Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

ظاهرة دورات التدبُّر في العالم الإسلامي

أ.د/ طه جابر العلواني

منذ عقود من السنين تنبَّهت أعداد كبيرة من الدعاة المتصلين بحركات إسلامية أو المستقلين إلى إفلاس معظم البرامج التثقيفيَّة التي تبنّتها الحركات الإسلامية المعاصرة منذ بدايات القرن الماضي وفقدان تلك البرامج الفاعليَّة المطلوبة لتقديم ما من شأنه تحريك طاقات الأمّة المسلمة، وتجديد خلاياها وحضّها على تبني مشروع نهوض إن لم يكن موحدًا فلا يكون مختلفًا فيه وعليه إلى الحدود التي تجعل الأمّة في حالة اختلاف وصراع مع الذات بشغلها عن ذلك ويبدد طاقاتها في الصراع الداخلي حوله، وقد تندفع نتيجة لذلك إلى مزيد من اليأس الذي لم تعد بحاجة إلى مزيد منه.

وحين أدرك الناس ضعف تلك البرامج، وبرزت مجموعات الدعاة الجدد، وأطروحاتهم المتعددة ظهرت على أيدي بعضهم أفكار “التدريب” و “دورات التدريب” التي تأخذ عناوين جذابة يؤخذ بعضها من التراث مثل “دورات الرواحل” التي استقوا عنوانها من الحديث الشائع: ” إنَّما النَّاسُ كالإبلِ المائةِ ، لا تكادُ تجِدُ فيها راحلةً “[1] وبعضها أخذ من المعاصرة مثل “دورات التدريب القياديّ” و “دورات التنمية البشريّة” وما شاكل ذلك. وصارت تقدَّم فيها برامج تتناول الإبداع The creative Thinking  وكيفيَّة التغيير في سلوكيَّات الناس، وعاداتهم نقلت من ثقافة الـ Business   في الغرب إلى قضايا الأفكار ببعض التعديلات، واستخدمت فيها المعارف الإسلاميّة وتلاقت فيها جهود بعض شباب الفقهاء مع بعض شباب المفكرين لتتضافر جهود الفريقين في أعمال مشتركة بعد أن كانت القطيعة بين الفقيه والمفكر قد بلغت مداها.

وكعادة بلداننا وشعوبنا المأزومة الممزّقة بعد أن تقطع أشواطًا تطول أو تقصر في شيء ما ولا تحصل على نتائج عاجلة سرعان ما يدركها الملل، ويدبّ اليأس إلى نفوسها من جديد لتتركه وتبحث عن سواه، لأنّ التخلف والقلق وعدم وجود القيادات القادرة على تعليم الجماهير الأفكار والصبر عليها إلى أن تتجاوز المراحل الجنينيَّة، والحضانة والطفولة وتأخذ دورتها الطبيعيَّة في تدرج ملائم إلى أن تبلغ مستوى استقطاب طاقات الأمّة وتفجيرها في وقت مناسب لإحداث حالة الوعي بالإصلاح والتجديد، ثم ممارسة الإصلاح والتجديد، ثم التقويم والتسديد … إلى بلوغ المرحلة النهائيَّة المشار إليها، وهنا تعلو بعض الأصوات من هنا أو هناك بطرح جديد في شكله أو أسلوبه أو موضوعه فينعطف الناس إليه حتى حين. وهكذا … .

وقد تنبه دعاة كثيرون من حركات إسلاميَّة سابقة ومستقلون كذلك إلى أنّ مرجعية القرآن المجيد –خاصة لم تأخذ حظها من الاهتمام في بناء عقليات حملة الدعوة فأملى محمد عبده (ت:1905) دروسًا في التفسير جمعها رشيد رضا وأضاف عليها لتصبح “تفسير المنار” فكتب ابن باديس “مجالس التفسير” وكتب آخرون منهم وكتب المودودي كتابه “تفهيم القرآن” للجماعة الإسلامية في القارة الهندية. وكتب سيد قطب تفسيره “في ظلال القرآن” وتبعه سعيد حوى في كتابه “الأساس في التفسير”، وكان لدروس الشيخ محمد متولي الشعراوي في التفسير أثر جعل الكثيرون يلقبونه بمقتضاه “إمام الدعاة” و “مجدد القرن” وما تزال الفضائيَّات تستبق لتقديم تلك الدروس معادة لشدة اهتمام المستمعين، وكتب الشيخ الغزاليّ تفسيرًا موضوعيًا وكتب الخولي وزوجته بنت الشاطئ ومحمد المدني وغيرهم.

وفي الجانب الشيعي صدرت كتب كثيرة منها كتاب محمد باقر الصدر “المدرسة القرآنيَّة” وكتاب المدرسي “من هدى القرآن تفسير كامل” و “الصادقي” وغيرهم، لكن ما ذكرنا وما لم نذكر يصنف في كتب التفسير، فهي كتب تفسير أعدت وفقًا لقواعد التفسير واتجاهات المفسرين لكن أصحابها لم يعدموا الوسائل لتحميل تفاسيرهم كثيرًا من أفكارهم ورؤاهم الخاصة، وإذا عرفت التصانيف السابقة في التفسير ستة أنواع من التفسير، هي: التفسير الآثاري، والتفسير الإشاري، والتفسير العقلي، والتفسير البيانيّ، والتفسير الموضوعيّ، ثم التفسير العلميّ، فقد نضيف إليها صنفًا سابعًا هو “التفسير الدعوي أو الحركيّ” وهناك “التفسير الفلسفي” الذي حاول الجابري قبيل وفاته الكتابة فيه بطريقته هو، ويعتزم أبو يعرب المرزوقي إصدار تفسير فلسفي كذلك، وهناك تفاسير عدديّة ورقميّة ورياضيّة صدرت عن بعض العلميين بصيغ متنوعة ويعمل بعض الروحانيين على إعداد وإصدار تفاسير وجدانية تقوم على نوع من التدبر بطرق قريبة من طرق بعض مشايخ الطرق الصوفية في خلواتهم المتنوعة، لكن هذه الخلوات تركز على تدبر القرآن، وكثيرًا ما يكون هناك مرشد يوجه المتدبرين للوسائل والطرق التي تجعل تدبرهم محققًا للأهداف!! وتفاسير الصوفية عموما تتسم “بالإشارية والرمزية وتقوم على الذوق والوجدان، وما ينطلق من هذه المنطلقات لا يعد مما يصلح للتعميم، ونحن نرحب بكل أنواع التدبر، فأيّ فعل يؤدي إلى نبذ حالة القطيعة بين القرآن والأمّة مرحب به، لكن الموجهين والمرشدين الذين يشرفون على حلقات التدبّر ودوراتها مسئولون أمام الله ورسوله والقرآن عن إحكام عملهم وضبطه بضوابط القرآن المجيد، وذلك يقتضي ما يلي:

1- تعريف المتدبرين بالقرآن الكريم وحقيقة تلاوته وترتيله، والفروق بين “التلاوة المجرّدة” و”التلاوة حق التلاوة” وقد وردت في القرآن مفرقة، وعلّمها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لقراء جيل التلقي الذين كانوا يأخذون عنه مباشرة، ومعالم هذه التلاوة أن تكون منضبطة بضوابط تلاوة المتلقى الأول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتلاوته (صلى الله عليه وآله وسلم) هي تلاوة لها جانب شكليّ، وجانب معنويّ، أمّا من حيث الشكل فهي تلاوة يأخذ كل حرف منه حقه من الصوت، ويحرص على إخراجه من المخرج الخاصّ به، وتلاحظ الوقوف المأثورة عنه (صلوات الله وسلامه عليه) لما لذلك من علاقة وطيدة في إفادة المعاني، وكذلك الالتزام بالفواصل، وقد يكون من الملائم الوقوف عند كل فاصلة إلا عددًا يسيرًا ومحدودًا من الآيات التي تحتاج إلى الوصل بما يأتي بعدها لتفهم. وإذا كان من الممكن معرفة نجوم السورة من مصادر موثوق بها فمن المفيد للمتدبر معرفة ذلك النجم وما اشتمل عليه وأين نزل، وإلّا فقد يكفي الكشف عن التناسب بين الآيات داخل السورة، وبين السورة وما قبلها وما بعدها، وإعطاء فكرة عامّة عن موضوعاتها بعد تحديد عمود السورة الأساس، وهذا ممّا يمكن الوصول إليه بالتدبر.

كذلك من المهم تعريف “المتدبر المتدرِّب” بعادات القرآن” وأساليبه عندما يذكر أخبار الأمم السابقة، وكيف يقود المتدبّر للكشف عن العبرة والدرس. وعاداته في عرض قصص الأنبياء ومواقف أممهم منهم، وعاداته في إرشاد النبيّ إلى ما يجعله قريبا إلى قلوب المقسطين الحكماء من قومه: ﴿… وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (آل عمران:159)، ﴿.. وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. (النحل:125)، ﴿.. وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ.. (آل عمران:159)، ﴿.. قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا.. (الأنعام:90).

وعاداته في مخاطبة سفهاء قومه الذين يواجهونه بالصد والعدوان ﴿… سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (القصص:55) وعاداته مع الخائضين ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (النساء:140)، ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ (التوبة:65)، ﴿ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (المدثر:45)، وعاداته في عرض الأحكام ومشاهد القيامة، وعرضه لقضايا الألوهيَّة والربوبيَّة والتوحيد والصفات، ففي كل جانب من هذه الجوانب للقرآن عادات لابد لمن يتولى تدريب المتدبرين أن يعرفها ويتقنها ويحرص على تعليمها للمتدبّرين قبل أن يبدأوا خطواتهم الأولى في ممارسة التدبر. كما أن لسان القرآن وإن كان لسانا عربيًا مبينًا فإنه لسان يتّصل بالعربية وينفصل عنها فهو من حيث الجملة يتصل بالعربيَّة أوثق اتصال لكنه ينفصل عنها بما يلي:

1-أنّ القرآن المجيد نزل عن استعمال إلهيّ للسان العربيّ لا بشريّ، وفرق كبير بين الكلمات حين يستعملها الله (تبارك وتعالى) لتكون معبرة عن علمه المحيط بكل شيء، وحين يستعملها الإنسان النسبي، “فالبيان” صفة وسمة لا تفارق اللسان في الاستعمال الإلهي لارتباط العلم الأزليّ بالقدرة الأزلية ﴿ يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (النساء:26) فما من بشر ولا جن ولا ملك يستطيع أن يجعل كلامه تبيانًا لكل شيء، أمّا الباري (سبحانه وتعالى) فقد جعل كلامه تبيانا لكل شيء.

2-ويترتب على ذلك إضافة للتحدي والإعجاز والتفرد بالنظم والأسلوب والطاقات البيانيّة الهائلة، أنّه يجمع بين “التبيان والمكنون” فكونه تبيانًا لكل شيء لا يعني أنّه لا مكنون فيه، بل إنّ كونه كتابًا مكنونًا يعد سمة من سماته ففيه مكنون يتكشّف عبر الزمن ومكنون يتكشّف مع الأحداث، ولذلك فإنّ من يدّرب الناس على التدبُّر لابد له من معرفة ذلك ولفت أنظار المتدبّرين إليه.

3-إنّ القرآن قد نبّه إلى خطورة قراءة القرآن “عضين” أي أعضاء مجزأة على طريقة “ويل للمصلين” ويسكت، فهذا النوع من القراءة يضر بالتدبر، فلابد من تحذير المتدبرين منه.

4-إنّ في القرآن إحكاما وتفصيلا لابد لمن يتولى التدريب على التدبر من معرفة كل منهما بصفاته وشروطه ومعالمه.

5- إن في القرآن ما هو مطلق وما هو نسبي وفي بعض الأحيان يتجاور المطلق النسبي في آية واحدة، ولا يستطيع المتدبر أن يتجاوز ذلك أو يتجاهله، لأن الفرق كبير بين النوعين، والجهل بشيء من ذلك يؤثر سلبا على عملية التدبر.

6- إن هناك أحاديث صحيحة يصدق القرآن عليها ويهيمن وهذه الأحاديث والسنن الفعلية وغيرها لابد للمتدبر والمدرب على التدبر أن يعرفها لأن في بعضها بيانا نبويا للقرآن لا يسعنا إلا الالتزام به، وملاحظته عند التدبر لأنه يعتبر ثمرة تدبر نبي معصوم واتباع نبوي للقرآن ولا شيء يمنع من محاولة فهم منهج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في اتباع القرآن وفهمه وتأويله عمليا، بل إن ذلك سوف يكون جزءا هاما في مجال التدبر يعود على المتدبر بفوائد لا يمكن الاستغناء عنها أو التقليل من شأنها.

7- إن ما ذكرناه وما قد نذكره لاحقا في هذا المجال قد يؤسس لعلم التدبر يمكن أن يبدأ بمثل هذه البدايات البسيطة أو السهلة على أهلها والممتنعة على غيرهم، يجعل من التدبر الوسيلة الأساس في إعادة بناء العقل المسلم، وجعله عقله فعالا مؤيدا بالقرآن المجيد ومسددا به، وإذا لوحظت الضوابط المذكورة فإن كل مدرب مخلص على التدبر سيضيف من خبراته وتجاربه ما يجعل من التدبر علما قرآنيا لا يستغني مؤمن مسلم عنه، بل لا يستغني عنه قارئ للقرآن أيا كان.

8- وإذا استمرت هذه المحاولات الطيبة تجري في إطارها الفردي الوجداني دون ضوابط فإنني أخشى أن نجد أنفسنا في فوضى جديدة يظنها البعض ناجمة عن التدبر وليس الأمر كذلك، لأن التدبر بضوابطه الشرعية لا يأتي إلا بخير، أما هذا الذي قد يشيع الفوضى فإنه مجرد تأملات وجدانية حرة، تخضع للقدرات الإدراكية للمتأمل وثقافته ولغته وسائر مؤثرات عصره وبيئته، فتعميمها في دورات أو كتب أو فضائيات يعد تعميما مما لا يصلح للتعميم، وقد يؤدي لا سمح الله إلى بروز باطنية جديدة أو غنوصية حديثة أخطر ما فيها أنها تدور حول القرآن المجيد، كتاب الله الكوني الخالد.

9- إنني لا أخشى المحاولات الناقصة على القرآن ذاته، فهو كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومنزله (جل شأنه) يغار عليه، ويحميه ولن يسمح لأحد بمصادرة أنوار هدايته ولكنني أخشى على أمتنا وهي في حالة الوهن والغثائية التي تعيشها أن تجتال عن القرآن وتصد عنه وهي لم تؤت إلا من حالات صد قديمة أتت أكلها المر في الصد عن القرآن ودفع المسلمين بعيدا عنه.

10- إن علماء الأمة قد اختلفوا في التفسير وعليه حتى صرح العديد منهم بأنه يتمنى لو اختفت بعض أنواع التفاسير؛ لأن بعضها وكثيرا من أنواع التأويل تحولت إلى حجب ووسائل صد للناس عن القرآن المجيد، ولحد الآن وأهل العلم يناقشون مسألة ما إذا كان التفسير يصلح أن يطلق عليه أنه علم، مع وجود آلاف الكتب والمصنفات فيه وشيوع أهم أصوله، وذلك لشدة وحدة الاختلاف فيه، ولذلك فإننا نتمنى ألا يكون حظ التدبر مثل حظ التفسير، بل نريد التدبر علما منضبطا في قواعده وأصوله وجزئياته سهلا في تعميمه، وتعليم قواعده يؤدي إلى تيسير القرآن للذكر، وجعل التدبر وسيلة أساسا لبناء الوعي لدى الأمة، والأخذ بيدها إلى معارج الخيرية والشهادة من جديد والله الموفق.

وهناك أسئلة تحتاج منا إلى تدبر وتفكر خاصة بهذا الموضوع منها:

 

س1: ظاهرة اهتمام العلميين من مهندسين وأطباء وأمثالهم في دراسة القرآن المجيد، والدعوة إلى تدبره، والاستفادة من بعض المناهج والمعطيات العلميَّة في ذلك، أهي ظاهرة صحيّة أم هي ظاهرة تستدعي مزيدا من الحذر واليقظة؟ لأنّ عقليّات هذا النوع من العلماء صيغت صياغة علمية، وعند إحسان الظن والاقتناع بإلمامهم بالأدوات اللازمة فستكون عمليات تدبّرهم واستنباطاتهم خاضعة إلى تلك الصياغة العلمية ذات الطابع الحديّ، وبالتالي فستكون الهيمنة للضوابط العلميَّة على القرآن فلا يأخذ مجال الهداية والتشريع ولا الوسائل اللغوية واللسانية والتاريخية نصيبها من الاهتمام، وستكون القراءة قراءة منفردة، وهي القراءة الثانية “بالقلم” وتخسر “الجمع بين القراءتين” الذي لابد منه للقيام بتدبر فعّال يمكن أن يقوم على أساس منه مشروع حضاري .

س2: قيام أمثال هؤلاء “بالتدبر” هل سيتجه بالمتدبرين على طريقتهم نحو فهم علمي رياضيّ يحدد معاني القرآن والمراد به بذلك الفهم الموضوعي المحدود؟ ولا يسمح للعقل المسلم بالسياحة الكاملة فيه “بوحدته البنائية”؟ وما خطورة ذلك وما فوائده وأضراره؟

س3: وهل ستنعكس نتيجة لذلك أزمات العلوم والمناهج على تدبّر القرآن؟

س4:لا شك أنّ جزءا من أسباب اختلاف العلماء اختلافهم في فهم الخطاب القرآني ولسان القرآن، وعدم تحديد أو إدراك الفوارق الدقيقة بين اللغة في الاستعمال الإلهي واللغة في الاستعمال البشريّ وقد أدى ذلك إلى لبس واختلافات كلاميّة وأصوليّة وفقهيّة، فكيف سيتعامل هؤلاء مع هذه القضايا في التدبّر الذي يعلّمونه ويدعون إليه؟

س5: لاشك أن لمدارك الناس وقدراتهم الذهنية والعقليّة واستعداداتهم النفسيّة أثرًا كبيرًا في إدراكهم للخطاب وخاصّة الخطاب القرآني، فكيف سيتعامل هؤلاء العلميّون مع هذا الخطاب المعجز، وهم قد تدربت عقولهم ومداركهم على لغة الأرقام والرموز الرياضية والقواعد الصارمة.

س6: كان المتقدّمون من أصحاب المقالات والأهواء والفرق يحمّلون تفاسيرهم للقرآن بما يرون فيه انتصارًا لأهوائهم أو مقالاتهم أو طوائفهم، فهل نتوقع من مثل هؤلاء المهندسين والأطباء وأمثالهم تفسيرات وتأويلات يحملونها باسم “التدبر” للقرآن الكريم لتمريرها إلى عقول أبناء الأمّة؟ وما هي؟ وما آثارها؟

س7: إذا تعددت الفهوم بتعددّ ألوان التدبّر وأنواعها وحدثت موجة كبيرة من أفهام مختلفة كأنها الرأي والرأي الآخرن فهل ستوحي للمسلمين بأنّ الاختلافات والتمزق تلاحقهم في كل شيء بما في ذلك القرآن، وأنّ الأمة قد تنصرف عن القرآن وتدبّره كما انصرفت عن غيره أم ماذا؟ تبّرما بالاختلاف وهروبا منه؟

س8: هل ستبقى طرق التدبّر التي يمارسها هؤلاء العلماء محصورة بين نخب محددّة لا تتجاوزها أو أنّها بحكم دورانها حول القرآن المجيد ستجد طريقها إلى فصائل الأمَّة الكثيرة، وجماهيرها الغفيرة وتقع المحاذير المذكورة آنذاك؟

س9: إنّ بعض هؤلاء يقترح للتدبر شروطا ذوقية وجدانيّة لا يمكن ضبطها، تختلف من إنسان لآخر، ألا يؤدي هذا إلى انتشار الأفهام الفرديّة والذوقيّة والوجدانيّة في كتاب الله ولهذا الأمر ما بعده. وقد يؤدي إلى اختلاف الناس في القرآن وعليه!!

وهل من وسيلة لضبط ذلك؟ والحيلولة دون حدوثه؟

      

[1] الراوي: عبدالله بن عمر، المحدث: البخاري، المصدر: صحيح البخاري، الصفحة أو الرقم: 6498، خلاصة حكم المحدث: صحيح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *