Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

قراءة معاصرة للسنَّة النبويَّة المطهرة

نموذج دراسي

أحاديث الفتن

أ.د/ طه جابر العلوني

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه ومن تبع سنته ودعا بدوعته إلى يوم الدين:

وبعد: فإنَّ الجو الفكري المهيمن على ديار الإسلام جو شديد الاضطراب، بالغ القلق منذ فترة ليست قصيرة وما زادته الأحداث إلا قلقًا واضطرابًا.

ولقد استبد بي القلق وأنا أنظر إلى الشباب المسلم في كل مكان تستبد به الحيرة، وتتراقص على شفاهه آلاف الأسئلة والأصوات المختلفة المتناقضة والفتاوى المتنوعة تقتحم أسماعه ليل نهار وتعرض على عقله ومشاعره عودًا بعد عود، وتنكت في قلبه شتى ألوان النكت من سوداء حالكة السواد إلى بيضاء ناصعة البياض.

فإذا جعل هؤلاء الشباب أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم. فإنَّ الصحف والنشرات، وبيانات المؤتمرات، وإعلانات الجمعيَّات تقتحم عليه مكتبه أو داره أو مدرسته لتضع نفسها بألوانها المختلفة تحت أنظاره محاولة فتنته، ولم يعد مستغربًا أن تجد هؤلاء الشباب ممزقين بين المسموعات والمبصرات وما تأتيهم به من دعاوى وفتاوى لا تغادر ما تعتبره دليلا أو شبه دليل ليقف في الصباح موقفًا لا يلبث أن يتراجع عنه في المساء، فإذا وقف في المساء موقفًا فإنَّه لا يلبث أن يطلع عليه الصباح فيضطره إلى موقف مغاير وهكذا هو.

      وقد زارني بعض هؤلاء الشباب فقال أحدهم: إنَّنا نحفظ فيما حفظنا من السنن قول رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم-: “قد تركتم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك” فهل هذا الحديث صحيح أو غير صحيح، وإذا كان صحيحًا كما قد علمونا فأين هي المحجة البيضاء التي تركنا عليها؟ وما هو الموقف الذي يرضاه الله ورسوله لنا من هذه القضايا تتتابع تتابع العقد الذي انفرط نظامه. ونحن لا نريد الغوص إلى مداخل التاريخ البعيد، فنحتاج إلى التوثيق التاريخي لتلك الأحداث وما أعزه، وهب أننا توصلنا إلى ما نوثق به بعض تلك الوقائع فمن لنا بتوثيقها كلها، ثم من لنا بالاتفاق على ذلك التوثيق؟

     كما أن في الأحداث المماثلة أمامنا وما اتصل بها من أسباب ومقدمات وما يكفي للتدليل على التمزق الفكري، واضطراب المواقف في أمتنا، والقول بالشيء وضده، والأمر ونقيضه مما يجعل المراقب لأحوال أمتنا يصعب عليه أن يقول: إنَّ هذه الأمّة على محجة بيضاء، والحق أنَّ أمتنا من المستبعد أن تكون مدركة أنَّها على محجة بيضاء، أو تعرف السبيل إلى سلوكها وإلا لما رضيت لنفسها سلوك تلك المتاهات والضلالات.

فهل ابتليت هذه الأمَّة بما ابتلى به بنو إسرائيل، وهل أصبح موقفها من مصادر هدايتها مثل ذلك الموقف المشار إليه بقوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (الجمعة:5). فلم تعد تفهم القرآن الذي تعرف أنَّه كتابها وقد يهدي للتي هي أقوم وإن كانت تعرف أنَّه كتابها وقد تردده أو يردد عليها صباح مساء.

وكذلك السنَّة النبويَّة المطهرة وهي الجانب الآخر من مصدري الهداية الذين يكونان المحجة البيضاء لم تعد تفهمها، ترى هل أجبت بما أجيب به ذلك الذي أتاه الله آياته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين، فأخلد إلى الأرض واتّبع هواه، وأنّ حبّها للدنيا وكراهيتها للموت، واضطراب السبل أمامها جعل بينها وبين مصادر هدايتها حاجزًا وبرزخًا، فلم تعد قادرة على تجاوزه لتفهم مصادر الهداية، وتدرك مقاصد الشارع الحكيم فتعي ذاتها، وتعي مواقفها، وتدرك واجباتها.

أين هي أمتنا من المحجة البيضاء يوم انشغل المسلمون ببعضهم قرونًا وتقاتلوا حتى اضعفوا آخر رمز لوحدتهم، وهي الخلافة العثمانية الأخيرة فأودوا بها ليتحينوا الفرصة لأعدائهم ليمزقوا دولتهم إلى حصص تحولت إلى محميات ومناطق انتداب ونفوذ؟

وأين هم من المحجة البيضاء يوم أعلنت الثورة العربية ضد الأتراك المسلمين بتحريض ودعم من الإنجليز؟

وأين هم من المحجة البيضاء يوم تقاتل آل سعود والأشراف؟

وأين هم من المحجة البيضاء يوم ألغوا الخلافة وباعوا تأييدهم لبقايا يهود الدونمة وألجئوا آخر سلطان من سلاطين آل عثمان ليحتمي ببارجة إنكليزية كان يقاتل أصحابها قبل أيام؟

وأين هم من المحجة البيضاء يوم غفلوا عن وحدة الأمَّة واستسلموا لدعوات الجاهليَّة فأقاموا الحكومات الإقليميَّة والقوميَّة وتفشت بينهم سائر الدعوات الضالة المضلة التي انتشرت عند غيرهم؟

ثم أين هم من المحجة البيضاء يوم غفلوا عن فلسطين حتى تسلمها اليهود وأقاموا دولتهم فيها وبدأوا يعدون العدة لإقامة دولتهم الكبرى التي يريدون بسطها من النيل إلى الفرات؟

وأين هم من المحجة البيضاء يوم انتشرت فيهم دعوات الإلحاد، وتحزبوا حولها أحزابا، وتحولوا لها أنصارًا حتى تلك الأحزاب التي تتنكر لوجود الخالق الفرد أو تؤمن بالماركسية اللينينية بتطبيق عربي؟

وأين هم من المحجة البيضاء حين أثاروا حرب اليمن التي استنزفت إضافة إلى أرواح وطاقات أبناء اليمن إمكانات مصر والسعودية كذلك.

وأين هم من المحجة البيضاء يوم ولوا إسرائيل الأدبار في ستة أيام ولكن حرب البعثيين السوريين في لبنان امتدت إلى 14 سنة، وحرب البعثيين العراقيين في إيران امتدت ثماني سنوات حتى أهلكت ما يقرب من مليوني من شباب البلدين، واستهلكت من أموال البلدين وأموال الخليجين أكثر مما استهلكه العالم في حربه الكونية الثانية؟

ولم تكد تلك الدماء تجف حتى بدأت التحركات البعثيًّة العراقية باتجاه الكويت لتجتاحها، وإذ بحكام الجزيرة العربية يفزعون إلى الولايات المتحدة يطلبون حمايتها، وإذا بالجزيرة العربية تمتلئ بالقوات الأمريكية والفرنسية والبريطانية إضافة إلى بعض القوات العربية، رافقت هذه الفتنة المأساة التي بدأت يوم 2/8 حرب من نوع آخر هي حرب الفتاوى والتراشق بالنصوص الإسلامية والشعارات الإسلامية بشكل لم يسبق له مثيل في الفتن السابقة؟ فهل لنا من مخرج من هذه الحيرة أو منقذ من الفتنة؟

وهل صحيح يجب على المسلم أن يقف مع إحدى الطائفتين؟ ومن هي هذه الطائفة التي يجب الوقوف معها؟

وأين نحن من البديل الإسلامي الذي كنا نرتقيه ونتطلع إليه؟

وهل في الكتاب والسنة ما يمكن أن يهدينا سواء السبيل في هذه الفتنة وأمثالها؟

وماذا عن الصحوة الإسلامية والمستقبل الإسلامي الذي كنا نظنه قد أصبح قاب قوسين أو أدنى، وهل بعد هذا الشر من خير؟ وهل عادت المنطقة إلى فترة احتلال جديد يتمثل بقواعد عسكريَّة بحرية وبرية واحلاف تضاد إلى وجود الكيان اليهودي الصهيوني الاستيطاني في فلسطين؟

وما المخرج من هذه الفتن –كلها- أهي العزلة، أهي الدعوة أهو الجهاد وبكل أنواعه أم ماذا؟

وهل في آيات الكتاب أ وأحاديث المصطفى (صلى الله عليه وآل وسلم) ما يشير إلى بلوغنا هذه الحالة؟ وإذا كان ذلك فهل هناك ما يشير إلى خروجنا منها وظهور ديننا وتحقق صحوتنا ويقظتنا، وتحررنا من سيطرة ونفوذ أعدائنا؟

كل هذه الأسئلة وكثير غيرها تتردد على ألسن الشباب، ويبحثون عن جواب لها أو صياغة تجعل الجواب عنها ممكنا على أقل تقدير!!

وللجواب عن بعض هذه الأسئلة أو صياغتها بشكل يساعد على تقديم إجابة عنها بدأنا دراسة النصوص المتعلقة بالفتن، ومحاولة قرائتها بمنهج آخر غير المنهج الذي درج عليه شراح الحديث النبوي المتقدمون، فلقد درج المتقدمون على قراءة هذه الأحاديث باعتبارها من “دلائل النبوة” ولم يربطوا إلا قليلًا هذه النصوص بوقائع التاريخ ومن فعل فإنَّما يشير إلى الوقوع والتحقق ليقوى الجانب الغيبي فيها ويعزز الاستفادة بها في مجال “دلائل النبوة وأعلامها”.

ولا شك أنَّ هذا الجانب مهم ولابد من ملاحظته وعدم اغفاله، لكن محاولة قرائتها على أنّها قراءات نبوية للمستقبل هو الجانب الأهم، ولكي يتضح هذا الجانب فلابد من ربط هذه النصوص بوقائع الحياة والتاريخ واستخلاص الدروس والتحذيرات والانذارات والمبشرات منها للمستقبل، فإنَّ ذلك يشكل جانبًا مهمًا من الجوانب التي تساعد الأمَّة الإسلاميَّة على تسديد مسيرتها وترشيد حركتها باتجاه المستقبل، والاهتداء بها في المواقف المختلفة.

كما أنَّ هذا الاتجاه في قراءة هذا النوع من النصوص يعزز اتجاهات التحرك الإسلامي الإيجابي لمعالجة الأحداث ويضعف الجانب الجبري الاستسلامي الذي كثيرًا ما تتجه إليه مشاعر الأمَّة وعواطفها عند غشيان الفتن والكوارث لها. ولعل هذا من أهم مقاصد الشارع الحكيم من المبشرات والنذر.

إنَّ إرث المسلمين في هذه الجانب كثير جدا، ومتعدد الجوانب، وهو أكبر بكثير من تراث الأمم الأخرى وأدق وأصح وأصلح، ومع ذلك فإنَّ الأمم قد وظفت ما لديها من تراث في هذا الجانب، واستطاعت بناء نهضتها، أو الخروج من بعض أزماتها، وتحقيق الهام من أهدافها. أمَّا المسلمون فإنَّ القراءات الخاطئة لهذا التراث –على تنوعه وأهميته وجلالة قدره-كثيرًا ما حولته إلى عامل سلبي معيق لحركتها، ومقعد لأبنائها يخفى أنّ دولة إسرائيل إنَّما قامت على نبوءة من هذا النوع عرف مفكرو اليهود وقادة الرأي منهم وكيف يقرؤونها ويوظفونها ويعززونها بنبوءات التوراة والتلمود الأخرى، وعرفوا كيف يستغلونها لتحريك المشاعر اليهوديَّة، وتحويلها إلى حركة دائبة شكلت واقعا متحرك يتمثل في دولة الكيان وتحققت به أهدافهم، وعرفوا كيف يسخرون القيادات النصرانية ودولها لخدمة أهدافهم تلك من خلال أفكار بثوها كانت نواتها تلك النبوءات التي وفروا بها بيئة ملائمة لنفوذهم وتحركاتهم، ورسخوا على ضوء منها مجموعة من الولاءات والعلاقات والأفكار في عقول القادة الغربيين تحولت مع الأيام إلى معطيات أساسية في بناء ورسم وحركة الاتجاهات السياسية –أهمهم خصومهم لدى الكثيرين من أصحاب القرار في العالم الغربي والمساعدين في إعداده.

لقد غفل المسلمون أو أغفلوا النظر في هذا الجانب وأوهموا أو توهموا أنَّ الغرب علمانيّ لا دينيّ، قطع بينه وبين دينه أو أديانه سائر الوشائج، وأنَّه لم يعد للدين أثر في البيئة السياسية يذكر: مؤثرة في نظر الغافلين –لا يجاوز أو يتجاوز البيئة الدينية والكنسية إلا إلى البيئة الثقافية وبشكل محدود جدا.

وربما ساعدت بعض القيادات الفكرية الغربية نصرانية أو يهودية على تعميق هذا الشعور لدى المسلمين إمعانا في تضليلهم عن أهميَّة هذا الجانب والاستفادة به وتوظيفه.      

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *