الزواج والطلاق، وتتابع أخبارها؛ لمتابعتها من قبل الشابّات والشبان في أدق التفاصيل بما في ذلك دخول الحمام والاستحمام، فلا غرابة أن يصبح هؤلاء هم المثل العليا، ومن يقتدى بهم وبهن ومن يتأسى الشباب بهم وبهن؛ لينصرفوا إلى ذلك العبث الذي أطلقوا عليه بتعميم عجيب فنونًا، وبعضه مجون لا فنون.
ثم جاءت موضة أبطال الرياضة بدء من عبيدي بيليه البرازيلي، ثم مردونا الأرجنتيني، ثم بدأت ألقاب البطولة تغمر العالم العربيّ حتى حسد هؤلاء أساتذة الجامعات الكبار الذين فيهم أناس لا يقلون في مستوى علومهم عن الدكتور أحمد زويل وأمثاله، وإن لم تتح لهم الفرص ليبرزوا قدراتهم تلك في هذا العالم العجيب، أصبح هؤلاء يتمنّون أنَّهم لو كانوا من نجوم الكرة لا من نجوم العلوم والمعرفة حتى قال بعضهم مازحًا: أمضيت أربعين سنة في التعليم والتعلم ومراكز البحوث أقذف بكرات العلم إلى المجتمع فلم يكافئني كما يكافئ شابًا على ركلة قدم يدخل بها كرة في المرمى، وحين برز البترودولار في ساحاتنا -وبعض ما استخرج من بطون أرضنا كان نقمة علينا- صرنا نشهد عمليَّات استيراد المدربين للاعبي الكرة بملايين الدولارات وشراء اللاعبين بملايين الدولارات كذلك، وصرنا نتدافع لنرشوا الفيفا وغيرها لتقيم بعض الأنشطة على أرضنا، كل ذلك من أجل تفريغ طاقات شبابنا والتخلص من أخطارها. ومع كل ذلك فلقد قاد الشباب في مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريّا ثورات التغيير، ولم تنجو رؤوس الأنظمة من تلك الثورات رغم اختراقها لتجمعات الشباب وجهودها المتصلة لتبديد طاقاتها.
إنَّ الإسلام حين جاء كعادته جاء متممًا لمكارم الأخلاق لا مقتلعًا للأخلاق كلها ومستبدلًا لها بسواها، وحين جاء إلى هذه الناحية جاء الأثر المعروف “لا سبق إلا في خف أو حافر”. فحاول أن يعطي منظورًا في الرياضة يجمع بين تقوية الشباب، واستثمار طاقاتهم، وإحداث تنمية بشريَّة فيهم تبنى بها البلاد، وتعمّر فيها الأرض، وتستثمر تلك الطاقات الهائلة لدى الشباب في عمليَّات العمران والإبداع والإصلاح والتغيير، وكان سيدنا رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلَّم- ربما يشجع بحضوره وتوصيَّاته على تلك الأنواع من الرياضات النظيفة الجامعة بين خيري الدنيا والآخرة.
فللإسلام مذهبه في الرياضة والفنون والآداب والترويح عن النفس، وكان الأمل كبيرًا في مؤسسات التعليم الديني أن تكشف فيما تكشف من كنوز الإسلام عن هذه الخيرات الكامنة فيه؛ لتكون وسائل هداية للأجيال الطالعة لا تسمح بأن تبدد طاقاتها وتدمر بذلك الشكل. فوالله إنَّ طاقات الشباب وقدراتهم وقواتهم والعنفوان الذي يحملونه في هذه المرحلة أهم بكثير من الثروة البتروليَّة أو الغازيَّة أو أيَّة معادن أخرى بما فيها الذهب لو عرفت الأنظمة والشعوب كيف توجهها وكيف تستغلها.
إنَّ الذي حدث ليلة أمس في إستاد بورسعيد أثناء مباراة الأهلي والمصري أمر خطير في كل المقاييس، يدل على أنَّ عمليَّات الاحتقان والإحباط في نفوس الشباب كانت عالية، وأنَّ عمليَّات التزوير التي حاولت الأنظمة أن تقوم بها في تزييف معاني البطولة والفروسيَّة لم تفلح في إزالة الإحباط والاحتقان من نفوس هؤلاء الشباب، وأنَّ الانحرافات السياسيَّة التي أدت إلى إنماء الفئويَّة وتهيئة طاقات الأمَّة للشرذمة والتقسيم تحولت إلى مرض عضال يصعب استئصاله؛ فصارت قبائل التشجيع الكرويّ قبائل وطوائف يمكن أن تتحارب كما يتحارب الشيعة والسنة، ويمكن أن تتناقض وتختلف وتلجأ إلى العنف بأقسى ما تستطيع؛ لتفرغ ما لم تستطع تفريغه بكل تلك الوسائل التي استعملت لحد الآن، إنَّ عدد الضحايا مهول، فوقود الثورة لم يجاوز أرقام الضحايا بكثير، ولكن أين شهداء الثورة والذين أصيبوا فيها من هؤلاء الذين قضوا دون هدف أو غاية فكانوا ضحايا الانحراف والإحباط واليأس الذي يعبر عن نفسه بأسوأ وسائل التعبير.
يا قوم إنَّ مشاكل الشباب غير مشاكل الأعمار الأخرى، إنَّها تحتاج إلى العقول المخلصة التي تعرف كيف تخطط لتوظيف تلك الطاقات وتحول بينها وبين التفجر العشوائيّ الذي لا يأتي بخير، ونقترح ما يلي:
- إعادة النظر في وزارات الشباب، واستقطاب أفضل العناصر المفكرة في البلاد؛ للتخطيط لهذه المراحل، وتحديدها من واقع احتياجات البلد وعمقه الاستراتيجيّ وما يحتاج إليه، ينبغي أن يخرج أولئك المفكرون وقادة الرأي بخطط تنمي هذه الطاقات وتحسن توجيهها واستثمارها لصالح البلاد والعباد.
- لابد من تغيير نظرة جميع المتصلين بالعمل الحكوميّ إلى طاقات الشباب، والنظر إلى الشباب على أنَّهم إمكانيَّة وربح للأمَّة، وأنَّ طاقاتهم وقدراتهم هي ثروة لا تقدر بثمن ينبغي المحافظة عليها، ويحال بينها وبين التبديد في أي مجال، وتدرس عينات مختلفة من الشباب في الأرياف والمدن والقرى والكفور دراسات نفسيَّة واجتماعيَّة لرصد عوامل الإحباط والاحتقان التي تتفجر أو تتبدد بهذا الشكل الخيانيّ.
- إعادة بناء المفاهيم المتعلقة بالرياضة بناءً إسلاميًّا عربيًّا مصريًّا يستلهم التاريخ والحضارة والجغرافيا دون أن ينفصل عن المعاصرة، وينبغي أن نكون مصدرًا لتصحيح المسار الرياضيّ في الكرة الأرضيَّة لا مسرحًا لتجارب الشعوب الأخرى استقامت أو انحرفت.
- استلهام روح شباب ثورة 25 يناير وشعاراتهم وطريقة حياتهم خلال الأسبوعين الأوليين في الميدان، لتصحيح مسار الحركات الشبابيَّة في البلاد وفقًا لتلك السلوكيَّات التي ينبغي أن تشاع وتبرز وتعطى فرصة الانتشار بين الشباب والشابات، فإذا كان الكهول والشيوخ لا يحتاجون إلى مثل وقدوة وأسوة بعد رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلَّم- وقراء وشيوخ أصحابه، فإنَّ الشباب في حاجة أكبر إلى الأسوة والقدوة في ذلك الجيل، على أن يتم تحديثها والإضافة إليها من جيل لآخر؛ لتستجيب لحاجات الأجيال في سائر الأماكن والعصور، فلا تنحرف ولا تسقط.
- لابد لشعوبنا من أن تتوب إلى الله توبة نصوح فتحتضن الشباب من جديد، فتصلح لهم نظم التعليم، وتتبنى أحسن ما في التعليم المعاصر من نظريَّات تمنح هؤلاء الشباب الكفاءة والقدرة وإصلاح نظم الحياة والعناية بالتنمية البشريَّة، وتحويل جميع النوادي الرياضيَّة إلى ورش عمل للتنمية البشريَّة والتدريب على مختلف القدرات الصناعيَّة والزراعيَّة والفنيَّة والترويح الهادف؛ لنستعيد شبابنا ونحفظ طاقاتهم لبناء ذواتنا وبلداننا.
- هناك دراسات كثيرة في تراثنا حول الفروسيَّة، وأخلاق الفروسيَّة، نجدها تتناول عصور ما قبل الإسلام والعصور الإسلاميَّة ثم ما تلاها، لابد من تشكيل لجان من العلماء والمؤرخين القادرين على استخلاص برامج وعبر ودروس للتربية والتنمية. ومن المعلوم أنَّ أهل مدينة مكة وما ماثلها من مدن العرب كانوا يبعثون بأبنائهم وهم صغار إلى قبائل بدويَّة تعيش في البادية؛ ليتربوا هناك حتى يبلغوا سن التمييز ويتجاوزونه، وذلك لتحقيق فوائد كثيرة لم يكتشفها التربويون المعاصرون بعد، ونتمنى أن نعرف كل تلك الاتجاهات؛ لكي نتعلم منها كيف نبني أنفسنا بناء يستهدي بتاريخنا وتراثنا، ويستمد من إضاءاته لتشكيل حاضرنا ومستقبلنا.
- إنَّ القرآن المجيد قد حفل بالآيات الكريمة والقصص الحكيمة التي تتحدث عن هذه المرحلة العمريَّة، وطاقات الشباب، وضرورة استثمارها، وكذلك السنَّة النبويَّة ملأى بالأحاديث الصحيحة التي تدعوا إلى اغتنام فرصة هذه المرحلة العمريَّة لا لبناء الذات والأسرة فقط بل لبناء الأمَّة.
- إنَّ خصومنا وأعدائنا قد استهتروا بدماء أبنائنا، وصار ممثلونا إذا ذهبوا إلى المحافل الدوليَّة يشتكون من قتل إسرائيل لبعض الفلسطينيين أو لقتل بعض جنودنا أو شرطتنا على الحدود يمطون شفافههم لتلك المحافل الدوليَّة ويقولون أنظروا إليهم كيف يقتل بعضهم بعضًا لأتفه الأسباب، ويموت منهم بالعشرات بل المئات أناس في حوادث الطرق، وفي المناسبات التافهة مثل هذه دون حسيب أو رقيب، لقد آن الآوان لكي يشعر الناس بقيمة الدم، وأنَّه غال جدًا جدًا، أغلى من أي سائل على وجه الأرض فلا يستهترون بإراقته ولا يغفلون عن حمايته، فكفانا استهتارًا بإراقة الدماء والاستهانة بالدم المسلم والعربيّ والمصريّ.
فهل نطمع أن تحدث تحولات في وزارات الشباب العربيَّة والأندية الرياضيَّة في العالم العربيّ والإسلاميّ لإحداث هذا التغيير، نأمل ذلك ونرجوه وإنَّا لمنتظرون.